صفة الإحاطة لله عز وجل

خالد عبد المنعم الرفاعي

شاب أَشكَلتْ عليه فِقرةٌ في العقيدة الطحاوية، متعلقةٌ بصفة الإحاطة لله عز وجل، فسأل فيها شيخ بلدته، ودار بينهما خلافٌ وجدلٌ عن مفهوم صفة الإحاطة؛ لذا يريد شرحًا وتفسيرًا لمفهوم هذه الصفة.

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الأسماء والصفات -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أَشْكَل عليَّ أمرٌ متعلِّق بشرح فِقرة في العقيدة الطحاوية؛ جاء في شرح أبي العزِّ الحنفيِّ: "وليس المرادُ مِن إحاطته بخَلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدَّسة - تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا - وإنما هي إحاطةُ عظمةٍ وسَعةٍ وعلمٍ وقدرةٍ، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلةِ؛ كما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما السماوات السبع والأرَضون السبع وما بينهما في يد الرحمن، إلا كخَردلةٍ في يد أحدِكم.

ومن المعلوم - ولله المثلُ الأعلى - أن الواحد منَّا إذا كان عنده خردلةٌ، إن شاء قبضَها وأحاطَت بها قبضتُه، وإن لم يَشأْ جعلَها تَحتَه".

في أثناء كلامي مع شيخ بلدتنا، قلتُ له: إن الله إذا شاء أحاطَ بالكون من كلِّ جهةٍ، وإن لَم يَشأْ لم يَفعَل، فقال لي: لا يجوز أن يقال إلا: الله مُحيط بالكون من كل جهةٍ بذاته، وهي صفةٌ لا يجوز أن تتغيَّر، فقلتُ: ولكن هذا يختلف عن كلام الشيخين أبي العز وابن تيميَّة، فقال بعضُ المحيطين به: هذا ما فهِمتَه أنتَ، ولكنَّ الأمرَ أنه لا يجوز أن يقال إلا: إن الله مُحيطٌ بذاته؛ فأَحببتُ التأكُّد مِن خلال كلام ابن تيميَّة في (درء التعارض) و(الرسالة العرشية).

يقول في (الرسالة العرشية): "ثم الذي في القرآن والسنَّة يُبيِّن أنه إذا شاء قبضَها وفعَل بها ما ذكَر كما يفعلُ يوم القيامة، وإن لم يَشأْ لم يفعَلْ، فهو قادرٌ على أن يَقبِضَها ويَدْحُوَها كالكرة، وفي ذلك مِن الإحاطة ما لا يَخفى، وإن شاء لم يَفعلْ ذلك، وبكلِّ حالٍ فهو مُباينٌ لها، ليس بِمحايثٍ لها، ومِن المعلوم أن الواحد منَّا إذا كان عنده خردلةٌ، إن شاء قبضَها فأحاطَت بها قبضتُه، وإن لم يَشأْ لم يَقبِضْها، بل جعَلها تحته، فهو في الحالتين مُباينٌ لها".

وقال في (الرسالة العرشية) أيضًا: "وأنه لا يَجوز أن تتوجَّهَ القلوبُ إليه إلا إلى العُلوِّ لا إلى غيره من الجهات على كلِّ تقديرٍ يُفرَضُ مِن التقديرات، سواء كان العرش هو الفلكَ التاسعَ أو غيرَه، سواء كان محيطًا بالفَلَكِ كُرِّيَّ الشكل، أو كان فوقَه مِن غير أن يكون كُرِّيًّا، سواء كان الخالق سبحانه محيطًا بالمخلوقات كما يُحيط بها في قبضتِه، أو كان فوقَها مِن جهة العُلو منَّا التي تَلي رؤوسنا، دون الجهة الأخرى"؛ انتهى.

والسؤال الذي أبحثُ عن إجابته هنا: كيف يقول شيخ بلدتنا وتلميذُه: الله مُحيط من كلِّ جهةٍ، ولا يجوز إلا أن يكون محيطًا، وفي الوقت نفسه ليس العالَم في ذاته كالفَلَك، عِلمًا بأن هذا الشيخ يُثبتُ أن الله في العُلو، وأنه ليس في كلِّ مكانٍ.

