سؤال حول قاعدة: لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه
خالد عبد المنعم الرفاعي
سائل يسأل عن إمكانية تطبيق القاعدة الفقهية: لا يُنكَرُ المختَلَفُ فيه، وإنما يُنكَر المُجْمَعُ عليه - في مسائل العقيدة.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الفقه وأصوله - الدعوة إلى الله -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يُنكَرُ المختَلَفُ فيه، وإنما يُنكَر المُجْمَعُ عليه؛ هذه قاعدةٌ فقهيةٌ مهمةٌ، والمعمولُ به أن تُطبَّق هذه القاعدة في الفروع فقط، دون العقيدة، لماذا؟
مع أن الاختلافَ الواقع في الفروع وقَع مثله في العقيدة، فلماذا يترك الإنكار على الأول، وينكر على الثاني لدرجة التكفير؟
وإذا قيل للكافرين: لكم دينكم ولي دين، فمتي يَتَآلَفُ المسلمون وبينهم هذه الاختلافات العقدية الشديدة لدرجة التكفير أو التبديع؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فتعجُّبُك - أيُّها الأخُ الكريم - في محلِّه لو كان الأمرُ كما ظننتَه؛ إذ الخلافُ واقعٌ في الفُروع كما هو واقعٌ في الأُصول، فلماذا إذًا يُنكَر على مَن خالف في المسائل العقديَّة، بل ويُبدَّعُ إن كان الخلافُ في أصلٍ من الأُصول، ولا يُنكَر على مَن خالف في الفُروع الفقهيَّة؟!
هكذا ظننتَ المسألة، كما وقع في هذا الظَّنِّ كثيرون غيرُك، وليس الأمر كذلك؛ فالمسائلُ الخلافيَّة - سواءٌ العلميَّة العقديَّة، أو العمليَّة الفقهيَّة - يُنكَر فيها على المُخالِف بضوابط الإنكار؛ من بيان الحقِّ بعلمٍ وتجرُّد وإنصافٍ وبالحكمة والحُسنى، مع بيان دليل القول الصَّحيح من الكتاب والسُّنَّة، وكذلك مَن قال به مِن أهل العلم والأئمَّة المتَّبعين، وإنما دخل الخطأ في هذه المسألة الجليلة مِن جهة أنَّ العلماء نصُّوا في مباحث الحِسبة على عدم الإنكار في المسائل الاجتهاديَّة التي لا يكونُ فيها أدلَّة قاطعةٌ، وإنَّما مدارُها على الظن، والظَّنُّ ليس عليه دليلٌ عند هؤلاء، وإنما هو من جنس ميل النُّفوس إلى شيء دون شي.
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (30/ 80): "ولهذا قال العُلماءُ المُصنِّفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر من أصحاب الشَّافعي وغيره: إنَّ مِثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكَر باليد، وليس لأحدٍ أن يُلزِم الناسَ باتِّباعه فيها، ولكن يُتكلَّمُ فيها بالحُجج العلميَّة؛ فمَن تبيَّن له صحَّةُ أحد القولين تبعه، ومن قلَّد أهلَ القول الآخر فلا إنكار عليه".
وقال رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96): "وقولهم: مسائلُ الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القول بالحُكم أو العمل؛ أمَّا الأولُ: فإذا كان القولُ يخالِفُ سنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجب إنكارُه وفاقًا، وإن لَم يكُنْ كذلك فإنَّه يُنكَر؛ بمعنى: بيان ضعفه عند مَن يقول: المُصيبُ واحدٌ، وهم عامَّةُ السَّلَف والفُقهاء، وأمَّا العملُ فإذا كان على خلاف سنَّةٍ أو إجماعٍ وجب إنكارُه أيضًا بحسب درجات الإنكار؛ كما ذكرناه مِن حديث شارب النَّبيذ المُختلَف فيه، وكما يُنقضُ حُكمُ الحاكم إذا خالَف سنَّةً، وإن كان قد اتَّبع بعضَ العلماء.
وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنَّةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتهاد فيها مَساغٌ - فلا يُنكَر على من عمل بها مُجتهدًا أو مُقلِّدًا، وإنَّما دخل هذا اللَّبسُ مِن جهة أنَّ القائل يعتقدُ أنَّ مسائل الخلاف هي مسائلُ الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من النَّاس، والصَّوابُ الذي عليه الأئمَّةُ أنَّ مسائل الاجتهاد ما لَم يكن فيها دليلٌ يجبُ العملُ به وُجُوبًا ظاهرًا، مثل حديثٍ صحيحٍ لا مُعارِض من جنسه، فيسُوغُ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهادُ؛ لتعارُض الأدلَّة المُتقاربة، أو لخفاء الأدلَّة فيها، وليس في ذِكر كون المسألة قطعيَّةً طعنٌ على مَن خالفها من المُجتهدين كسائر المسائل التي اختَلف فيها السَّلفُ، وقد تيقَّنَّا صحَّة أحد القولين"؛ اهـ.
