كيف ننصر مسلمي بورما؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

سائل يسأل عن كيفية نَصْر إخواننا المسلمين في بورما، بعد تعرُّضهم للتهجير والتعذيب والقتل.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
السؤال:

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتعلمون ما يَمُرُّ بالمسلمين في بورما؛ مِن اضطهادٍ، وتعذيب، وقَتْل، فكيف نُساعد هؤلاء المسلمين المضطهدين؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فتعلم أخي الكريم أنَّ الأُخُوَّة الإيمانية عقدٌ عَقَدَهُ اللهُ سبحانه بين المسلمين، فمتى وُجِد مِن أي شخصٍ كان - في مَشرق الأرض ومَغربها - الإيمانُ بالله؛ وَجَبَتْ له حقوقُ تلك الأخوَّة؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كونوا عبادَ الله إخوانًا، المؤمنُ أخو المؤمن؛ لا يَظلمه، ولا يَخْذُله، ولا يَحقِرُه»، وقال: «والذي نفسي بِيَدِه، لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه مِن الخير ما يُحبُّ لنفسه»، وقال: «المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا، وشبَّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعِه»، متفق على صحتهما.

حتى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يُقرِّر قاعدةَ الأُخُوَّة وأصولها، وتقريبًا للمعنى وإظهارًا وتعظيمًا لحقوق المسلم على المسلم، وحضًّا على التعاوُن والملاطَفة، وتسهيلًا للفَهْم - شبَّه المؤمنين بالجسد الواحد؛ فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: «مثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسدِ؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسَد بالسهَر والحُمَّى»؛ متفق عليه، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تَتكافَأُ دماؤُهم، وهم يدٌ على مَن سِواهم، ويسعى بذِمَّتِهم أدناهم»؛ رواه أبو داود والنسائي؛ أي: تتساوى وتتعادَل، والإيمانُ هو الموجبُ للمكافآت.

إذا ظَهَر لك هذا سلمك الله، أدركتَ أنَّ مِن حقوق إخواننا المسلمين في بورما علينا نصرةَ المظلوم، وإغاثةَ المَلهوف، والتنفيسَ عن المَكروب، وعَوْنَ المنقطع، وإنقاذَ الضائع، وإكرامَ ذوي القدر، وإيثارَهم وتجشُّم المشقَّة لأجل ذلك، وتقديم الدعم الماديِّ والمعنويِّ بما نستطيع، مهما تَباعَدَتِ الدِّيارُ؛ وذلك لأنَّ آصرةَ العقيدة تَذوبُ فيها الأجناسُ والأوطان، واللُّغات والألوان، فيُوالي المؤمنُ جميعَ أهل الإيمان بالتناصُر على الحقِّ، والتعاوُن عليه، والتآلُف بين المسلمين.

فالمسلمُ الحقُّ هو مَن يُغيث إخوانَه، ويُعينهم على ما حلَّ بهم مِن ظُلمٍ، فإغاثةُ المَلهوف فرضٌ واجبٌ حَتْمٌ؛ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وروى أحمدُ وأصحابُ السنن عن ابن عُمَر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سألكم بالله فأعطوه، ومَن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومَن أتى إليكم مَعروفًا فكافِئوه، فإن لم تجدوا ما تكافِئُوه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه، ومَن استجاركم فأجيروه»، وروى مسلمٌ في صحيحه في باب: فَضْل إعانة الغازي في سبيل الله بمَركوبٍ وغيره، وخلافته في أهله بخيرٍ، عن أبي مسعود الأنصاريِّ، قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُبدِعَ بي فاحْمِلني، فقال: «ما عندي»، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنا أدلُّه على مَن يحملُه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجرِ فاعله»، وعن أنس بن مالك أنَّ فتى مِن أسلمَ قال: يا رسولَ الله، إني أريد الغزوَ وليس معي ما أَتَجَهَّز، قال: «ائتِ فلانًا، فإنه قد كان تجهَّز فمرض»، فأتاه، فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقرئك السلام، ويقول: «أعطني الذي تجهَّزْتَ به»، قال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهَّزتُ به، ولا تحبِسي عنه شيئًا، فوالله لا تحبسي منه شيئًا فيُبارك لك فيه.