فأَرجو التوضيحَ جزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

أما بعدُ:

فشكَر الله لك - أيُّها الأخُ الكريم - حِرصَك على معرفة الحق، وقصد الوصول للقولِ الفصلِ، والوقوف على حقيقة تلك المسألة العَقَديَّة الكبيرة؛ فذلك من أسنى المقاصد، وأهمِّ ما يجب معرفتُه على المكلَّف النَّبيل، وحَرِيٌّ بطلاب العِلم أن يسلكوا هذا الباب في كلِّ وادٍ، وأن يأخذوا في فَهْمِه كلَّ طريق، ويَلِجوا كلَّ مَضِيق، ويركبوا كلَّ صعب وذَلُول؛ بقصد الوصول إلى المعرفة التامَّة، والوقوف على حقيقته، واللهَ أسألُ أن يَهدِيَنا جميعًا، وأن يجعلَ لنا فُرقانًا مبينًا.

أما صفةُ الإحاطة فإنها من صفات الله تعالى الذاتية، فهو سبحانه قد أحاط بكلِّ شيءٍ، أحاط ببواطنِ الأشياء وخفاياها، وما تَحويه الضمائرُ وتُخفيه الصدورُ، وإحاطتُه الذاتية كائنةٌ بظواهرها وبجميع ما خَلَق، وهذا قول أهل السُّنَّة والجماعة.

والإحاطة في الأصل: هي الاستيلاء على الشيء من كلِّ جهاته؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20].

وصفةُ الإحاطة بمعنى القهر والجَبروت؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]، وقال: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]؛ أي: مُستولٍ عليهم، ومحيطٌ بعلومهم، ومحيطٌ بجميع المخلوقات.

والمحيط من أسماء الله الحسنى الثابتة بالكتاب؛ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19]، و"المحيط: هو الذي أحاطتْ قدرتُه بجميع خلْقه، وهو الذي أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، وأحصَى كلَّ شيءٍ عددًا".

أما كلام أبي العز شارح الطحاوية، فليس فيه نفيُ أن الإحاطة صفةٌ ذاتيةٌ لله، كما أنه لم يَقُل: إنها من صفات الأفعال المتعلِّقة بمشيئة الله وقدرته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يَفْعَلْها؛ وإنما نفَى أبو العزِّ المعنى الباطلَ للإحاطة، وهو تشبيه إحاطة الله بإحاطة الفَلَك الأعلى لِما هو أَدنى منه؛ حيث يكون مُحايثًا له، داخلًا فيه، وأثبَت المعنى الصحيح بذِكره حديثَ ابن عبَّاس، غيرَ أن كلام أبي العزِّ مختصَرٌ، وفيه بعضُ الإجمال، ولعل هذا ما سبَّب لك اللَّبسَ، وهناك أبحاثٌ كثيرة مُطوَّلة في مواضعَ كثيرةٍ مِن كُتب شيخَيِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ وابن القيِّم، وسأَنقُل لك بعضَ كلامهما المفصَّل؛ ليَظهَر لك وجهُ المسألة؛

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (6/ 567): "والله تعالى محيطٌ بالمخلوقات كلِّها إحاطةً تَليق بجلاله؛ فإن السماواتِ السبعَ والأرضَ في يده، أصغرُ من الحِمَّصة في يد أحدِنا"، وقال في "شرح حديث النزول" (ص: 190 -191) "وأيضًا، فقد ثبَت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيرُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم أنت الأولُ فليس قبلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدَك شيءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطنُ فليس دونَك شيءٌ»، وهذا نصٌّ في أن الله ليس فوقَه شيءٌ، وكونه الظاهرَ صفةٌ لازمةٌ له مثل كونِه الأوَّلَ والآخرَ، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرًا ليس فوقه شيءٌ، ولا يزال باطنًا ليس دونه شيءٌ.

وأيضًا فحديثُ أبي ذرٍّ وأبي هريرة وقتادةَ المذكورُ في تفسير هذه (الأسماء الأربعة) الذي فيه ذِكرُ الإِدْلاء - قد ذكَرناه في (مسألة الإحاطة)، وهو مما يُبيِّن أن الله لا يزال عاليًا على المخلوقات مع ظهوره وبطونِه، وفي حالِ نزوله إلى السماء الدنيا.

وأيضًا فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فمَن هذه عظمتُه يَمتنع أن يَحصُره شيءٌ مِن مخلوقاته، وعن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديثُ صحيحةٌ اتَّفق أهل العلمِ بالحديث على صحَّتها وتلقِّيها بالقَبول والتصديق".