هذا، ومَن تتبَّع أقوالَ الصَّحابة فيما اختلفوا فيه في باب العقائد وفي الفروع وجد أنَّهم أنكر بعضُهم على بعضٍ ببيان الدَّليل والقولِ الراجح في الأمرين؛ فعائشةُ رضي الله عنها أنكرَتْ على مَن قال بسماع الأموات، وهي مسألةُ السَّماع المشهورة، خالَفها الصحابةُ كما خالفَتهم في مسألة تعذيب الميِّت ببُكاء أهله عليه، وأنكرَت على من قال برُؤية رسول الله ربَّه ليلة الإسراء رؤيةً عينيَّةً، وهذه مسائل عقديَّة، وكذلك تناظر ابنُ الزُّبير مع ابن عباس في مُتعة الحجِّ، وكان ابن الزُّبير يرى الإفراد، وابنُ عباس يرى وُجُوب التمتُّع للآفاقيِّ، وإنكارُ عائشة على عبدالله بن عمرو في وُجُوب نقض المرأة لضفائرها في الغُسل مشهورةٌ، ومن ذهب يتتبَّعُ ذلك في مظانِّه لوجده كثيرًا جدًّا؛ أعني: إنكارَ الصَّحابة بعضهم على بعضٍ في الفروع الفقهيَّة الذي وقع فيه الخلافُ ببيان الدليل، مع تزييف القول الآخر، بل إنَّ فقهاء الحديث نصُّوا على أنَّ من شرب النبيذَ المختلف فيه أُقيم عليه الحدُّ.
وقد قرَّر الإمام ابنُ القيِّم تلك القاعدة فقال في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (3/ 223 - 225): "كما أنَّ المكِّيِّين والكوفيِّين لا يجوزُ تقليدُهم في مسألة المُتعة والصَّرف والنَّبيذ، ولا يجُوزُ تقليدُ بعض المدنيِّين في مسألة الحُشُوش، وإتيان النِّساء في أدبارهنَّ، بل عند فقهاء الحديث أنَّ من شرب النبيذ المُختلف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللِّسان، بل عند فُقهاء أهل المدينة يُفسَّق، ولا تُقبل شهادتُه، وهذا يرُدُّ قولَ من قال: لا إنكار في المسائل المختلَف فيها، وهذا خلافُ إجماع الأئمَّة، ولا يُعلم إمامٌ من أئمَّة الإسلام قال ذلك، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على أنَّ من تزوَّج ابنتَه من الزِّنا يُقتل، والشَّافعيُّ وأحمدُ ومالكٌ لا يرون خلاف أبي حنيفة فيمن تزوَّج أُمَّه وابنتَه أنَّه يُدرأ عنه الحدُّ بشُبهةٍ دارئةٍ للحدِّ، بل عند الإمام أحمد رضي الله عنه يُقتلُ، وعند الشافعي ومالك يُحدُّ حدَّ الزِّنا في هذا، مع أن القائلين بالمُتعة والصَّرف معهم سنَّة، وإن كانت منسوخةً، وأربابُ الحِيَل ليس معهم سنَّة ولا أثرٌ عن صاحبٍ، ولا قياسٌ صحيح".
ثمَّ قال: "خطأ قول مَن قال: لا إنكار في المسائل الخلافيَّة: وقولهم: إنَّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القول والفتوى أو العمل، أمَّا الأول: فإذا كان القولُ يخالِف سنَّةً أو إجماعًا شائعًا، وجب إنكارُه اتِّفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومُخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العملُ فإذا كان على خِلاف سنَّةٍ أو إجماعٍ وجب إنكارُه بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيهٌ: لا إنكار في المسائل المُختلَف فيها، والفقهاءُ من سائر الطَّوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالَف كتابًا أو سنَّةً، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنَّة ولا إجماعٌ وللاجتهاد فيها مساغٌ، لم تُنكَر على من عمل بها مُجتهدًا أو مقلِّدًا.
وإنما دخل هذا اللَّبس مِن جهة أنَّ القائل يعتقدُ أنَّ مسائل الخلاف هي مسائلُ الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من الناس ممَّن ليس لهم تحقيقٌ في العلم.
والصَّوابُ ما عليه الأئمَّةُ: أنَّ مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العملُ به وجوبًا ظاهرًا، مثل: حديث صحيحٍ لا مُعارض له من جنسه فيسوغُ فيها - إذا عدم فيها الدَّليلُ الظَّاهرُ الذي يجبُ العملُ به - الاجتهادُ؛ لتعارض الأدلَّة أو لخفاء الأدلَّة فيها.
