ضحية الوساوس والشكوك

خالد عبد المنعم الرفاعي

فتاة تشكو حالَها مع الله، وتقصيرَها وعدم ثباتها على الطاعة، فهي تلتزم فترات، وتنقطع أخرى، حتى دخلتْ في حالةٍ من اليأس، واقتنعتْ بأنَّ الله لا يريد لها الهداية!.. وهي تريد النصح للرجوع إلى الله.

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -
السؤال:

أنا فتاة مراهِقَةٌ، ألْتَزِم بالدِّين فترات، وأنقطع فترات، وهكذا إلى أن تَرَكْتُ التديُّن، رغم حبِّي للطاعة وللذِّكْر.

تأتيني حالةٌ مِن اليأس أنَّ الله لا يُريد لي الهداية، أدعو فلا يُستجاب لي، فلماذا لا يستجيب الله دعائي عندما أدعوه بالثبات؟!

بعد أن تَطَوَّرَتْ مشاكلي بسبب مَعصيةٍ كنتُ أداوم عليها، كنتُ أدعو الله أن يُعينَني على ترْكِها، لكن كنتُ أعود لها ثم أتوب وأدعو الله، لكن بعد أن تَطَوَّرَتْ مشاكلي بسببها أصبح عندي قُنُوط مِن رحمة الله، وأنه كتَب أن أكونَ مِن الأشقياء، وكلما حاولتُ العودة تذكَّرْتُ دعائي لله عز وجل بالثبات، فتُحدثني نفسي فتقول: هل أفادكِ ذلك الدعاء بشيء؟ لو أراد بك خيرًا لما حصل معك ما حصل! لماذا تُتعبين نفسك فهو لا يريد لك الهداية؟

بصراحة أصبحتُ أكره الله!! وتأتيني حالة ضيق شديد أشعُر فيها بأنَّ الله يكرهني، وأنا لا أعترض على شكلي، أو مرضٍ فيَّ، بل أرضى وأرتاح، لأني أعلم أن الله يَبتليني ليُعَوِّضني في الآخرة، فلا أتذمَّر، لكني أتذمَّر لأن الله لا يُثَبِّتني على طاعته!

تعبتُ جدًّا، حتى إني أشعر أنه نهاية الطريق، وأني لا أستطيع أن أعيشَ حياةً عادية كالباقين، بل إن التعاسةَ تُلاحقني أينما كنتُ.

أرجو أن ترشدوني للصواب، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فلقد وقعتِ ضَحيَّةً للشيطان أيتها الابنة باستِسلامك لوساوسه، حتى وصَلْتِ لتلك الحال مِن الكفر، ويا ليتك إذا طاوعتِ شيطانك حصلتِ على راحة النفس وهدوء البال، الذي لا يوجد إلا في القُرب مِن الله!

اسْمَحي لي أن أقول: إنَّ طريقتك خاطئة في التفكير، وتدُلُّ على عدمِ إلمامك الصحيح بمعاني العبودية، بل ولا التمييز بين عظمة الله وكماله بالذات وبين ضَعْفِ الإنسان وافتقاره الذاتي، فهلاَّ تَفَكَّرْتِ في قدرة الله عليك وعجزك حتى عن الهرَب مِن سلطانه سبحانه، أو الإفلات من قبضته، والفكاك مِن قدرته؟! فأنت وأنا وجميعُ المخلوقات والكائنات العلوية والسُّفلية لا نعجز الله تعالى، ولن نعجزه بالهرَب منه، وأنه لو شاء قبَضَ جميع الكون، وأحاطتْ به قبضته والكون في يده كالخَرْدَلَة في يد الطفل!

ولقد أغلقتِ على نفسك أن تشهدي بقلبك معاني الربوبية الجامعة للإحاطة العامة، وأنه سبحانه بكل شيء محيطٌ، وتأمَّلي قوله تعالى على لسان مؤمني الجنِّ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا}  [الجن: 12]، فهؤلاءِ الجن هم الذين يعوذُ بهم رجالٌ من الإنس، وهم الذين يستعين بهم الإنسُ في الحوائج، وهم الذين جعل المشركون بين الله سبحانه وبينهم نسبًا، فها هم يعترفون بعَجْزِهم وقدرة الله، وضعْفِهم وقوة الله، وانكِسارهم وقهر الله، فيصححون لا لقومهم فحسبُ، بل للمشركين كذلك حقيقةَ القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومَن فيه!