وقال أيضًا في معرض كلامه على معنى البطون في "مجموع الفتاوى" (5/ 244): "وقال: «أنت الباطنُ فليس دونَك شيءٌ»، فيهما معنى الإضافة؛ إذ لا بد أن يكونَ البطونُ والظهورُ لمن يَظهَرُ ويَبطُن، وإن كان فيهما معنى التجلِّي والخفاء، ومعنى آخر كالعُلوِّ في الظهور، فإنه سبحانه لا يُوصَف بالسُّفولِ، لكن إنما يَظهَرُ من الجهة العالية علينا، فهو يَظهَر عِلمًا بالقلوب وقصدًا له، ومُعاينةً إذا رُئِيَ يوم القيامة، وهو بادٍ عالٍ ليس فوقَه شيءٌ، ومن جهة أخرى يَبطُنُ فلا يُقصَدُ منها ولا يُشْهَدُ، وإن لم يكن شيءٌ أَدنى منه؛ فإنه من ورائهم مُحيطٌ، فلا شيءَ دونه سبحانه".

ومن المواضع التي يُفهَمُ منها معنى الإحاطة الذاتية لله بمخلوقاته - ما قاله في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بِدَعهم الكلاميَّة (4/ 37): "... فأخبَر أنه الظاهر الذي ليس فوقَه شيءٌ، وأنه الباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ، فهذا خبرٌ بأنه ليس فوقه شيءٌ في ظهوره وعُلوِّه على الأشياء، وأنه ليس دونه شيءٌ، فلا يكون أعظمَ بطونًا منه؛ حيث بطَن من الجهة الأخرى من العباد، جمَع فيها لفظَ البطون ولفظَ الدون - وليس هو لفظ الدون - بقوله: وأنت الباطنُ فليس دونَك شيءٌ، فعُلِمَ أن بطونَه أوجَب ألَّا يكون شيءٌ دونَه، فلا شيءَ دونَه باعتبار بطونه، والبطونُ يكون باعتبار الجهة التي ليستْ ظاهرةً، ولهذا لم يقُل: وأنت السافلُ، ولهذا لم يَجِئ هذا الاسم الباطن في قوله: وأنت الباطنُ فليس دونَك شيءٌ، إلا مقرونًا بالاسم الظاهر الذي فيه ظهورُه وعُلوُّه، فلا يكون شيءٌ فوقَه؛ لأن مجموع الاسمينِ يَدُلَّان على الإحاطة والسَّعة، وأنه الظاهر فلا شيءَ فوقه، والباطنُ فلا شيء دونه، ولم يَقُلْ: أنت السافل - ولا وُصِفَ الله قطُّ بالسُّفول؛ لا حقيقةً ولا مجازًا - بل قال: ليس دونك شيءٌ، فأخبَر أنه لا يكون شيءٌ دونه هناك؛ كما جاء في الأثر الذي ذكَره مالك في الموطأ أنه يقال: "حسبنا الله وكفَى، سَمِع الله لمن دعا، وليس وراءَ الله مَرمًى"، فلا مَرمى وراءَه، ولا شيءَ دونَه في معنى اسمه الباطن؛ ليُبيِّنَ أنه ليس يَخرُج عنه مِن الوجهين جميعًا؛ وذلك لأن ما في هذا المعنى مِن نفيِ الجهة، شيءٌ دونه هو بالنسبة والإضافة التقديرية، وإلَّا ففي الحقيقة هو عالٍ أيضًا من هناك، والأشياءُ كلُّها تحتَه".