هذا؛ وإنَّ مِن أعظم العبادات وأجَلِّ القرُبات: سدَّ الفاقات، وقضاءَ الحاجات، ونصرَ المظلوم، وإغاثةَ الملهوف، وتخليصَ المظلوم، وإخزاءَ الظالم المُعتدي، وإبطالَ باطلٍ، ودَفْعَ الكفار عن المسلمين؛ ففي صحيح البخاري عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا».

فالواجبُ على جميع المسلمين مدُّ يد العون لمسلمي بورما؛ كلٌّ حسب وُسعه، وطاقته، وسعتِه؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم»، متفق عليه.

كما يجب علينا أيضًا صِدْقُ الالتِجاء إلى الله تعالى، والانْطِراحُ والانكسارُ بين يديه سبحانه، والتذلُّل له، وتقديمُ التوبة، والاستغفارُ ثم الدعاءُ لهم بتفريج كَرْبِهم؛ فذلك مِن أقوى الأسلحة وأمضاها، ولا يستهين به إلا مَن سَفِه نفسَه، وهو سلاحُ الضعفاء ومَن لا يملكون حيلةً، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنما يَنصُر اللهُ هذه الأمةَ بضَعيفِها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم»؛ رواه النسائي.

كما أنَّ التوبةَ النَّصوح، والعودةَ الصادقةَ إلى الله وإلى صحيح الإسلام، والتمسُّك به باطنًا وظاهرًا - هو بداية الطريق لتحقيق العزَّة للمسلمين، ودَفْع تسلُّط الكفَرة علينا، فما نزَل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِعَ إلا بتوبة؛ كما قال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فأعداءُ الإسلام مِن البُوذيين وغيرهم مِن مِلَل الكفر - ما تسلَّطوا علينا إلا بسبب ذنوبنا، وبُعدنا عن الشريعة الإسلامية، حتى أضاع أكثرُ المسلمين الصلاةَ، ومنعوا زكاةَ أموالهم، وشربوا الخمور، وأكلوا الربا، وظَهَرَت الفاحشة، وأعلنت النساءُ خَلْعَ الحجاب، وفشَت المعاصي، ونقَض الكثيرون عهدَ الله وعهدَ رسوله.

وتأمَّلْ معي الحديثَ الذي رواه ابن ماجه عن عبدالله بن عُمر، قال: أقبَلَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تُدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قط حتى يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكنْ مَضَتْ في أسلافِهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذُوا بالسنين، وشدة المَؤونة، وجَوْر السلطان عليهم، ولم يَمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ مِن السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا مِن غيرهم، فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُمْ أئمتهم بكتاب الله ويَتَخَيَّروا مما أنزل اللهُ إلا جَعَلَ اللهُ بأسَهم بينهم».

وقد بيَّنَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة أنَّ السببَ الرئيسَ في تسلُّط الكفار على المسلمين هو ظهورُ البِدَع التي تُخالف الدين، وانتشار النفاق والزندقة؛ فينتقم الله ممن خالَف الرسل، فقال في مجموع الفتاوى (13/ 178-182): "فلمَّا ظهَر النفاقُ والبِدَعُ والفُجور المخالف لدين الرسول سُلِّطَتْ عليهم الأعداءُ؛ فخرجت الرومُ النصارى إلى الشام والجزيرة مرةً بعد مرةً، وأخذوا الثغورَ الشامية شيئًا بعد شيءٍ، إلى أن أخذوا بيتَ المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدةٍ حاصروا دمشق، وكان أهلُ الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين المَلاحِدَة، إلى أن تولى نورُ الدين الشهيد، وقام بما قام به مِن أمر الإسلامِ وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوكُ مصرَ بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجَرَتْ فصولٌ كثيرة إلى أن أُخِذَتْ مصرُ مِن بني عبيد أخَذَها صلاح الدين يوسف بن شادي وخطب بها لبني العباس؛ فمن حينئذٍ ظَهَر الإسلامُ بمصرَ بعد أنْ مكثتْ بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائتي سنة!

فكان الإيمانُ بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البِدَع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سببٌ لشرِّ الدنيا والآخرة، فلما ظهَرَ في الشام ومصرَ والجزيرة الإلحادُ والبدعُ سَلَّطَ عليهم الكفارَ، ولما أقاموا ما أقاموه مِن الإسلام وقَهْر الملحدين والمبتدعين؛ نصَرَهُم اللهُ على الكفار؛ تحقيقًا لقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13]، وكذلك لما كان أهلُ المشرق قائمينَ بالإسلام كانوا مَنصورينَ على الكفار المشركين؛ مِن التُّرْك، والهند، والصين، وغيرهم، فلما ظهَر منهم ما ظهَر مِن البِدَع والإلحاد والفُجُور سلّط عليهم الكفار.

