سبب اختلاف روايات الأئمة في راوٍ واحد

خَرَّجَ مسلمٌ في صحيحه لحمادِ بنِ سَلَمَةَ عن أيوبَ، وقتادةَ، وداودَ بن أبي هند، والجَرِيرِيِّ، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، ولم يُخَرِّجْ حديثَهُ عن عمرو بن دينار.

  • التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

• ما سَبَبُ اختلاف رِوَايات يَحْيى بن مَعِين وغيره, وكيفَ السَّبيل إذا لم نُمَيِّزْ الرواية المُتأخِّرَة مِنَ المُتقدِّمة في حال تَعَارُضِ قوله في الروايات.

• كيف نَحْكُمُ على حديثٍ يكُونُ أحد رُواتِه ثِقَة، إلاَّ في فلان،  أو ثقة وفي رِوَايتِه عن فُلان شيءٌ.

مثلاً: مَعْمَر ثقةٌ؛ وفي رِوايَتِه عن ثَابِت الْبُنَانِيِّ شيءٌ، وداود بن الحُصَيْن ثقة إلاَّ في عِكْرِمَة.

• وهل هناك فرقٌ بين اللَّفْظَيْنِ؛ بأن يكونَ أحدهما أضعف من الآخر؟

وجَزاكُمُ الله خيرًا
 

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، وبعدُ:

فكثيرًا ما تجد الاختلاف عن ابن مَعِين وغيره من أئمة النَّقْد في حق راوٍ، وقد يكون ذلك؛ لتَغَيُّر الاجتهاد، وقد يكون لاختلاف كيفيَّة السُّؤال، وغير ذلك.

 

قال أبو الوليد الباجِيُّ في "التعديل والتجريح" (1/283-288): "واعْلَم أنه قد يقول المُعَدِّلُ: "فُلان ثقة" ولا يُريد به أنه ممن يُحْتَجُّ بحديثه، ويقول: "فلانٌ لا بأس به" ويريد أنه يُحْتَجُّ بحديثه؛ وإنما ذلك على حَسَبِ ما هو فيه، ووجْهِ السؤالِ له؛ فقد يُسْأَل عنِ الرجل الفاضل في دينه، المتوسِّطِ حديثُهُ فَيُقْرَنُ بالضعفاء، فيقال: "ما تقول في فلان وفلان؟"، فيقول: "فلان ثقة" يُريد أنه ليس من نَمَط من قُرِن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره، وقد يُسْأَل عنه على غير هذا الوجه فيقول: "لا بأس به"، فإذا قيل: "أهُوَ ثقة؟" قال: "الثقة غير هذا. يدل على ذلك ما رواه أبو عبدالله بن البَيِّعِ، قال: سمعت أبا عبدالله محمد بن يعقوب الشَّيْبَانِي، يقول: سَمِعْت أبا بكر محمد بن النَّضْر الجَارُودِيَّ، يقول: سَمِعْت عمرو بن علي، يقول: أخبرنا عبدالرحمن بن مَهْدِيٍّ، حدثنا أبو خَلْدَةَ، فقال رجل: "يا أبا سعيد أكان ثقة؟" فقال: "كان خيارًا، وكان مسلمًا، وكان صدوقًا، الثقةُ شُعْبَة وسُفْيَان. وإنما أراد عبدُ الرحمن بن مهديٍّ - رحمه الله - التَّناهِيَ في الإمامة، لو لم يُوَثَّق من أصحاب الحديث إلا مَنْ كان في درجة شُعْبَة وسُفْيَان الثَّوْرِيِّ لَقَلَّ الثقات، ولبطل معظم الآثار.

 

وأبو خَلْدَةَ هذا هو خالد بن دينار البصريُّ، أخرج البخاري في الجمعة والتعبير والعلم عن حَرْمِيِّ بن عمارةَ عنه عن أنس، وقال عمرو بن علي سَمِعْتُ يزيد بن زُرَيْعٍ يقول أخبرنا أبو خَلْدَةَ - وكان ثقة - ولكن عبدَ الرحمن لم يُرِدْ أن يُبَلِّغَهُ مبلغَ غيره ممن هو أَتْقَن منه وأَحْفَظ وأَثْبَت، وذهب إلى أن يُبَيِّنَ أن درجته دون ذلك؛ ولذلك قال: "كان خِيارًا، وكان صدوقًا"، وهذا معنى الثقة إذا جمع الصدق والخير مع الإسلام.