وقد أظهَر المعنى المشار إليه شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين"، وهو يشرح حديث أبي هريرة السابق (ص 21): "..... وأما تعبُّده باسمه الباطنِ، فأمرٌ يَضيقُ نطاقُ التعبير عن حقيقته، ويَكِلُّ اللسان عن وصفِه، وتَصْطَلِمُ الإشارة إليه، وتَجفو العبارة عنه، فإنه يَستلزم معرفةً بريئةً مِن شوائب التعطيل، مُخَلَّصةً مِن فَرْثِ التشبيه، منزَّهةً عن رِجس الحلول والاتحاد، وعبارةً مؤدِّيةً للمعنى كاشفةً عنه، وذوقًا صحيحًا سليمًا من أذواق أهل الانحراف، فمَن رُزِق هذا، فَهِمَ معنى اسمِه الباطن، وصحَّ له التعبُّد به، وسبحان الله! كم زلَّت في هذا المقام أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، ونَظَمَ فيه الزنديقُ بلسان الصِّدِّيق! فاشتبَه فيه إخوانُ النصارى بالحُنفاء المخلصين؛ لِنُبُوِّ الأفهام عنه، وعِزَّةِ تَخلُّص الحقِّ مِن الباطل فيه، والتباسِ ما في الذهن بما في الخارج، إلا على مَن رزَقه الله بصيرةً في الحق، ونورًا يُميِّز به بين الهدى والضلال، وفُرقانًا يُفرِّق به بين الحق والباطل، ورُزِق مع ذلك اطِّلاعًا على أسباب الخطأ وتفرُّقِ الطرق ومثارِ الغلط، فكان له بصيرة في الحق والباطل، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وباب هذه المعرفة والتعبُّد هو معرفة إحاطة الربِّ تبارك وتعالى بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلَّها في قبضتِه، وأن السماواتِ السبعَ والأرضين السبع في يده كخردلةٍ في يد العبد؛ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]؛ ولهذا يَقرُنُ سبحانه بين هذين الاسمين الدالَّيْنِ على هذين المعنيين: اسم العُلو الدال على أنه الظاهر، وأنه لا شيءَ فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيءَ دونه؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

هو تبارَك وتعالى كما أنه العالي على خَلْقه بذاته فليس فوقه شيءٌ، فهو الباطن بذاته فليس دونَه شيءٌ، بل ظهَر على كل شيءٍ فكان فوقَه، وبطَن فكان أقربَ إلى كل شيء مِن نفسه، وهو مُحيطٌ به؛ حيث لا يُحيط الشيءُ بنفسه، وكلُّ شيءٍ في قبضتِه، وليس شيءٌ في قبضة نفسِه، فهذا أقربُ لإحاطة العامَّة....

إلى أن قال: "وبطونُه سبحانه إحاطتُه بكل شيء؛ بحيث يكون أقربَ إليه من نفسه، وهذا قربٌ غيرُ قربِ المحبِّ مِن حبيبه، هذا لونٌ وهذا لونٌ، فمَدارُ هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتانِ: زمانيَّة ومكانيَّة، فأحاطت أوَّليَّتُه وآخِريتُه بالقَبل والبَعد، فكلُّ سابق انتهى إلى أوليَّته، وكل آخرٍ انتهى إلى آخِريَّته، فأحاطتْ أوَّليَّته وآخريَّته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريَّتُه وباطنيَّتُه بكل ظاهر وباطنٍ، فما مِن ظاهرٍ إلا واللهُ فوقَه، وما مِن باطنٍ إلا والله دونَه، وما مِن أوَّلٍ إلا واللهُ قبلَه، وما مِن آخرٍ إلا والله بعدَه، فالأولُ قِدَمُه، والآخر دوامُه وبقاؤه، والظاهر عُلوُّه وعظمتُه، والباطن قربُه ودُنُوُّه، فسبَق كلَّ شيءٍ بأوليَّتِه، وبقِيَ بعد كلِّ شيءٍ بآخريَّتِه، وعلا على كل شيءٍ بظهوره، ودنا من كلِّ شيءٍ ببطونِه، فلا تُواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يَحجُبُ عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطنُ له ظاهر، والغيب عنده شهادةٌ، والبعيد منه قريبٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريَّته، والآخر في أوَّليتِه، والظاهرُ في بطونه، والباطنُ في ظهورِه، لم يزَل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا". اهـ.

وقال في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 422): "وبطونُه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيءٌ"، وقال في " مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (ص: 483- 487): وهو يتكلَّم عن معنى قرب الله تعالى من عباده المؤمنين: "... والذي يُسهِّل عليك فَهْمَ هذا: معرفةُ عظمة الربِّ وإحاطته بخلْقه، وأن السماواتِ السبعَ في يده كخردلةٍ في يد العبد، وأنه سبحانه يَقبِضُ السماوات بيده، والأرضَ بيده الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، فكيف يَستحيل في حقِّ مَن هذا بعضُ عظمتِه أن يكون فوق عرشه، ويَقْرُبَ مِن خلقه كيف شاء وهو على العرش؟!