وهولاكو - ملك التُّرْك التتار - الذي قهَر الخليفةَ بالعراق، وقتَل ببغداد مقتلةً عظيمةً جدًّا يقال: قتَل منهم ألف ألف، وكذلك قتَل بحلب دار الملك حينئذٍ، كان مِن أسباب دُخول هؤلاءِ ديارَ المسلمين ظهورُ الإلحاد والنفاق والبِدَع، حتى أنه صَنَّف الرازيُّ كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمَلِ السحر، سماه: "السر المَكتوم في السِّحر ومخاطَبة النجوم"! ويقال: إنه صنَّفه لأُمِّ السلطان علاء الدين محمد بن لَكْش بن جلال الدين خوارزم شاه، وكان مِن أعظم ملوك الأرض، وكان للرازيِّ به اتصالٌ قويٌّ، حتى أنه وَصَّى إليه على أولادِه، وصنَّفَ له كتابًا سمَّاه: "الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية"، وهذه الاختياراتُ لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علَّمها النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين...! وأهلُ النجوم لهم اختياراتٌ إذا أراد أحدُهم أنْ يفعلَ فعلًا أخَذَ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجحَ بزَعْمِهم، وقد صنَّفَ الناسُ كتبًا في الردِّ عليهم، وذكروا كثرةَ ما يقَعُ مِن خلافِ مقصودهم فيما يُخبرون به ويأمرون به، وكم يُخبرون مِن خَبَرٍ فيكون كذبًا! وكم يأمرون باختيارٍ فيكون شرًّا! والرازيُّ صنَّفَ الاختياراتِ لهذا الملك، وذكَر فيه الاختيارَ لشُرب الخمر، وغير ذلك كما ذكَر في السر المكتوم في عبادة الكواكب ودعوتها، مع السجود لها، والشرك بها، ودعائها مثلما يدعو المُوَحِّدون ربهم بل أعظم! والتقرُّب إليها بما يُظَنُّ أنه مناسبٌ لها مِن الكفر والفسوق والعصيان؛ فذكر أنه يَتقرَّب إلى الزُّهْرَة بفِعْل الفواحش وشُرب الخمر والغناء! ونحو ذلك مما حرَّمَهُ اللهُ ورسوله، وهذا في نفس الأمر يُقَرِّب إلى الشياطين الذين يأمرونهم بذلك...، فلما ظهَر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالِم ونحوه ما ظَهَر مِن الإلحاد والبِدَع؛ سلَّط اللهُ عليهم التُّرْكَ المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجَرَتْ له أمورٌ فيها عبرةٌ لمن يَعتبر، ويَعْلَم تحقيق ما أخبر الله به في كتابه حيث يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]؛ أي: إنَّ القرآن حقٌّ، وقال: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37]"، ا. هـ مختصرًا وبتصرُّف بسيط.

والحاصلُ سلمك الله أنَّ المعاصي، والنفاقَ، والفسادَ الديني والأخلاقي، والمخالَفات الشرعية، هي سببُ الشر في العالَم، كما أنَّ سببَ الخير هو العودةُ الصادقة إلى الله، والبُعد عن الشرك والكفر والنفاق وعامة ما يُغضب الله، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]؛ أي: شرفكم وعزُّكم ومجدُكم، والدور الكبير في التاريخ والحضارة العالمية، وصدَق الله العظيم إذْ يقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]، فقد جاء القرآنُ الكريمُ والدنيا لا تكاد تشعر بالعرب، وإن شعرت اعتبرتْهم على هامش الحياة، فقادهم إلى المجدِ، وجعَل لهم الدورَ الأكبرَ في تاريخ البشرية، وقيادتها وهدايتها، فواجهوا به الدنيا كلها؛ فعرفَتْهم ودانتْ لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها بالقرآن العظيم، فلما تخلَّوا عنه أنكرتهم الأرض، واستَصْغَرَتْهُم الدنيا، وقُذف بنا في ذيل القافلة بعد أنْ كنَّا قادة الموكب المرموقين!

