هل سأحاسب على الخطرات والأفكار أم على الأفعال؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
فتاة تراودها أشياء غريبةٌ عند سَماع الأذان، وتشعُر برغبةٍ في أن تَظَلَّ جالسةً ولا تقوم للصلاة، لكنها تُجاهد نفسها وتقوم بالوضوء والصلاة، وتسأل: هل سأحاسَب على ما أشعر به؟ وهل يُعَدُّ أَجْرِي عن صلاتي ناقصًا؟
- التصنيفات: أعمال القلوب -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندما أسمع الأذان أشعُر برغبةٍ في أن أظلَّ جالسةً ولا أقوم للصلاة..
ولكني أقوم، وأتوضَّأ، وأُصَلِّي، بل وأنوي أن أصلِّي بخشوعٍ والحمد لله.
ما أود معرفته: هل سأحاسَب على ما أشعر به من خطرات وأفكار؟ وهل يُعَدُّ أَجْرِي عن صلاتي ناقصًا؟
وجزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فزادك الله حرصًا وسدادًا أيتها الابنة الكريمة، أما سببُ خوفِك فهو: أنك لم تُفَرِّقي بين خطراتٍ لا يُحاسَب عليها العبدُ، وبين الإصرار الذي يُؤاخَذ به.
والفارقُ بينهما: أنَّ الإصرارَ يقع معه الفعلُ المهمومُ به؛ فعلًا كان أو تركًا، إن كان قادرًا عليه، وهو ما يسمَّى بـ: الإرادة الجازمة، أو بالإرادة التامة، أما الهامُّ بالسيئة ولم يعْمَلْها مع قدرته عليها فعدمُ فعلِه دليلٌ على كونها غير تامةٍ، وقد دلتْ على تلك القاعدة أدلةٌ كثيرةٌ؛ منها: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل تجاوَز لأمتي ما وَسْوَسَتْ به، وحدَّثَتْ به أنفسها، ما لم تعملْ أو تتكلَّمْ به»؛ متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة، وفي لفظٍ للنَّسائي والتِّرمذي: «إنَّ الله تجاوَز لأمتي عما حدَّثَتْ به نفسها، ما لم تتكلَّمْ به أو تعملْ»، قال التِّرمذيُّ: "والعملُ على هذا عند أهل العلم أنَّ الرجل إذا حدَّث نفسَه بالطلاق لم يكن شيءٌ حتى يتكلَّم به".
ورَوَى مسلمٌ عن ابن عباسٍ قال: "لما نزلتْ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، دخَل قلوبَهم منها شيءٌ لم يدخُلْ قلوبهم من شيءٍ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا»، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، قال سبحانه: «قد فعلتُ»، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، قال سبحانه: «قد فعلتُ»، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، قال سبحانه: «قد فعلت»، وفي رواية: فلما فعلوا ذلك نسخها الله، ثم أنزل تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]".
وروى مسلمٌ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَتْ له حسنة، ومَنْ هَمَّ بحسنةٍ فعَمِلَها كُتِبَتْ له عشرًا إلى سبعمائة ضعفٍ، ومَنْ هَمَّ بسيئةٍ فلم يعمَلْها لم تكتبْ، وإن عملها كُتِبَتْ».
أما الهَمُّ أو الإرادة الجازمة - فكما ذكرتُ - تكون مَصحوبةً بالفعل إن كان مَقدورًا، ولا يترُكه إلا مَنْ عَجَزَ؛ كما بيَّنَهُ الحديثُ المُخَرَّج في الصحيحين عن أبي بَكْرَةَ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسَيفَيْهِما، فالقاتلُ والمقتول في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحِبِه».
قال شيخُ الإسلام في "مجموع الفتاوى: (10/ 737 - 738): "وأما الهامُّ بالسيئة الذي لم يعمَلْها - وهو قادرٌ عليها - فإنَّ الله لا يكتبُها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح، وسواء سُمِّي همُّه إرادةً أو عزمًا، أو لم يُسَمَّ، متى كان قادرًا على الفعل وهَمَّ به وعزَم عليه، ولم يفعلْه مع القدرة - فليستْ إرادتُه جازمةً، وهذا موافقٌ لقوله في الحديث الصحيح حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تجاوَز لأمتي ما حدَّثَتْ به أنفسها، ما لم تكلم به، أو تعمل به»، فإن ما هَمَّ به العبدُ مِن الأمور التي يقْدِر عليها من الكلام والعمل، ولم يتكلَّم بها، ولم يعملْها - لم تكن إرادتُه لها جازمةً، فتلك مما لم يكتبْها الله عليه؛ كما شهد به قوله: «مَنْ هَمَّ بسيئةٍ فلم يعْمَلْها».