 

وقد رَوَى عباس بن محمد الدُّورِيُّ، عنِ ابن مَعِين أنه قال: "محمد بن إسحاق ثقةٌ، وليس بحُجَّة"؛ وأصل ذلك أنه سُئِل عنه وعن موسى بن عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ: "أيُّهما أحبُّ إليك؟" فقال: "محمد بن إسحاق ثقة، وليس بحجة" فإنما ذهب إلى أنه أمثلُ في نفسه من موسى بن عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ.

وقد روى عثمان بن سعيد الدَّارِمِيُّ قال أحمد بن حنبل: "ذُكِر عند يَحْيَى ابن سعيد عقيلٌ وإبراهيمُ بنُ سعد فجعل كأنه يُضَعِّفهما" فهذا ذِكْرُه لعقيل ولم يَذْكُر سبب ذلك؛ ولعلَّه قد ذُكِرَ له مع مالك، ولو ذُكِر له مع زَمْعَةَ بنِ صالح أو صالحِ بنِ أبي الأخضر لوَثَّقَهُ وعَظَّم أَمْرَه، وقال عبدالرحمن الرَّازِيُّ: قيل لأبي حاتم: "أيهما أحبُّ إليك يونسُ أو عُقَيْلٌ؟" فقال: "عقيل لا بأس به"، فقد قال في مثل عُقَيْل: "لا بأس به" ويريد بذلك تَفْضِيله على يُونُس، ولو قُرِن له عبدُ الجبار بن عمر لقال: "عُقَيلٌ ثقةٌ، ثَبْتٌ، متقدِّم، مُتْقِن". وقد سُئِل عنه أبو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فقال: "ثقةٌ صدوق" فوصفه بصفته لمَّا لم يُقْرَنْ بغيره.

 

وقد ذُكِرَ لأبي عبدِ الرحمن النَّسَوِيِّ تفضيلُ ابن وَهْب اللَّيْثَ على مالكٍ فقال: "وأيُّ شيء عند اللَّيْثِ، لولا أن الله تَدَارَكَهُ لكان مثلَ ابن لَهِيعَة"، ولا خلاف أنَّ اللَّيْثَ من أهل الثقة والتثبت؛ ولكنه إنَّما أَنْكَر تَفْضيلَهُ على مالك أو مُسَاوَاتَهُ به.

 

قال أبو عبدالله: وسَمِعْتُ أبا العباس، يقول: سمعت عباس بن محمد، يقول: سمعت يَحْيَى بن مَعِين، يقول: قال لي يَحْيَى بن سعيد القَطَّان: "لو لم أُحَدِّثْ إلاَّ عن كلِّ مَن أَرْضَى لَمَا حَدَّثْتُ إلا عن خمسة" وهذا لا خلاف أنه أرادَ بذلك النهاية فيما يُرضِيهِ؛ لأنه قد أدرك منَ الأئمة الذين لا يُطْعَن عليهم أكثرَ من هذا العدد؛ لأنه قد سمع من يَحْيَى بن سعيد الأنصاري، ومالكِ بن أنس، وعُبَيْدِ الله بن عمر العمري، وهشامِ بن عروةَ، وابنِ جُرَيْج، وإسماعيلَ بن أبي خالد، وسعيدِ بن أبي عَرُوبَةَ، وسفيانَ الثَّوْرِيِّ، وشعبةَ، وأدرك مَعْمَرًا، وابنَ عُيَيْنَة، وهِشامًا الدَّسْتِوَائِيَّ، والأَوْزَاعِيَّ - ونُظَراءَهم كثيرًا - والأعمشَ، وحمَّادَ بنَ زيد، وابنَ عُلَيَّةَ، ووَكِيعًا، وعبدَ الرحمن بنَ مَهْدِيٍّ، وعبدَ الله بنَ المبارك، وجماعة من أئمة الحديث الذين لا مزيد عليهم.