وليس في قول العالم: إنَّ هذه المسألة قطعيَّة أو يقينيَّةٌ، ولا يسوغ فيها الاجتهادُ - طعنٌ على من خالفها، ولا نسبةٌ له إلى تعمُّد خلاف الصَّواب، والمسائل التي اختلف فيها السَّلَف والخلَفُ، وقد تيقَّنَّا صحَّة أحد القولين فيها - كثيرٌ؛ مثل كون الحامل تعتدُّ بوضع الحمل، وأنَّ إصابة الزَّوج الثاني شرطٌ في حلِّها للأوَّل، وأنَّ الغُسل يجبُ بمجرَّد الإيلاج وإن لم يُنزِل، وأنَّ ربا الفضل حرامٌ، وأنَّ المُتعة حرامٌ، وأنَّ النَّبيذ المُسكِر حرام، وأنَّ المُسلم لا يُقتلُ بكافر.
وأنَّ المسح على الخُفَّين جائزٌ حَضرًا وسفرًا، وأنَّ السُّنَّة في الرُّكُوع وضعُ اليدين على الرُّكبتين دون التطبيق، وأنَّ رفع اليدين عند الرُّكُوع والرَّفعِ منه سنَّةٌ، وأنَّ الشُّفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأنَّ الوقف صحيحٌ لازم، وأنَّ دية الأصابع سواءٌ، وأن يد السَّارق تُقطعُ في ثلاثة دراهم، وأنَّ الخاتم من حديدٍ يجوزُ أن يكون صَداقًا، وأنَّ التيمُّم إلى الكوعين بضربةٍ واحدةٍ جائزٌ، وأنَّ صيام الوليِّ عن الميِّت يُجزئُ عنه، وأنَّ الحاجَّ يُلبِّي حتى يرمي جمرةَ العقبة، وأنَّ المُحرم له استدامةُ الطِّيب دون ابتدائه.
وأنَّ السُّنَّة أن يُسلِّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلامُ عليكم ورحمةُ الله، السَّلام عليكم ورحمةُ الله، وأنَّ خيار المجلس ثابتٌ في البيع، وأنَّ المُصراة يُرَدُّ معها عوضُ اللَّبن صاعًا من تمرٍ، وأنَّ صلاة الكُسُوف برُكُوعين في كُلِّ ركعةٍ، وأنَّ القضاء جائزٌ بشاهدٍ ويمينٍ، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرَّح الأئمَّةُ بنقض حُكم من حكَم بخلاف كثيرٍ من هذه المسائل، من غير طعنٍ منهم على مَن قال بها.
وعلى كُلِّ حالٍ؛ فلا عُذر عند الله يوم القيامة لمن بلَغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا مُعارض لها، إذا نبذها وراءَ ظهره، وقلَّد من نهاه عن تقليده"؛ اهـ.
وقال الإمامُ النوويُّ في شرحه على صحيح مسلم (2/ 24): "ولم يزل الخلافُ في الفروع بين الصَّحابة والتابعين فمَن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا يُنكِر مُحتسبٌ ولا غيرُه على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمُفتي ولا للقاضي أن يَعترض على مَن خالفه إذا لم يُخالِف نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا، والله أعلم".
أمَّا الخلافُ في المسائل العقديَّة فيُنكَر على المُخالف، وليس معنى الإنكار أن يقال له: أنت كافرٌ، أو يُخاطَب بقولٍ خشنٍ؛ فهذا خلافُ ما أَمرنا اللهُ به، حتَّى وإن كان الإنسانُ يعتقدُ ضلالَه، بل ويكرهه في الله، إلاَّ أنَّه مأمورٌ أن يُناصحَه بالحكمة، والموعظة الحسنة، ويُجادل المُخالفين في العقيدة بالتي هي أحسنُ؛ فيصبرُ عليهم، ويعفُو عنهم.
وما أحسن ما قال أديبُ الإسلام سيد قطب وهو يُبيِّن السبيل الأقوم لدعوة المُخالِفين في العقيدة في "ظلال القرآن" (2/ 938): "إنَّ كلمة الحقِّ في العقيدة لا يَنبغي أن تُجمجم، إنَّها يجبُ أن تبلُغ كاملةً فاصلةً، وليقُل مَن شاء من المعارضين لها كيف شاء، وليفعلْ مَن شاء من أعدائها ما يفعلُ؛ فإنَّ كلمة الحقِّ في العقيدة لا تملِّقُ الأهواء، ولا تُراعي مواقعَ الرَّغبات، إنَّما تُراعي أنَّ تصدع حتى تصل إلى القُلوب في قوَّةٍ، وفي نفاذٍ.