هذا، وسألَخِّص لك بعض السبُل التي أسأل الله أن يجعلها سببًا في نجاتك:

• أولاً: تأمَّلي وتدبَّري كتاب الله القرآن الكريم، فهو بصائرُ تهدي، ورحمةٌ تفيض لمن يؤمن به ويغتنم هذا الخير العميم، فقد كان كبراء قريش يَجِدُون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغدًا كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون.

ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد، يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحُجُب، وثقل فوقها الرُّكام، تنتفض قلوبهم أحيانًا، وتَتَمَلْمَل قلوبهم أحيانًا تحت وطأة هذا السلطان، وهم يستمعون إلى هذا القرآن.

إن الذين يقولون كثيرون، وقد يقولون كلامًا يحتوي مبادئَ ومذاهبَ وأفكارًا واتِّجاهات، ولكن هذا القرآن ينْفَرِد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول، إنه قاهر غلاَّب بذلك السلطان الغلاَّب!

ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه...، فالقولُ لا ينتهي والمجال لا يحدُّ، وماذا الذي يمكن أن يُقال في صفحات؟!

منهج هذا القرآن العجيب في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود، وهو منهجٌ يُواجه هذه الكينونة بجُملتها، لا يدَعُ جانبًا واحدًا منها لا يُخاطبه في السياق الواحد، ولا يدَع نافذةً واحدةً مِن نوافذها لا يدخل منها إليها، ولا يدَع خاطرًا فيها لا يجاوبه، ولا يدَعُ هاتفًا فيها لا يُلَبيه.

منهج هذا القرآن العجيب وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقَّاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المُطْلَق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة، وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة.

منهج هذا القرآن العجيب وهو يأخذ بِيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة ويصعد بها - في هينةٍ ورفقٍ، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وُضوح وعلى بصيرةٍ - درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيُّف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة - إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة.

منهج هذا القرآن العجيب وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيثُ لا يحتسب أحد مِن البشر أن يكون هذا موضع لمسة، أو أن يكون هذا وتر استجابة، فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب، ذلك أن مُنَزِّل هذا القرآن هو خالقُ هذا الإنسان الذي يعْلَم مَن خلق"؛ قاله الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن (3/ 1421-1422) مختصرًا.

• ثانيًا: تأمَّلي بفكرٍ وتبَصُّرٍ كتاب الكون المفتوح، وتدبَّري خلقه، فإنَّ فيه مِن الآيات العجيبة ما يُبهر الناظر، ويقنع المتفكِّر، ويجذب القلوب الصادقة، ويُنَبِّه العقول النَّيِّرة لما فيها من العظمة والسعة، وانتظام الحركة، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصُّنع، ولطائف الفعل، يدلُّ على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشُمُول قدرته وحكمته وسعة علمه، كما أن ما فيها من المنافع للخلْق يَدُلُّ على سعة رحمة الله، وعُموم فضله، وشُمول بِرِّه، ووُجُوب شكره، وسيَقودك ذلك التدبُّر لنصاعة التصور في الله، ووضوح الرؤية القلبية، وخشوع القلب وتقواه؛ قال صاحب الظلال (1/ 545): "والتدبُّر في كتاب الكون المفتوح، وتتبُّع يد الله المُبْدِعة وهي تُحَرِّك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب، هو عبادةٌ لله من صميم العبادة، وذِكْرٌ لله من صميم الذكر، ولو اتصلت العلوم الكونية التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومُدَّخراته، وفي أسراره وطاقاته - لو اتصلتْ هذه العلومُ بتذكُّر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله - لَتَحَوَّلَتْ مِن فورها إلى عبادةٍ لخالق هذا الكون وصلاة، ولاستقامت الحياة بهذه العلوم واتجهتْ إلى الله.

ولكن الاتجاه المادي الكافر يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية، ومن هنا يتحوَّل العلم - أجمل هبةٍ مِن الله للإنسان - لعنةً تُطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرةٍ، وإلى حياة قلقةٍ مُهَددة، وإلى خواء روحيٍّ يُطارد الإنسان كالمارد الجبَّار.

إنَّ آيات الله في الكون لا تتجلَّى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة، وإنَّ هؤلاء الذين يَذْكُرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وهم يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المُنْطَوِية في خلْقِ السموات والأرض واختلاف الليل.

