رفض الخاطب للتفاوت في مستوى التدين

شابة كانت تحب ابن عمتها منذ الصغر، وقد تقدم إليها، لكنها - وإن كانت تحبه - أصبحت ترى أنه ليس على المستوى المطلوب من التدين، فعلى الرغم من كونه ذا خلق ودين، فإن له بعض السقطات؛ فهو يضيف زميلاته على مواقع التواصل، ويلتقط معهن الصور؛ لذا فهي في حيرة من أمرها: بين قلبها الذي يحبه، وبين عقلها الذي يراه ليس على المستوى المطلوب للتدين الذي يجعلها تُنشئ أسرة صالحة، وتسأل: ما الحل؟

  • التصنيفات: فقه الزواج والطلاق - قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
السؤال:

أنا فتاة في مقتبل العشرينيات، أحببت ابن عمتي مذ كنت في الخامسة من عمري، ومنذ ذلك الحين وأنا أدعو الله عز وجل أن يجعله حظي ونصيبي، وقد نما هذا الحب وزاد في فترة المراهقة، على أنه لم يحدث بيننا أي فعل أو حتى قول محرم، وكنت أكتم هذا الحب في نفسي، وأحيانًا كنت أتحدث به لأقاربي من الفتيات، وفي مرحلة الجامعة زاد تعلُّقي بالله عز وجل، وبدراسة العلوم الشرعية، ثم إنه تقدم لي، ما جعلني أُفاجأ كثيرًا بهذا الأمر، وكنت لا زلت أتمناه زوجًا لي، لكنني - وإذا ما نحَّيْنا العاطفة جانبًا - رأيته بصورة مختلفة، رأيته من ناحية عقلية؛ فهو لا يمتلك كل الصفات التي أصبحت أحلم بها لأنشئ أسرة صالحة؛ فعلى المستوى الديني هو ليس متدينًا بقوة، فهو يؤدي الفرائض ولا يرتكب أي كبيرة، وهو أمر يُشهد له به، وهو برٌّ بوالديه، كما أنه مشهور أيضًا بحسن الخلق والتعامل، وهو يدرس الطب، ومرح واجتماعي، ووالدته أستاذة في العقيدة؛ فنشأته صالحة - لكنه عاش في الغربة كثيرًا؛ لذا فهو الآن ليس بهذا التدين، فهو يسمع الموسيقا، ولا أدري ما مدى التزامه بالصلاة في المسجد، وغالبًا هو لا يصلي في المسجد، كما أنه يضيف زميلاته في الدراسة على الفيس بوك، ويرد على تعليقاتهن أحيانًا، وله صور جماعية مختلطة مع زملائه في الجامعة، أنا لا زلت أحبه، وأتمنى الزواج منه بشدة، لكنني أخشى ألَّا يكون له نفس أفكاري الدينية، وألَّا يعينني على التنشئة الصالحة لأولادي، فأنا لا أريد تكوين أسرة عادية وحسب، بل لا بد أن يكون أبنائي مؤثِّرين في دينهم ومجتمعهم، أنا حائرة بين أمرين: أخشى أن أختار الحب فأفوِّت بعض ما أطلبه من الناحية الدينية، فيعاقبني الله مستقبلًا، وفي الوقت نفسه أحبه كثيرًا وسوف أتألم إن أنا رفضته، وقد استخرت الله كثيرًا، لكنني لا أزال في حيرة من أمري، هل معاييري في الاختيار قوية؟ هل أنا مخطئة في تصوُّري؟ بمَ تنصحونني؟ مع العلم أن علاقة أمه بأمي باردة جدًّا، حتى إن أمي تفاجأت من طلبه يدي؛ لذا فهي تميل للرفض، لكنها تركت لي حرية الاختيار لمواصفاته المتكاملة، ولأنها تعلم مشاعري نحوه.

الإجابة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:

ابنتي الغالية، كثَّر الله من أمثالكِ، وفتح عليكِ بما ينفع، ورزقكِ بمن يعينكِ على أمر دينكِ ودنياكِ. سعدتُ جدًّا بكِ نموذجًا للفتاة الملتزمة التي تضع الله ورسوله بين أعينها، فلم تدفعها عاطفةٌ للتجاوز، ولم تُذهِلها رغبة ما عن السير في طريقها الذي تعتقد أنه يُرضِي الله ورسوله، ويُسهِم في بناء جيل مسلم.

 

قرار الموافقة على زوجٍ من أصعب القرارات التي تتعرض لها الفتاة؛ إذ هي تختار لنفسها سيدًا وأبًا، كما أنها باختيار هذا الزوج، فهي تختار ابنها المستقبلي أيضًا لِما للأب من بصمة واضحة في طبيعة وشكل وشخصية أولاده.

 

وحُقَّ لكِ أن تقلقي وتتحري وتستشيري، ثم تستخيري، ثم ترضي بما قسم الله لكِ، بعد أن أخذتِ بالأسباب الممكنة.

