معنى كلمة (التَّمَاهِي) وأصلها اللغوي

وجاءت دلالة الصيغة تؤكد هذا المعنى، فالكلمة على وزن ((تَفَاعُل)) المقلوب إلى ((تَفَالُع))، وهذا الوزن من معانيه أنه مُطَاوِع (فَاعَلْتُ) نحو: باعَدْتُهُ فَتَبَاعَد؛ انظر: "المفصَّل" للزمخشري (1/53)، وهو الوزن المناسب للمعنى المراد

  • التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

ما معنى كلمة التَّمَاهِي؟ وكيف نستخرج جذر هذه الكلمة؟

الإجابة:

شاع في الآونة الأخيرة على ألسنة المحدثين - وخاصة في مجالات: علم النفس والسياسة والنقد الأدبي - استعمال لفظ التماهي؛ ومن ذلك قولنا: "التماهي مع ثقافة الغرب قد بلغ ببعض الناس حدّ التبعية".

 

ومصطلح "التَّمَاهِي" Identification، يفسره البعض بالتَّقَمُّص أو التَّوَحُّد، ويُعَرِّفُهُ عُلماء النفس بأنه: "سَيْرُورَة سيكولوجية في بناء الشخصية، تبدأ من المحاكاة اللاشعورية، وتتلاحق بالتمثيل ثم الاجتياف (الاستدخال أو التَّقَمُّص) للنموذج".

 

وتُفَسَّر عملية التَّمَاهِي في مجال علم النفس بما يلي:

- مُلاحظة الطفل أنه يشبه شخصاً آخر، ثم مشاركة الطفل لهذا الشخص انفعالاته، ليس تقليداً فحسْب؛ فالطفل بالتماهي يتبنى جميع السِّمات والاتجاهات والقِيم التي يعرضها النموذج القُدوة، أما التقليد فإنه لا يَتَعَدَّى تقليد الطفل حركات النموذج وسلوكياته فقط.

 

- والتعلم عن طريق الملاحظة والتقليد لا يتطلب وجود روابط عاطفية مع النموذج، في حين أن التماهي يتطلب ذلك.

 

- أن سلوك المُتَعَلِّم عن طريق التقليد قابل للتغَيُّر، في حين أن السلوك الذي يَتَمَثَّلُهُ الطفل عن طريق التَّمَاهِي يكون ثابتاً نِسْبِيّاً.

 

ثم خرج المصطلح من مجال علم النفس إلى دلالة أكثر اتساعاً وهي (التماهي بالمُتَسَلِّط)، وهو أحد الأساليب الدفاعية للإنسان المقهور أو الفئة المقهورة.

 

ويُعَرِّفُهُ الدكتور مصطفى حجازي - في كتابه: "سيكولوجية الإنسان المقهور"، الصادر عن معهد الإنماء العربي (ص 127)- بأنه "استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المُتَسَلِّط؛ أملاً في الخلاص".

 

وتأخذ هذه الظاهرة ثلاث صور:

الأولى: التماهي بأحكام المُتَسَلِّط.

الثانية: التماهي بعدوان المُتَسَلِّط.

الثالثة: في آخر أشكال التماهي بالمُتَسَلِّط يصل الاستعلاء أخطر درجاته، لأنه يتم بدون عنف ظاهر، بل من خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المُتَسَلِّط.

وهنا يكون الضحية قد خضع لعملية (غسيل مخ) من خلال حرب نفسية مُنَظَّمَة لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة.

يقول الدكتور مصطفى حجازي في المصدر السابق (ص139، 140): "وأقصى حالات التماهي المُتَسَلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قِيَم النِّظام، والانضباط والامتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قِيَم تخدم - بما لا شك فيه - مصلحة ذلك المُتَسَلِّط؛ لأنها تُعَزِّز مواقعه وتصون مُكتَسَبَاتَهُ".

التَّمَاهي - إذن -: هو تماثل وتطابق ناتج عن رؤية مصلحية تصل إلى حد تغييب العقل، وتصل في التوصيف الأخلاقي إلى النفاق والكذب مُجْتَمِعَيْنِ.