• ثالثًا: يجب عليك أن تتعلَّمي المعنى الصحيح لحقيقة الألوهية، وأنَّ الله سبحانه هو مالكُ المُلك وحده لا شريك له، وأن الكون كله عُلويَّه وسُفْلِيَّهُ له، والتصريفَ والتدبيرَ كله له، يملِّك من يشاء ما يشاء، ويستردُّ ممن يشاء، ويعز مَن يشاء، ويذِلُّ مَن يشاء، وفْقَ السُّنَن والأسباب الكونية والدينية، ولا مُعَقِّبَ على حكمه، ولا رادَّ لِقضائه، وهو صاحبُ الخلْقِ والأمر كله، حرَّم الظلمَ على نفسه، الخير كله منه، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشرُّ فإنه لا يضاف إلى الله تعالى، لا وصفًا، ولا اسمًا، ولا فعلاً، ولكنه يدخُل في مفعولاته، ويندرج في قضائه وقدره.

• رابعًا: جميعُ الخلْق فُقراء إلى الله، ولا يَملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فلا مَلْجأ من الله إلا إليه، فليس للخلْقِ قُدرة ولا سلطان، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان وهو الله.

• خامسًا: الإيمانُ بالقضاء والقدَر يتجلَّى عندما يَجري عليك من المصائب التي لا حيلةَ لك في دفعها، فما أصابك بفِعْل الآدميين أو بغير فِعْلِهم، فاصبري عليها، وارضي وسلِّمي أمرك لله؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسَلِّم كما قال بعضُ السلَف.

قال الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان (23/ 421): "ومن يصدِّق بالله فيعلم أنه لا أحد تُصيبه مُصيبة إلا بإذن الله بذلك، {يَهْدِ قَلْبَهُ} يقول: يوفِّق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه...، عن ابن عباس قوله: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» [التغابن: 11]؛ يعني: يهدِ قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه".

وأنا أعيذك أن تكوني ممن إذا أصابتْه مُصيبة عظم جزعُه، وقلَّ صَبْرُه، فلا يَنظر إلى القدَر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنبًا أخَذ يحتج بالقدَر، فلا يفعل المأمور ولا يتْرُك المحظور، ولا يَصْبِر على المقْدُور.

فإذا أصابك شيءٌ فإياك أيتها الابنة مِن اليأس على ما فاتك، بل انظري إلى القدَر، وسلِّمي الأمر لله، فأنت هنا لا تقدرين على غير ذلك، وإنما لا تعجزي وتدفعي الأمر الذي فيه حيلة، كما في سنن أبي داود: أن رجلين اختَصَمَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبي الله ونِعْم الوكيل».

• سادسًا: هناك مِن الحِكَم العَلِيَّة في تأخير استجابة الدعاء، ولكن الإنسان خُلِقَ عَجُولاً يُبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، يُمهل ولا يهمل، ويحلم ويجعل لكل شيء أجلاً مؤقتًا.

ومِن شدة تلبيس الشيطان عليك أن أَلَحَّ عليك بفكرة أن حياتك كلها عذاب ومُعاناة، فأغْلَقَ بصيرتك عن النظَر والتأمُّل في نفسك وفي الوجود؛ لتوقني أن الخير فيه هو الغالب، وأن الأمراض وإن كَثُرَتْ فالصحةُ أكثر منها، واللذات أكثر مِن الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها، وإن كثرتْ فالسلامةُ أكثر، وأنه عند الموازَنة ستجدين أن ما تنظرين إليه على أنه شر محض إنما هي أشياء خَيْرُها غالبٌ، وإنما يعرض فيه مِن الشر الذي لو غاب لفات الخير الغالب، وفوات الخير الغالب شرٌّ غالبٌ.

فتأمَّلي خلق الله للنار وما في وجودها من المنافع الكثيرة، غير أنَّ بها مفاسد، لكن إذا قُوبِلَتْ بمصالحها لم تكن لمفاسدها نسبة.

فعناصرُ العالم السُّفلي خيرها ممتزج بشرِّها، ولكن خيرها غالب، فإن وَسْوَسَ لك الشيطان والنفس الأمارة بالسوء: أن الله لو جعل الخلق خاليًا من السوء، ويكون خيرًا مَحْضًا، أو تكون الحياة بغير ابتلاء وامتحان - فالجوابُ على ذلك ذَكَرَهُ العلامة ابن القيم، وبَيَّنَ الحكمة مِن الابتلاء، فقال في شِفاء العليل في مسائل القضاء والقدَر والحكمة والتعليل (ص: 244-248): "كم له سبحانه في مِثْل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة، ونعمة سابغة، وحُكم نافذٍ، وأمر ونهيٍ، وتصريفٍ دالٍّ على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده، وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو مِن كمال حكمته، ومقتضى حمده التام.