قال الفاروقُ عُمَر رضي الله عنه: "كنا أذلَّ أمة؛ فأَعَزَّنا الله بالإسلام، ومهما ابتَغَيْنا العزةَ في غيره أذلَّنا الله"، وقال الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صَلَح به أولُها"، فالعودةُ إلى الدين مِن أهم أسباب النصر والعزة، ودَحْر الأعداء، فإنَّ الله تعالى القويَّ المتين ما سَلَّطَهم علينا إلا بذنوبنا، وهو سبحانه لا يُعجزه نَصْرُنا متى أنَبْنَا إليه، فيُحقِّق ما وعدنا مِن انتصار الدين، وبلوغ الإسلام مَشارق الأرض ومَغاربها، كما نصَر المسلمين في بدر والقادسية وجميع الفتوحات والمعارك الإسلامية، فهو سبحانه يُعطي ويَمنع، ويَرفع ويَخفِض، ويُحيي ويُميت، ويَقبِض ويَبْسُط، ويَكشِفُ الكروبَ، ويُغيث الملهوفين، ويُجيبُ المضطرينَ، ويَقضي الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها؛ مِن جَبْرِ كسرٍ، وإغناءِ فقيرٍ، وشفاءِ مريضٍ، وتفريجِ كَرْبٍ، وكَشْفِ ضُرٍّ، ونصرِ مظلومٍ، وأمانِ خائفٍ، وإجارةِ مُستجيرٍ، ومدَدٍ لضعيفٍ، وإغاثةٍ لملهوفٍ، وإعانةٍ لعاجزٍ، وانتقامٍ مِن ظالمٍ، وكفِّ العدوان، لا إله إلا هو العزيز الحكيم؛ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، فلا مانعَ لما أعطى، ولا مُعطي لما مَنَع، ولا مُعقِّبَ لحُكمه، ولا رادَّ لأمره، ولا مُبدِّلَ لكلماته.

ولْيَحْذَرْ كلُّ امرئ مِن خذلان إخوانه المسلمين بما في وُسعه وطاقته؛ فقد أخبَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه إنْ فعَل هذا خَذَلَهُ الله سبحانه؛ فالجزاءُ مِن جِنْس العمل، ففي المسند وغيره: أنَّ جابر بن عبدالله وأبا طلحة بن سهل الأنصاريين يَقولان: «ما مِن امرئٍ يخذل امرأً مسلمًا في موطنٍ يُنتقَص فيه مِن عِرْضِه، ويُنتهك فيه مِن حُرمَته، إلا خَذَلَهُ الله تعالى في مَوطنٍ يُحبُّ فيه نصرتَه، وما مِن أحدٍ ينصُر مسلمًا في موطنٍ يُنتقص فيه مِن عِرْضه، ويُنتهك فيه مِن حُرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرته».

وختامًا أُذَكِّرك أخي الكريم أنَّ الهجْمةَ الشرسة على الإسلام لم يهدأْ أوارها، ولا تضع أوزارها، ولم تخبُ شرارتها مِن مَهْد الإسلام وحتى اللحظة الحاضرة في أرجاء الأرض جميعًا، ولم يتغيَّرْ إلا شَكْلُ المعركة فقط، أما حقيقتُها فكما هي، لم يدَعُوه في راحةٍ لحظةً واحدةً قرابةَ أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، وحينما تعلو رايةُ الله فلا يجرؤ عليها كافرٌ؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].

غيرَ أنَّ ما يسلي المؤمنَ هو وعْدُ الله تعالى، الذي لا يَتَبَدَّل ولا يَتَخَلَّف؛ أنَّ الكافرين أمسِ واليومَ وغدًا يُنفقون أموالهم، ويَبْذُلون جهودهم، ويستنفدون كيدَهم، في الصدِّ عن سبيل اللهِ، وإقامةِ العقبات في وجه المسلمين، ولا يرجعون إلا بالخَيْبة فيما يَبْغُون، وبالحسرةِ على ما يُنفقون، فاللهُ تعالى وعدَهم بالهزيمة في الدنيا، وسيُحْشَرون في الآخرة إلى جهنمَ، فتتم الحسرةُ الكُبرى؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

أسأل اللهَ أن يُفرِّج كَرْبَ إخواننا المسلمين في كلِّ مكان، وأن يردَّهم إلى دينهم، وأن يَنصرَهم على الكافرين، وأن يَخْذُلَ أعداءَه، وأن يعينَ الجميعَ على نصرة إخوانهم المظلومين في كل مكان.