 

وهذا المعنى قال عنه ابن خلدون في "مقدمته"(1/196): "أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونِحْلَتِه وسائر أحوالِهِ وعوائِدَهُ؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها،،، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتَشَبَّهَت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه - والله أعلم - من أن غَلَبَ الغَالِبِ لها ليس بعصبيةٍ ولا قوة بَأْسٍ، إنما هو بما انْتَحَلَتْهُ من العَوَائِد والمذاهِب".

 

والتَّمَاهِي يحرم المجتمع وثقافته رؤية البدائل المطروحة للأمر موضع البحث والنقاش، ويوصِلُه إلى الجمود الفكري والعقائدي، ويؤدِّي - في الأغلب - إلى الخروج عن الطريق الصحيح، وهو - في أضعف آثاره السلبية - يُعَطِّلُ اتخاذ القرار الصَّائِب، ويُؤَخِّر التَّقَدُّم ويحرم أي أُمَّةٍ قِسْماً مهماً من عقولها النَيِّرة، وهو سلوك مُدَان بكل المعاني.

وقد كان الإسلام شديد الحرص على نبذ هذا السلوك المَشِين، والحث على نقيضه، ونرى ذلك في قول النبي – صلى الله عليه وسلم - عندما سُئِل عن أعظم الجهاد فقال: ((كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.

 

أما في مجال النقد الأدبي؛ فيكثر استخدام هذا المصطلح؛ ومن ذلك: التَّمَاهِي بين المؤلف وشخصيات أعماله، والتماهي بين الراوي والبطل، والتماهي بين شخصيات العمل الأدبي... وغير ذلك.

 

أما الأصل اللغوي لكلمة (التماهي)، وكيفية استخراج جذرها:

فالكلمة مشتقة من جذر عربي هو (م و هـ)؛ جاء في " تاج العروس" (36/510): "من المجاز: أَمَاهَ الشيءُ: خُلِطَ"، وفى "المعجم الوسيط" (2/893): "أَمَاهَ الشيءَ بالشيءِ: خَلَطَهُ".

 

جاء بوزن (تَفَاعَل) من هذا الجِذْر فكان (تَمَاوَه) فَحَدَثَ قلبٌ مكانيٌّ بتقديم عين الكلمة على اللام، فصارت الكلمة (تَمَاهَوَ).

مثل: "نَاءَ" من "النَّأْي" قُدِّمَتِ اللامُ مَوضِع العَين ثم قلِبَتِ الياء ألِفاً فَوزْنُه "فَلَع" ومثله "رَاءٍ" و "رَأَى" و "شاءٍ" و "شَأَى".

ثُمَّ قُلِبَت الواو في ((تَمَاهَوَ)) ألفاً؛ لتحرُّكها إِثْرَ فتحة، فصارتْ ((تَمَاهَى))، وأصل المصدر: تَمَاهُوٌ؛ لكنْ تطرَّفت الواو إثر ضمة؛ فقلبت ياءً ((تَمَاهُيٌ))، ثم كسرت الهاء لمجانسة الياء فصار المصدر: التَّمَاهِي، على وزن ((التَّفَالُع))؛ بضم اللام؛ لأنَّ الإعلال بالقلب لا يؤثِّر في الميزان.

 

** ومن دلالات هذا الجذر (م و هـ) الانتشار، كما في انتشار الماء، المشتق من نفس الجذر؛ جاء في قول الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أنه قال: "ومن يملك انتشار الماء؟"؛ "مصنف" أبي شيبة (1/93)؛ والتماهي: انتشار لصفات المُتَسَلِّط على غيره من المقهورين.

 

وجاءت دلالة الصيغة تؤكد هذا المعنى، فالكلمة على وزن ((تَفَاعُل)) المقلوب إلى ((تَفَالُع))، وهذا الوزن من معانيه أنه مُطَاوِع (فَاعَلْتُ) نحو: باعَدْتُهُ فَتَبَاعَد؛ انظر: "المفصَّل" للزمخشري (1/53)، وهو الوزن المناسب للمعنى المراد؛ مما يدل على أن المعنى الحديث للكلمة مُتَّصِل بأصله العربي القديم.

 

والله تعالى أعلم.