 

لن أُطيل عليكِ في الحديث عن صعوبة القرار، بعد أن قرأتُ رسالتكِ، سرَّني أمرٌ وأحزنني آخر؛ سرَّني أنكِ تحرصين على اختيار رجل شديد التمسك بدينه، وذلك لهدف سامٍ، ألا وهو بِناء أبناء يحملون رايةَ هذا الدين، فأسأل الله لكِ صلاح الذرية، أما الأمر الذي أحزنني، فهو أن الواقع أصبح يفرض على الإنسان أوضاعًا يُؤاخَذ عليها، ولكن لا حيلةَ له في منعها، من هذه الأمور الاختلاط مثلًا، فهذا الخاطب يدرس الطب، وهي مهنة تُجبر صاحبها على التعامل مع النساء؛ سواء من طاقم العمل، أو المرضى، وغيره ... نسأل الله الهُدى والعفاف لشباب المسلمين.

 

مخاوفكِ يا عزيزتي يسيرة جدًّا، يمكن لكِ حسمُها في جلسة واحدة شرعية معه.

 

أولًا: بخصوص وجود فتيات على حساباته أو رده عليهم في التعليقات، ومن ردِّه عليكِ ستفهمين إن كان ذلك مجرد مرحلة عارضة في حياته، أم أنه يصر على إقامة علاقات معهن، ولكِ أنتِ تقييمُ الموقف، فإن كان تعامله في حدود تبادل المعلومات على العام دون تعارف أو إقامة علاقات، فهذا مما عمَّ به البلاء في زمننا، ولكِ أن تُبدي رأيكِ في هذا له، ليمتنع أو يلزم الحدود المقبولة.

 

ثانيًا: كون علاقة أمه باردة بأمِّكِ، رغم أنها عمتك، ثم إنها اختارتكِ لابنها - فهذا يدل على أنها تعرف قدركِ، وتعرف مدى التزامكِ، وأنها ترى فيك نموذجًا ناجحًا للزوجة التي تريدها لابنها، وهذا يوضِّح رجاحة عقلها، فهي تسعى للأنفع حتى لو لم يكن هذا الأنفع موافقًا لهوى نفسها، كما أنها صاحبة دين، وهذه الفئة يكون التعامل معها رائعًا؛ لأنها تصبو لِما يناسب دينها لا هواها.

 

ثالثًا: أنصحكِ بالاستخارة ثم الموافقة، ثم أوْكِلي أمركِ لله، إن علم خيرًا يسَّره، وإن علم شرًّا أبعده بعلمه ورحمته، فالرجل صراحة كله مَيزات.

 

رابعًا: أحب أن أُعلِمَكِ شيئًا أراه مهمًّا:

تطبيق الدين شيء عظيم جدًّا، يحتاج لقوة نفس وهمة عالية، وهذا يختص الله به صفوة من عباده، أما تقييم الأشخاص فيكون - بالإضافة للدين - من خلال السمات الشخصية؛ فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال: «... من تَرْضَون دينه وخُلُقه فزوِّجوه ...»، فلم يكتفِ بالدين فقط، بل قَرَنَ ذلك بالخُلُق، وهو قيد عظيم جدًّا، ألَّا يكون دين الرجل حفظ المتون، لا، بل انعكاس ذلك على أخلاقه وطِباعه وتقييمه للأولويات.

 

بمعنى أن الإنسان المَرِحَ أحبُّ في العِشرة من العَبُوس، الإنسان الذي يأخذ بروح الدين دون تهاون أفضل ممن يحفظ نصًّا، ولا يطوِّع هذا النص عند تطبيقه للسُنَّةِ وطبيعة البشر، دعيني أضرب لكِ مثالًا من رسالتكِ: هذا الخاطب أنتِ تظنين ظنًّا أنه لا يصلي في المسجد، والمسجد طاعة عظيمة تستطيعين أن تعينيه عليها، وتشترطي إقامتها دون تنازل، وهنا ستكونين مثالًا للفتاة المحبة لله ورسوله، على الجانب الآخر إذا كان الخاطب شديد الالتزام بالذهاب للمسجد، واشترط عليكِ التعدد، بل سعى له دون النظر لرأيكِ، ودون حُسن الاستعداد له، وجدَّ فيه لمجرد أنه سنة، فما حُكمكِ عليه؟

 

بالطبع لا أقصد منع التعدد، ولا أستهين بأمر الصلاة في المسجد، لكن أقول لكِ أن كل بشر حتمًا لديه جانب من التقصير أو الوقوع في الذنب، ليجد بابًا يتذلَّل منه لله، وينكسر له، فلا توجد ملائكة بيننا تسير على قدمين، ومن قويَ على نفسه وترك المحرمات، فهو حتمًا لديه باب تقصير في الطاعات، وهكذا يظل الإنسان في هذا الحياة مجاهدًا ليزكِّيَ نفسه.

 

النقطة الأخيرة التي سألتِ عنها بخصوص الأبناء، فالأم هي حجر الأساس في ذلك، ولا أظن أن شخصًا نشأ في حاضنة دينية مثله، وله من الصفات ما ذكرتِهِ يكون مصدرَ إفسادٍ لأولاده.

 

وفَّقكِ الله للخير، ورزقكِ وإياه خير الدنيا والآخرة.