فإنه لولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فَضْلُ الصبر والرضا والتوكل، والجهاد والعفة والشجاعة، والحلم والعفو والصفح، والله سبحانه يُحب أن يكرمَ أولياءه بهذه الكمالات، ويُحب ظهورها عليهم؛ ليثني بها عليهم هو وملائكته، وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور، وإن كانتْ مُرة المبادئ فلا أحلى مِن عواقبها، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ، وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها، ونقصانها لنقصانها، فمن كمل أسباب النعيم واللذة كملتْ له غاياتها، ومن حُرِمها حُرِمها، ومن نقصها نقص له من غاياتها، وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب، وكفى بهذا العالم شاهدًا لذلك، فربُّ الدنيا والآخرة واحدٌ، وحكمتُه مُطَّرِدة فيهما، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.

فأفضل العطاء وأجلُّه على الإطلاق الإيمان وجزاؤُه، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار؛ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 1 - 6]، فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحنَ خلقه ويفتنَهم؛ ليتبيَّنَ الصادق من الكاذب، والمؤمن مِن الكافر، ومَن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره، وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل، وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم، وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه، وافتتح بالإنكار على مَن يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار، إذا ادعى الإيمان، وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك، وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه، ولكن اقتضى عدلُه وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم، بل بمعلومه إذا وجد وتحقق، والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود، فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه.

ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به، ومتابعة رسله خوفَ الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ظنه وحسبانه أنه بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله يتخلَّص من الفتنة والمحنة، فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فرَّ عنه، فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين؛ إما أن يقول أحدُهم: آمنتُ، وإما ألا يقول، بل يستمر على السيئات، فمَن قال: آمنَّا، امتحنه الربُّ تعالى وابتلاه لتتحقق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه، وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط، بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلاء، ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته، بل هو في قبضته وناصيته بيده، فله من البلاء أعظم مما ابتلى به مَن قال: آمنتُ، فمَن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلى من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه، ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه، فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين.

فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصُل له الألم في الدنيا أشد، ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يَحْصُل له اللذة والسرور ابتداء، ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة.

وهكذا حال الذين يتَّبعون الشهوات، فيَلْتَذون بها ابتداء، ثم تعقبها الآلام، بحسب ما نالوه منها، والذين يَصبرون عنها يَتَأَلَّمُونَ بِفَقْدِها ابتداءً، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها، فالألم واللذة أمرٌ ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون؛ ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات، فمَن ظَنَّ أنه يتخلَّص من الألم بحيث لا يصيبه البتة، فظنه أكذب الحديث، فإن الإنسان خُلِقَ عُرضة للذة والألم، والسرور والحزن، والفرح والغَمّ، وذلك من جهتين: مِن جهة تركيبه وطبيعته وهيئته فإنه مُرَكَّبٌ من أخلاط متفاوتة متضادة يمتنع أو يعز اعتدالها مِن كل وجه، بل لا بد أن يبغي بعضها على بعض، فيخرج عن حد الاعتدال، فيحصل الألم، ومن جهة بني جنسه فإنه مدني بالطبع، لا يمكنه أن يعيش وحده، بل لا يعيش إلا معهم، وله ولهم لذاذات ومطالبُ متضادَّة ومتعارضة، لا يمكن الجمعُ بينها، بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء، فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته، وهم يريدون منه ذلك، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته، وإن لم يوافقهم آذَوْهُ وعذَّبوه، وسَعَوْا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم، فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك.

فهو في ألَمٍ ومشقةٍ وعناء وافقهم أو خالفهم، ولا سيما إذا كانتْ موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة، وإرادات فاسدة، وأعمال تضره في عواقبها، ففي موافقتهم أعظم الألم، وفي مخالفتهم حصول الألم.

فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف الألمين تخلُّصًا من أشدهما، وبإيثار المنقطع منهما لينجو من الدائم المستمر.

