الخلوة في مكان العمل المختلط
خالد عبد المنعم الرفاعي
سيدة مُحَجَّبة تعْمَل في شركة خاصةٍ، وهي صارمة مع زملائها، ولا تسمح لأحدٍ بالتحدُّث معها إلا في إطار العمل، لكن أحيانًا يكون هناك اختِلاطٌ، وتسأل عن الحَلِّ لذلك؟
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - العلاقة بين الجنسين -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا سيدة أعمل مُوَظَّفة في شركة خاصة، والحمد لله مُحجَّبة، والكلُّ يَحترِمُني في مكان العمل، ولا يكون هناك اختلاطٌ أو تَعَدٍّ للحُدود بيننا، والحمدُ لله أنا صارِمةٌ مع زملائي، ولا أسمح لهم بالتحدُّث معي إلَّا في إطار العمَل.
لكن يَحدُث أحيانًا أن أكونَ وحدي مع محاسب الشركة، وهذا يُزعجني بالرغم مِن الاحتِرام المتبادَل، وأنا أجتَهِد في عدم الوُقُوع في الخلوة وأتجنَّبها، وذلك بالخروج مِن الشركة لحين رُجوع زملائي أو زميلاتي.
هذا الأمر يُقلقني لعِلمي أن الخلوة حرام، وأسعى لتجنُّبها، خاصَّة أنَّ كثيرًا من الزملاء يأخذون إجازات وأبقى وحدي أحيانًا في مكتبي أو مع زميلٍ واحد.
ومن ثَم لا أعلم هل عليَّ الخُروج مِن الشركة؟ أو أُغلق الباب على نفسي مِن الداخل لحين وُجود زميلٍ آخر؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فشكر الله لك أيتها الابنة الكريمة حِرْصك على الالتزام بحدود الشرْعِ، وعدم الوُقُوع فيما حرَّمَهُ اللهُ تعالى.
ولا يخفى على مِثْلِك أنَّ الاختلاطَ في أماكن العمل مُحَرَّمٌ ومنكَرٌ، وقد فتح أبواب الفساد والفِتَن على المجتمعات الإسلامية، ولا يتوقف عالِمٌ بالقول بِحُرْمَتِه، لا سيما لو أُضيفت إليه الخلوة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها.
والشارع الحكيم قد حرَّم الخلوة لكونها ذريعة للشَّرِّ والفساد، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَخْلُونَّ رجلٌ بامرأة إلا مع ذي مَحْرَم»؛ متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»؛ رواه الترمذي وأحمد.
فالخلوةُ بالأجنبية حرامٌ بالاتفاق في كل الأوقات، وعلى كل الحالات؛ كما قال أبو العباس القرطبي في كتابه "المُفْهِم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (15 /419): "حرَّم الخلوة بالأجنبيَّة لأنَّه مَظِنَّة الفتنة، والأصلُ أنَّ كلَّ ما كان سببًا للفتنة فإنَّه لا يجوز؛ فإنَّ الذريعة إلى الفساد سدُّها، إذا لم يُعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النَّظَر الذي قد يُفضي إلى الفِتْنة محرَّمًا، إلاَّ إذا كان لحاجة راجِحة؛ مثل نظر الخاطِب والطَّبيب وغيرهما، فإنَّه يُباح النَّظَر للحاجة مع عدم الشهوة".
وجاء في الموسوعة الفقهية: "وقد اتفق الفقهاءُ على أن الخلوة بالأجنبية مُحَرَّمة، وقالوا: لا يخلون رجلٌ بامرأة ليستْ منه بمحرم، ولا زوجة، بل أجنبية؛ لأنَّ الشيطانَ يُوسوس لهما في الخلوة بفِعْلِ ما لا يحل". اهـ.
هذا، وضابطُ الخلْوة أن يكونَ الرجلُ والمرأة مُنفردين في مكانٍ يخفى فيه منظرهما وصوتهما على الناس، غير أنَّ بعض أهل العلم قد قيَّد الخلوة المحرَّمة بالأمن مِن دخول ثالث عليهما، كما في "حواشي الشرواني والعبَّادي على تُحفة المحتاج في شرح المنهاج" (8/ 269) قال: "المدارُ في الخلْوة على اجتماع لا تؤمن معه الريبة عادة، بخلاف ما لو قطع بانتفائها في العادة".
وهذا القيدُ يُفيد التخفيف في أماكن العمل التي يمكن في أي وقت دخول شخص آخر على المُختلين إذا كانت الأبوابُ والنوافذُ مفتوحةً، كما يدخل فيه أيضًا ما تَنوينَ فِعْله مِن دخولك أحد المكاتب وإغلاقها عليك حتى يأتي من تنقطع به الخلوة.
والحاصلُ أن عمَلك في تلك الشركة بالصورة التي تُعَرِّض للاختلاط والخلوة المحرمة - لا يجوز شرعًا، إلا أن تكوني مضطرة للعمل فلا بأس بالبقاء بقَدْر تلك الضرورة، مع التحلِّي بالصفات الطَّيِّبة التي ذكرتِ بعضًا منها في تعامُلك مع الرجال الأجانب، إلى أن ييسرَ اللهُ لك عملاً غير مختلط.
وفقك الله لكل خيرٍ، ورزقنا وإياك رزقًا حلالاً طيبًا.