 

ورَوَى ابن المُبَارك عن سُفْيان الثوري أنه قال: "أدركت - حُفَّاظَ الناس أربعة - عاصِمًا الأحولَ، وإسماعيلَ بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد، قال وأرى هشامًا الدَّسْتِوَائِيَّ منهم". ولم يُرِدْ بهذا أنه لم يُدْرِكْ حُفَّاظًا غيرَ هؤلاءِ؛ فقد أدرك الأعمش، ومالكًا، وابن عُيَيْنَة، وشعبة، وعُبَيْدَ الله بنَ عُمَرَ بنِ حفصِ بنِ عاصمِ بنِ عمر بنِ الخطاب العدوِيَّ العُمَرِيَّ، وأيوبَ السَّخْتِيَانِيَّ، وسُليمانَ بنَ بلالٍ التيميَّ.

 

وقد قال سفيان مرة أخرى: "حُفَّاظُ البصرة ثلاثة: سليمان التيميُّ، وعاصمٌ الأحولُ، وداودُ بن أبي هند؛ وكان عاصم أعظمهم" ولا شك أنه أراد في حديث مخصوص أو معنى مخصوص، فإنه قد كان بالبصرة: أيوبُ السختيانيُّ، ويونسُ بن عبيدِ الله، وعبدُ الله بن عون، وسعيدُ بن أبي عَرُوبَةَ، وغيرُهم ممن هم أحفظ في الجملة، وأتقنُ من عاصم.

 

وقد روى ابن مَعِين قال حَجَّاج بن محمد، قال شُعْبة: "عاصمٌ أحبُّ إليَّ من قتادة وأبي عثمان؛ لأنه أحفظهما" فبَيَّنَ شعبةُ وجْهَ تفضيله له إن ذلك مما يختص بحديث أبي عثمان النهدي، فلا يَشُكُّ أحد في تفاوت ما بَيْنَ قتادة وعاصم بن سليمان الأحول وغير أبي عثمان.

 

وقد قال علي بن المديني سمعت يحيى بن سعيد - وذُكِرَ عندَهُ عاصمٌ الأحولُ – فقال: "لم يكن بالحافظ" فإما أن يكون قد ظهر ليَحْيَى بن سعيد من حديث عاصم في شيخ من الشيوخ ما اقتضى مخالفة ما قاله سفيان وشعبة فيه، أو قد قُرِنَ له بمن هو فَوْقه في الحِفْظ والإتقان؛ كالزُّهْرِي، والأعمشِ، وقتادةَ، ويحيى بن أبي كثير، فقصر به عن رتْبَتِهِمْ، وقد قال أبو زُرْعَة الرازي فيه: "هو صالح الحديث" فتأمَّل تَفاوُت هذه الألفاظ في ذكره، واعْلَمْ أن مُوجب ذلك اختلافُ السؤال، والله أعلم.

 

وقال عبدالرحمن بن مهدي: "أئمة الناس في زمانهم أربعة: حمادُ بن زيدٍ بالبصرة، وسفيانُ بالكوفة، ومالكٌ بالحِجَاز، والأَوْزَاعِيُّ بالشام؛ يعني في الحديث والعلم"، وقد ترك اللَّيْثَ بمصر، وترك جماعة غيرَ هؤلاء؛ فهذا كله يَدُلُّ على أن ألفاظهم في ذلك تَصْدُر على حَسَبِ السؤال، وتختلف بحَسَبِ ذلك وتكون بحَسَبِ إضافة المسْؤُول عنهم بعضِهم إلى بعض.

 

وقد يحكم بالجَرْحَةِ على الرَّجُل؛ بمعنى: لو وُجِد في غيره لم يُجَرَّحْ به؛ لما شُهِرَ من فضله وعلمه وأن حاله يحتمل مثل ذلك؛ فقد قال علي بن المَدِينِيِّ: "كتبنا عن عبدالله بن نمير فربما لا يَذْكُر الحارث بن حصيرة الأزديَّ، ولا أبا يَعْفُورَ، ولا حلام بن صالح؛ وإنما كان لا يُحَدِّثُ عن هؤلاء الضعفاء، ثم حدث عن هؤلاء بعدُ، ثم قال لو كان غير ابن نُمَيْرٍ لكان؛ ولكنه صدوق":

فعلى هذا يَحْمِلُ ألفاظَ الجَرْح والتعديل مَنْ فَهِمَ أقوالَهُم وأغراضَهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن.

