معنى عبارة: التقى الوحي والعقل والنقل لأول مرة في القرآن

خالد عبد المنعم الرفاعي

طالبٌ في كلية أصول الدين يسأل عن معنى قول القائل: الْتَقَى الوحيُ والعقلُ والنقلُ لأول مرةٍ في القرآن، وهل هو صحيح أو لا؟

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا طالبٌ في كلية أصول الدين، وقد سمعتُ سؤالاً لم أستطع الجوابَ عنه، وهو: ماذا يعني قولهم: الْتَقَى الوحي والعقل والنقل لأول مرةٍ في القرآن؟

وهل هذا القول صحيح أو لا؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:

فهذا السؤالُ - أيها الابن الكريم - خطأٌ في وَضْعِه؛ يُدرك ذلك كلُّ مَنْ تأمَّلَه؛ فقوله: "الْتَقَى الوحيُ والعقلُ والنقلُ لأول مرةٍ في القرآن" - غير صحيحٍ؛ لأنَّ دينَ جميع الأنبياء واحدٌ، وهو الإسلامُ بالمعنى العام؛ وهو: الانقيادُ والاستسلامُ لله تعالى، فعقيدةُ جميع الأنبياء واحدةٌ، وهي توحيدُ الله تعالى، فلم يُبَح الشِّرْكَ في شريعةٍ قطُّ، ومعلومٌ أن العقلَ والنقلَ مُتفقان في جميع مسائل العقيدة، وسأحيل في آخر الجواب على مراجعَ تُزيل اللبس في المسألة.

أما بالنسبة لشرائع الأنبياء فهي مختلفةٌ مِن نبيٍّ لآخرَ، ولكن الذي نَجْزِمُ به أن جميعَ ما أنزله الله تعالى على رُسُلِه وافَق فيه صحيحُ المنقول صريحَ المعقول؛ لأنَّ الإنسان عبدُ الله، خَلَق فيه عقلاً صريحًا، وفَطَرَهُ على استحسان الحُسن، واستقباح القبيح؛ لذلك لم يحلَّ الله الزِّنا ولا الرِّبا في شريعةٍ قطُّ، ولا أباح افتراش الأمهات قطُّ، ولا الكَذِب.

يُبَيِّن هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأنبياء إخوةٌ لعلاَّتٍ، أمهاتُهم شَتَّى، ودينُهم واحدٌ».

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "الرسالة التَّدْمُرِيَّة"، وهو يُبَيِّن أن دينَ الأنبياء واحدٌ وهو الإسلام (ص: 166 - 171): "وهذا الدينُ هو دينُ الإسلام الذي لا يَقْبَلُ الله دينًا غيره، لا مِن الأوَّلين ولا مِن الآخرينَ؛ فإنَّ جميعَ الأنبياء على دين الإسلام؛ قال تعالى عن نوحٍ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71، 72]، وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132] ، وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وقال في خبر المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ﴾ [المائدة: 111]، وقال فيمَنْ تَقَدَّم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وأخبر عن بلقيس أنها قالتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

فالإسلامُ يَتَضَمَّن الاستسلام لله وحدَهُ، فمَن استسلم له ولغيره كان مُشركًا، ومَن لَم يَسْتَسْلِمْ له كان مُستكبرًا عن عبادته، والمُشرِكُ به والمُستكبِر عن عبادته كافرٌ، والاستسلامُ له وحدَهُ يتضمَّن عبادته وحده وطاعته وحدَهُ.

وهذا دينُ الإسلام الذي لا يَقبل اللهُ غيرَه، وذلك إنما يكون بأن يُطاعَ في كل وقتٍ بفِعْل ما أَمَرَ به في ذلك الوقت، فإذا أَمَر في أول الأمر باستقبال الصَّخرة، ثم أَمَرَ ثانيًا باستقبال الكعبة؛ كان كلٌّ مِنَ الفِعْلَيْنِ حين أَمَرَ به داخلاً في دين الإسلام؛ فالدِّينُ هو الطاعةُ والعبادةُ له في الفِعلَيْنِ، وإنما تَنَوَّع بعضُ صوَر الفعل وهو وِجْهَةُ المصلِّي، فكذلك الرسلُ دينُهم واحدٌ، وإن تنوَّعت الشِّرْعَةُ...، واللهُ تعالى جعَل مِن دين الرسل: أنَّ أولهم يُبَشِّر بآخِرِهم، ويُؤمِن به، وآخِرَهم يُصَدِّق بأولهم، ويُؤمِن به؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]". اهـ.

ولذلك، فالقولُ الصحيحُ مِن تلك العبارة أن يُقال: "الْتَقَى الوحيُ والعقلُ والنقلُ في جميع الشرائع السماويةِ، وتجلَّى ذلك وكَمُل في القرآن".

وهذا الموضوعُ كبيرٌ، ويترتَّب عليه مسائلُ علميةٌ وعمليةٌ كثيرةٌ، وللاستزادة مِن ذلك؛ يراجع كتاب: "مفتاح دار السعادة"؛ لشيخ الإسلام ابن القيِّم، وهناك رسالةُ دكتوراه بعنوان: "التَّحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه"؛ للدكتور/ عايض بن عبدالله بن عبدالعزيز الشهراني.

وفقنا الله وجميع المسلمين لكل خير.