ومَن حكى الإجماع كابن عبد البَرِّ وغيره - في هذه المسألة على هذا الحديث - فهو صحيحٌ بهذا الاعتبار، وهذا الهامُّ بالسيئة؛ فإما أن يتركَها لخشية الله وخوفِه، أو يتركها لغير ذلك؛ فإن تَرَكَها لخشية الله كتَبَها الله له عنده حسنةً كاملةً؛ كما قد صرَّح به في الحديث، وكما قد جاء في الحديث الآخر: «اكتبوها له حسنةً، فإنما ترَكها مِن أجْلِي، أو قال: مِن جرَّائي»، وأما إن ترَكَها لغير ذلك، لم تُكْتَبْ عليه سيئة؛ كما جاء في الحديث الآخر: «فإنْ لم يَعْمَلْها لم تُكْتَبْ عليه»؛ وبهذا تتَّفق معاني الأحاديث".
وقال أيضًا (10/ 741 -743): "فقوله: «إنَّ الله تجاوَز لأمتي عما حدَّثَتْ به أنفسها، ما لم تكلَّم به أو تعملْ» - لا يُنافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لا بد أن يَقْتَرِنَ بها الفعل؛ فإن الإرادةَ الجازمةَ هي التي يقترن بها المقدورُ مِن الفعل، وإلا فمتى لم يقترنْ بها المقدورُ مِنَ الفعل لم تكنْ جازمةً، فالمُريدُ الزِّنا والسَّرِقة وشُرب الخمر العازمُ على ذلك، متى كانتْ إرادتُه جازمةً عازمةً، فلا بد أن يقترنَ بها من الفعل ما يَقْدِرُ عليه، ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية؛ مثل: تقرُّب السارق إلى مكان المال المسروق، ومثل: نظر الزاني واستماعه إلى المزنيِّ به وتكلُّمه معه، ومثل: طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك، فلا بد مع الإرادة الجازمة مِن شيءٍ من مُقَدِّمات الفعل المَقْدُورِ، بل مُقدِّمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفق عليه: «العينان تزْنِيان وزناهما النظَر، واللسان يَزني وزناه النُّطق، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجْل تزني وزناها المشي؛ والقلب يتمنَّى ويشتهي، والفَرْجُ يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه»، وكذلك حديث أبي بَكْرة المتفق عليه: «إذا التقى المسلمان بسَيْفَيْهِما، فالقاتلُ والمقتول في النار»، قيل: يا رسول الله، هذا القاتلُ، فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه»، وفي روايةٍ في الصحيحين: «إنه كان حريصًا على قتْل صاحبِه»، فإنه أراد ذلك إرادةً جازمةً فعَل معها مَقدورَه مَنَعَهُ منها مِن قتل صاحبه العجزُ، وليستْ مجرد هَمٍّ، ولا مجرد عزْمٍ على فعلٍ مستقبَلٍ، فاستحق - حينئذٍ - النار، كما قدمنا مِن أنَّ الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام، والإرادة التامة قد ذكرنا أنه لا بد أن يأتيَ معها بالمقدور أو بعضه، وحيث ترَك الفعل المقدورَ فليستْ جازمةً، بل قد تكون جازمةً فيما فعل دون ما ترك مع القدرة، مثل الذي يأتي بمُقدِّمات الزِّنا؛ من اللمس، والنظر، والقبلة، ويمتنع عن الفاحشة الكبرى؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح: «العينُ تزني، والأذن تزني، واللسان يزني- إلى أن قال -: والقلبُ يتمنى ويشتهي»، أي: يتمنى الوَطْءَ ويَشْتَهيه، ولم يقلْ: يُريد، ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادةً جازمةً، ولا يستلزم وُجود الفعل، فلا يعاقَب على ذلك؛ وإنما يُعاقَب إذا أراد إرادةً جازمةً مع القُدرة، والإرادة الجازمة التي يُصَدِّقها الفَرْجُ.
ومِن هذا الحديثِ الذي في الصحيحين عن ابن مسعودٍ: أن رجلًا أصاب من امرأةٍ قبلةً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]... الآية، فقال الرجل: أَلِي هذه؟ فقال: «لِمَنْ عَمِل بها مِن أمتي»، فمثلُ هذا الرجل وأمثاله لا بد - في الغالب - أن يهمَّ بما هو أكبرُ مِنْ ذلك؛ كما قال: «والقلبُ يَتَمَنَّى ويَشتهي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يُكَذِّبُه»، لكن إرادته القلبية للقُبلة كانت إرادةً جازمةً، فاقتَرَنَ بها فِعْلُ القُبلة بالقدرة، وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمةٍ، وقد تكون جازمةً، لكن لم يكن قادرًا، والأشبه في الذي نزلتْ فيه الآية أنه كان مُتَمَكِّنًا، لكنه لم يفعلْ".
وفق الله الجميع لكلِّ خيرٍ.