وكلمةُ الحقِّ في العقيدة حين تصدعُ تصلُ إلى مكامِن القلوب التي يَكمن فيها الاستعدادُ للهدى، وحين تُجمجم لا تلينُ لها القلوبُ التي لا استعداد فيها للإيمان، وهي القلوبُ التي قد يطمعُ صاحبُ الدَّعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة، إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين.
وإذًا فلتكُن كلمةُ الحقِّ حاسمةً فاصلةً كاملةً شاملةً، والهدى والضَّلالُ إنَّما مناطُهما استعدادُ القلوب وتفتُّحها، لا المداهَنةُ، ولا المُلاطَفةُ على حساب كلمة الحقِّ، أو في كلمة الحقِّ.
إنَّ القوَّة والحسم في إلقاء كلمة الحقِّ في العقيدة لا يعني الخُشُونة والفظاظة؛ فقد أمر اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس هنالك تعارُضٌ ولا اختلافٌ بين التَّوجيهات القرآنيَّة المتعدِّدة، والحكمةُ والموعظة الحسنة لا تُجافيان الحسمَ والفصل في بيان كلمة الحقِّ؛ فالوسيلةُ والطريقةُ إلى التبليغ شيءٌ غيرُ مادَّة التبليغ، وموضُوعه، والمطلوبُ هو عدمُ المداهنة في بيان كلمة الحقِّ كاملةً في العقيدة، وعدمُ اللِّقاء في مُنتصف الطُّرُق في الحقيقة ذاتها، فالحقيقةُ الاعتقاديَّة ليس فيها أنصافُ حُلولٍ.
ومنذ الأيام الأولى للدَّعوة كان الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يدعو بالحكمة والموعظة الحسَنة في طريقة التَّبليغ، وكان يُفاصلُ مُفاصلةً كاملةً في العقيدة، فكان مأمُورًا أن يقُول: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1، 2]، فيصفُهم بصفتهم، ويُفاصلُهم في الأمر، ولا يقبلُ أنصاف الحلول التي يعرضُونها عليه، ولا يُدهِن فيُدهِنون، كما يودُّون! ولا يقول لهم: إنَّه لا يطلبُ إليهم إلاَّ تعديلات خفيفة فيما هم عليه، بل يقول لهم: إنَّهم على الباطل المحض، وإنَّه على الحقِّ الكامل، فيصدعُ بكلمة الحقِّ عاليةً كاملةً فاصلةً، في أُسلوبٍ لا خُشُونة فيه ولا فظاظة".
وقال أيضًا " (4/ 2202): "... فلا تستبدُّ به الحماسةُ والاندفاعُ والغيرةُ فيتجاوزُ الحكمةَ في هذا كلِّه وفي سواه، وبالموعظة الحسنة التي تدخلُ إلى القلُوب برفقٍ، وتتعمَّقُ المشاعر بلُطفٍ، لا بالزَّجر والتأنيب في غير مُوجبٍ، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقعُ عن جهلٍ، أو حُسن نيَّةٍ؛ فإنَّ الرِّفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوبَ الشَّاردة، ويؤلِّف القلوبَ النَّافرة، ويأتي بخيرٍ من الزَّجر والتأنيب والتَّوبيخ.
وبالجدَل بالتي هي أحسنُ، بلا تحامُلٍ على المخالف، ولا ترذيلٍ له وتقبيحٍ؛ حتى يطمئنَّ إلى الدَّاعي، ويشعُر أن ليس هدفه هو الغلَبة في الجدَل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحقِّ؛ فالنفسُ البشريَّةُ لها كبرياؤها وعنادُها، وهي لا تنزلُ عن الرَّأي الذي تُدافع عنه إلاَّ بالرِّفق، حتى لا تشعُر بالهزيمة، وسُرعان ما تختلطُ على النفس قيمةُ الرَّأي وقيمتُها هي عند الناس، فتعتبرُ التنازلَ عن الرَّأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها.
والجدلُ بالحُسنى هو الذي يُطامنُ من هذه الكبرياء الحسَّاسة، ويُشعرُ المجادِل أنَّ ذاته مصُونةٌ، وقيمته كريمةٌ، وأنَّ الدَّاعي لا يقصدُ إلاَّ كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها في سبيل الله، لا في سبيل ذاته، ونُصرةِ رأيه، وهزيمة الرَّأي الآخر! ولكي يُطامن الدَّاعية من حماسته واندفاعه؛ يُشير النَّصُّ القرآنيُّ إلى أنَّ الله هو الأعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو الأعلمُ بالمهتدين؛ فلا ضرورة للَّجاجة في الجدل، إنَّما هو البيانُ، والأمرُ بعد ذلك لله".
وفَّقنا الله جميعًا لمعرفة الحقِّ والعمل به.