أبي يرفض تزويجي لرجل متزوج

خالد عبد المنعم الرفاعي

فتاةٌ لديها زميلٌ في العمل مُتزوِّج ولديه أولاد، ويُريد الزواج منها، لكن والدَها يَرفُض مُقابلته رفْضًا تامًّا، والفتاةُ تسأل: هل يحقُّ لوالدي الرفْض بهذا الشكل، دون أن يراه أو يتحدَّث معه؟

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لديَّ زميلٌ في العمل مُتزوِّج ولديه أولاد، أعجب بي منذ 3 سنوات، لكنني في البداية كنتُ أخاف أن أظلمَ زوجتَه، وبعد سؤالي تَبَيَّنَ لي أنها لا تقوم بأي مِن واجباته وحقوقه؛ مرَّت الأيامُ، وأصبحتُ أعرف أدق تفاصيل حياته، والآن طلب التقدُّم لأهلي كي يتزوجَ بي، لكن أبي يرفض ذلك رفضًا قاطعًا، حتى قبل أن يراه أو يتحدَّث معه، وأنا أرضاه زوجًا لي.

زوجتُه الأولى تعلَم بذلك وكذلك أولاده، والأولاد موافقون لما يَرون مِن تقصيرٍ تجاه والدهم مِن قِبَل والدتهم.

الرجل متديِّن، ويعرِف حقوقَ الناس، وعلى خُلُق ممتاز، وذلك بشهادة مَن حوله؛ مِن أصدقائه ومُديريه، فهل هناك مانع من زواج البنت مِن رجل متزوج؟ وهل يحقُّ لوالدي الرفْض بهذا الشَّكل، دون أن يراه أو يتحدَّث معه؟

خُطِبْتُ مرتين وكل مرة كانتْ تُفسخ الخطبة، وكان أبي يتحجَّج في كلِّ مرة يأتي فيها خاطب؛ تارةً بأنني صغيرة، وتارة بأنني سأكمل دراستي الجامعية.

الآن أبلغ من العمر 30 عامًا، والعمر يَجري، وأريد أن أتزوَّج مِن هذا الشاب المتقدِّم.

فأرجو أن تُرشدوني إلى حلٍّ أقنع به والدي.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فمما لا شك فيه أن الوالدَ يندفع مع أبنائه بمحض الفِطرة لرِعايتهم، وإلى التضحِية مِن أجلِهم بكلِّ شيء حتى بنفسه، ومِن بديع القرآن الكريم أنه أمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله، ولم يوصِ الآباء بأبنائهم بِمثل ذلك.
وهذه مقدمةٌ ضرورية لنتفَهَّم دوافع الوالد الكريم في رفضِه لفكرة زواجك مِن رجلٍ متزوج، غير أنَّ الشارع الحكيم لم يتركْ مِعيار القَبول والرفض للأولياء، وإنما وردت السُّنَّة المطهرةُ باعتبار الدِّين والخلُق كمعيار صحيحٍ، فصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جاءكم مَن تَرْضَوْنَ دينه وخُلُقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد»، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: «إذا جاءكم مَن تَرْضَوْنَ دينه وخُلُقه فأنكحوه» ثلاث مرات، وفي رواية: «إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه وخُلُقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض، وفساد عريض»؛ رواه الترمذي.

فبَيَّن صلى الله عليه وسلم أن الشرط الواجب تَحَقُّقه في الخاطب هو أن يكونَ مَرْضِيَّ الدين والخلُق.

وليس الزواج بأخرى عيبًا يُرد به الخاطب، ولا يضر الرجل كونه متزوجًا ما دام يظنُّ به العدل بين زوجاته، فالشارعُ الحكيمُ أباح للرجال التعدُّد، وشرط فيه العدل؛ فقال سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وإنما الذي لا يجوز هو منْعُ المرأة من الزواج بمن تُريده إن كان مَرْضِيَّ الدين والخلُق.