 

وأما من لم يَعْلَمْ ذلك وليس عنده من أحوال المُحَدِّثِينَ إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تَنْزِيل الألفاظ هذا التنزيل، ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا؛ وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتِّفَاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم. والله المُوَفِّقُ للصواب برحمته". اهـ. من "التعديل والتجريح". وانظر: "لسان الميزان"(1/17)، و"فتح المغيث" (1/374-376)، و"الرفع والتكميل" (ص262).

 

والجواب عن الشِّقِّ الثاني من السؤال وهو: كيف نَحْكُمُ على حديثٍ يكون أحد رُواته ثقةً إلا في فلان، أو ثقةٌ وفي روايته عن فلان شيءٌ؟

يُؤْخَذُ من حديثه ما كان عن غير فلان الذي ضُعِّفَ فيه فأمَّا عنه فلا؛ والدليل على ذلك ما جاء في "سُؤالات البَرْقَانِيِّ" للدَّارَقُطْنِي (ص21): "قلت له وأبو الحسن بن مظفر حاضر: "جعفر بن بَرْقَانَ؟ فقالا جميعًا: قال أحمد بن حنبل: "يُؤْخَذ من حديثه ما كان عن غير الزُّهْرِيِّ فأما عنه فلا"، قلت: "فقد لَقِيَهُ فما بلاؤه؟" قال الدَّارَقُطْنِيُّ: "ربما حَدَّثَ الثقةُ عن ابن بَرْقَانَ عنِ الزُّهْرِيِّ، ويحدِّثُهُ الآخَرُ عن ابن بَرْقَانَ عن رجل عنِ الزُّهْرِيِّ، أو يقول بلغني عنِ الزُّهْرِيّ، فأمَّا حديثه عن ميمونَ بنِ مِهْرَانَ ويَزِيدَ بنِ الأَصَمِّ فثابت صحيح".

 

هذا إذا تفرد هذا الراوي عن شيخه الذي ضُعِّفَ فيه، وأما إذا تُوبِعَ عليه فيُقْبَل؛ يُوَضِّحُ ذلك ما جاء في "شرح علل الترمذي" (2/783): "... قال مسلم في كتاب "التمييز":

"اجتماع أهل الحديث من علمائهم على أنَّ أَثْبَتَ الناسِ في ثابتٍ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ؛ كذلك قال يَحْيَى القطان، ويَحْيَى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم من أهل المعرفة. وحَمَّاد يُعَدُّ عندهم إذا حدث عن غير ثابت؛ كحديثه عن قتادةَ، وأيوبَ، وداودَ بن أبي هند، والجَرِيرِيِّ، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن دينار وأشباههم، فإنه يُخْطِئُ في حديثهم كثيرًا.

وغير حماد في هؤلاء أَثْبَت عندهم؛ كحمادِ بنِ زيد، وعبدِ الوارث، ويزيدَ بنِ زُرَيْعٍ" انتهى.

 

ومع هذا فقد خَرَّجَ مسلمٌ في صحيحه لحمادِ بنِ سَلَمَةَ عن أيوبَ، وقتادةَ، وداودَ بن أبي هند، والجَرِيرِيِّ، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، ولم يُخَرِّجْ حديثَهُ عن عمرو بن دينار؛ ولكن إنما خَرَّجَ حديثَهُ عن هؤلاء فيما تابعه عليه غيرُهُ منَ الثقات، ووافقوه عليه لم يُخَرِّجْ له عن أحد منهم شيئًا تَفَرَّدَ به عنه،، والله أعلم."

 

وأما قولك: "وهل هناك فرق بينَ اللفظَيْنِ؛ بأن يكونَ أحدهما أضعفَ منَ الآخَرِ؟

فلم أَقِفْ على كلامٍ لأهل العلم في الفرْقِ بينَهُما، والله تعالى أعلم.

 

بقلم/ أ. خالد بن مصطفى الشوربجي.