وبهذا يزول الإشكال عن الحديث الذي رواه الترمذيُّ من حديث الحسن عن أبي هريرة قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّكم دلَّيتُم بحبلٍ إلى الأرض السُّفلى، لهبَطْتُم على الله، ثم قرأ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]»؛ قال الترمذيُّ: هذا حديث غريبٌ من هذا الوجه، وفسَّر بعضُ أهل العلم هذا الحديث، وقالوا: إنما يَهبِط على عِلم الله وقُدرته وسلطانه، وعِلمُ الله وقدرتُه وسلطانُه في كلِّ مكان، وهو على العرش كما وصَف في كتابه؛ هذا آخر كلامه.

إلى أن قال: "بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن، فإنه سبحانه محيطٌ بالعالم كلِّه، وأن العالم العُلويَّ والسفليَّ في قَبضته؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]، فإذا كان محيطًا بالعالَم، فهو فوقَه بالذات، عالٍ عليه من كلِّ وجهٍ وبكلِّ معنًى، فالإحاطةُ تتضمَّن العلوَّ والسَّعة والعظمةَ، فإذا كانت السماوات السبعُ والأرَضون السبع في قبضته، فلو وقَعت حَصاةٌ أو دُلِّي بحبلٍ، لسقَط في قبضته سبحانه، والحديث لم يُقَلْ فيه: إنه يَهبِط على جميع ذاته، فهذا لا يَقوله ولا يَفهَمه عاقلٌ، ولا هو مذهبُ أحدٍ مِن أهل الأرض البتَّةَ؛ لا الحلولية ولا الاتحادية ولا الفِرْعونية، ولا القائلون بأنه في كلِّ مكانٍ بذاته، وطوائفُ بني آدم كلُّهم متَّفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم.

فقوله: «ولو دلَّيتُم بحبلٍ، لهبطتم على الله»، إذا هبَط في قبضته المحيطة بالعالم، هبَط عليه والعالَمُ في قبضتِه وهو فوقَ عرشِه، ولو أن أحدَنا أمسَك بيده أو برِجله كُرةً قبَضَتْها يدُه من جميع جوانبها، ثم وقعتْ حَصاةٌ مِن أعلى الكرة إلى أسفلها، لوقعتْ في يده وهبَطت عليه، ولم يَلزَم أن تكون الكرةُ والحصاةُ فوقَه وهو تحتَها، ولله المثلُ الأعلى ...،

وأما تأويل الترمذيِّ وغيره بالعلم، فقال شيخُنا: هو ظاهرُ الفساد من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته، فإنما يدلُّ على الإحاطة، والإحاطة ثابتةٌ عقلًا ونقلًا وفطرةً كما تقدَّم ... إلى أن قال: فقد ظهَر أنه على كل تقديرٍ لا يجوز التوجُّه إلى الله تعالى إلا مِن جهةِ العُلو، وأن ذلك لا يُنافي إحاطتَه وكونَه في قبضته، وأنه الباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، وأن أحدَ الأمرين لا ينفي الآخر، وأن إحاطته بخلْقه لا تنفي مُباينتَه لهم ولا عُلوَّه على مخلوقاته؛ بل هو فوق خلقِه محيطٌ بهم، مباينٌ لهم".

إذا عُرف هذا - سلَّمكَ الله – تَبيَّن لك أن صفة الإحاطة لله تعالى هي صفةٌ ذاتية لازمةٌ لله كعُلوِّه وعظمته وقهرِه وبطونه، وكذلك اسمُه المحيطُ، وفي ظني أن الاشتباه وقَع عندك لِخَلْطكَ بين الإحاطة العامَّة وبين الإحاطة بالكافرين يوم القيامة، إن شاء فعَلها وإن شاء لم يَفعَلْها؛ كقبضِ السماوات والأرض يوم القيامة؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقبِضُ الله الأرض يوم القيامة، ويَطوي السماوات بيمينِه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوكُ الأرض؟».

هذا، وأنصحكَ بقراءة كتاب (شرح حديث النزول) قراءةً متأنِّيةً؛ ففيه الشفاء التامُّ لمثل هذه المسائل الكبار، وكتابِ (بيان تلبيس الجَهميَّة في تأسيس بِدَعِهم الكلامية)، عند كلامه عن القُرْبِ والدُّنُوِّ والعَظَمة، والعلوِّ والبطون والإحاطة، وغيرها من المواضع.

اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تَحكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يَختلفون، اهْدِنا لِما اختُلِفَ فيه مِن الحقِّ بإذنك، إنك تَهدِي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