وما دام هذا الرجلُ ظاهرُه التديُّنُ وحُسن الخلُق، فاستعيني بالله في تليين قلبهم، وأكْثِري مِن الدعاء والتضرُّع، فالقلوبُ بِيَدِ الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء، وكُوني على ثقةٍ أنَّ رحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدرُ سبحانه وتعالى.

كما يمكنك الاستعانة بمَن له تأثيرٌ على الوالد مِن قريبٍ أو صديقٍ، وكذلك يمكن لهذا الشخص أنْ يُحاول مقابلة الوالد، ويتناقش معه لعله يتمكَّن مِن إقناعه، وأن يزيلَ ما في قلبه مِن مخاوفَ.

ولكن إن لم يتيسرْ إقناعه، وأصرَّ على رفضِه لا قدَّر الله، فلا سبيل للزواج منه إلا بِوَلِيٍّ، واحذري الإقدامَ على مخالفة أهلك، واقطعي أي علاقة معه، واستعيني بالله واصبري؛ {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

والصبرُ على الألم شاقٌّ ومَكْروهٌ للنفس، إلا أنه خيرٌ محضٌ؛ ففيه الانقيادُ للشارع الحكيم الذي جعل رضا الولي شرطًا في صحة النكاح، وفي هذا مِن الثواب العظيم ما يربو على ما فيه من الكراهة.

ونحن المسلمين نُوقن أن الله تعالى أرحم بنا من أنفسنا، وأقدرُ وأعلم بمصالحنا منا، ونُؤمن أنه سبحانه إذا قيَّض من الأسباب ما يصرف به شيئًا ما أنه خير لنا؛ لأنه سبحانه يعلم وأنتم لا تعلمون، فوَجَب شكر الله، وجعل الخير في الواقع، فلنتوافقْ مع أقدار الله، سواء سرَّتْنا أو ساءَتْنا.

والأسبابُ التي تعارَف عليها الناسُ قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمُقدِّمات التي يراها الناس حتميَّة قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها؛ ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تُنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادةُ الطليقة التي تُنشئ الآثار والنتائج كما تُنشئ الأسباب والمقدمات سواء؛ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].

والمؤمنُ يأخُذ بالأسباب لأنه مأمورٌ بالأخذ بها، واللهُ هو الذي يُقدِّر آثارها ونتائجها، والاطمئنانُ إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذُ الأمين، والنجوةُ مِن الهواجس والوساوس.

وإن مِن الفرائض ما هو شاق مَرير كريه المَذاق، ولكن وراءه حكمة تُهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيرًا مخبوءًا، قد لا يراه النظر الإنساني القصير، عندئذٍ يفتح للنفس البشرية نافذةً جديدةً تُطل منها على الأمر، ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها؛ نافذة تهبُّ منها ريح رخية عندما تحيط الكُرُوب بالنفس وتشق عليها الأمور.

إنه مَن يدري فلعل وراء المكروه خيرًا، ووراء المحبوب شرًّا؟! إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده؛ حيث لا يعلم الناس شيئًا من الحقيقة.

وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية؛ تهون المشقَّة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقينٍ وفي رضاء.

فهو حقٌّ أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرًا ويكون فيه الخير كل الخير، وهو حقٌّ كذلك أن تحب النفس أمرًا وتتهالك عليه، وفيه الشر كل الشر، وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون، وماذا يعلم الناس مِن أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقُصور؟!

إن هذه اللَّمْسة الرَّبَّانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالمًا آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه، وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمنَّاه.

وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعًا في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راضٍ قرير، إنه الدُّخول في السلم من بابه الواسع، فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها، وأن تطلب منه البرهان، إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن - هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة؛ قاله حكيم الإسلام سيد قطب في ظلال القرآن (1/ 13) (1/ 223-224).

هذا، وأسأل الله أن يقدِّر لك الخير حيث كان.