فمَنْ كان ظهيرًا للمجرمين من الظلمة على ظُلمهم، ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم، ومن أهل الفجور والشهوات على فُجورهم وشهواتهم ليتخلَّص بمظاهرتهم من ألم أذاهم؛ أصابه مِن ألَم الموافقة لهم عاجلاً وآجلاً أضعافُ أضعاف ما فر منه، وسُنَّةُ الله في خلقه أن يُعَذِّبَهُ بأيدي مَن أعانهم وظاهَرَهُمْ.

وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة، تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة، وسنةُ الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويُذلهم له بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه.

وإذا كان لا مفر من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم.

ولما كان زمن التألم والعذاب فصبرُه طويل، فأنفاسُه ساعات، وساعاتُه أيام، وأيامُه شهور وأعوام، سَلَّى سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلاً، ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلاً للقائه يُسليهم به، ويُسَكِّن نفوسهم، ويهون عليهم أثقاله؛ فقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5]، فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه وإتيانه، هان عليه ما هو فيه، وخفَّ عليه حمله.

ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس، وللشيطان، ولبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة علمه وتعبه يعود عليه وحده لا يشكره فيه غيره، كان أتم اجتهادًا وأوفر سعيًا؛ فقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].

وأيضًا فلا يتوهم متوهِّم أنَّ منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه، فإنه غني عن العالمين، لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً منه عليهم، بل أمرهم بما يعود نفْعُه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم، ونهاهم عما يعود مضرته وعَنَتُه عليهم في معاشهم ومعادهم، فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصة بهم.

واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببًا مُفْضِيًا إلى تَمَيُّزِ الخبيث من الطيب، والشقي من الغوي، ومن يصلح له ممن لا يصلح؛ قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} [آل عمران: 179]، فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختباره، فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم، وجيدهم من رديئهم، فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك الابتلاء والامتحان.

ثم لما كان الممتحَن لا بد أن ينحرِفَ عن طريق الصبر والمجاهدة لدواعي طبيعته وهواه وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به - وعده سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك ويكفره عنه؛ لأنه لما آمَنَ به والتزم طاعته، اقتضتْ رحمته أن كفَّر عنه سيئاته، وجازاه بأحسن أعماله.

ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه، وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على ألا يشرك به، فيصبر على هذه المحنة والفتنة ولا يطيعهما، بل يصاحبهما على هذه الحال معروفًا، ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله، وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما والإقبال على مَن خالفهما وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه.

ثم ذكر سبحانه حال مَن دخل في الإيمان على ضعف عزم، وقلة صبر، وعدم ثبات على المحنة والابتلاء، وأنه إذا أوذي في الله كما جرتْ به سنة الله، واقتضتْ حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى، لم يصبرْ على ذلك، وجزع منه، وفر منه ومن أسبابه كما يفر من عذاب الله، فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله؛ وهذا يدل على عدم البصيرة، وأن الإيمان لَم يدخلْ قلبَه، ولا ذاق حلاوته، حتى سوَّى بين عذاب الله له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله، وهذا حال مَن يعبُد الله على حرف واحدٍ، لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله، فهو مِن المفتونين المعذبين، وإن فرَّ مِن عذاب الناس له على الإيمان.

ثم ذكر حال هذا عند نصرة المؤمنين، وأنهم إذا نُصروا لجأ إليهم، وقال: كنتُ معكم، والله سبحانه يعلم مِن قلبه خلاف قوله!

ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وابتلاء قومه بطاعته، فكذبوه، فابتلاهم بالغرق ثم بعده بالحرق.

ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه، وما ردوا عليه، وابتلاهم بطاعته ومتابعته، ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به، وما صار إليه أمره وأمرهم، ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به، وما انتهت إليه حالهم وحاله، ثم ذكر ما ابتلى به عادًا وثمود وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده، ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات، ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنواع الكفار من المشركين، وأهل الكتاب، وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن.

ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا مِن أرضهم إلى أرضه الواسعة، فيَعبدونه فيها، ثم نبَّههم بالنَّقْلة الكُبرى مِن دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقْلتِهم الصُّغرى مِن أرضٍ إلى أرضٍ، وأخبرهم أنَّ مرجعهم إليه فلا قرارَ لهم في هذه الدار دون لِقائه، ثم بَيَّن لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه، بأنه يبوِّئهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فَسَلاَّهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله، وكانت مباءة لهم بأن بوَّأهم دارًا أحسن منها، وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد، وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكلهم على ربهم.

وأسأل الله أن يتوبَ عليك، ويشرح صدرك، وأن يجعلك أهلاً لقَبول الخير.