أبي نرجسي ومتسلط
فتاة تصف أباها بالنرجسية والتسلط، وترجع استهتارَها وضَعفَ شخصيتها إليه، وترى أنه السبب فيما وصلتْ إليه من النفسية السيئة، وتسأل: هل هي محقَّة فيما تقول؟
- التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أنا فتاة أبلغ من العمر الثامنة والعشرين، والدي يُحبنا كثيرًا ويحنو علينا ويخاف علينا إلى أبعد حدٍّ، ونحن نحبه، لكننا نعاني في حياتنا بسببه، فهو شخصية مُتسلِّطة إلى أبعد الحدود، يتدخل في أتفه الأمور التي تخصنا، وقد أدى ذلك بي إلى أن أصبحت شخصية مُستهترة، لا خصوصيةَ لي، وأشعر بالإحباط، وأنه لا فائدة تُرتجى مني، وأنني لا أصلح لأي مسؤولية تُلقى على عاتقي، أعرف الخطأ وأكرِّره، ولا أميِّز بين الأخطاء الكبيرة والصغيرة.
أبي لا يمكن إقناعه بأي وسيلة كانت، فهو لا يُطيق أن يسمع شيئًا لأحد أصلًا، فضلًا عن إقناعه بالعدول عن رأيه، ودائمًا ما ينتهي الحوار بيننا بمشادة، تجعلني أندم على كلامي معه من الأساس، كما أن أبي شخصية نرجِسِيَّةٌ يرى الناس كلها مقيمة على الخطأ، ولا يرى في نفسه أي خطأ، وهو معجب بنفسه لأبعد حدٍّ، ويظن دائمًا أنه مبتلًى ومستهدف، على أن ما ذكرته لا يعني أننا لم نكن نقضي أوقاتًا جميلة معه، أما الآن فلم يعد لأي شيء في الحياة طعم، وفقدتُ الشغف بكل شيء، فلم أعد أريد التواصل مع أحد، وإذا ما قارنت نفسي بمن هنَّ مثلي، فإني دائمًا أنتقص نفسي.
أنا لا آمل في تغيير أبي، فقد يئست من ذلك، لكن سؤالي: هل فعلًا ما أعانيه بتقصير مني أو هو بسبب أبي؟ وكيف أحسِّن من حالتي وأتخلص من استهتاري، في ظل وجودي مع أبي الذي أصبحت في أَسْرِهِ، فأنا خائفة جدًّا من الانتكاس بسبب حالتي النفسية السيئة؛ إذ بدأت أتساهل في تضييع بعض العبادات، وإتيان بعض المنكرات؟
وقد أصبحت لا أستطيع التعامل مع أبي، ولا أُطيق رؤيته ولا سماعه، وأنا أخشى أن أكون عاقَّة لوالدي، فأنا أحوز علمًا شرعيًّا، ولا أريد أن أتسخط على أقدار الله تعالى، أرشدوني: هل مشكلتي هذه مشكلة نفسية أو ماذا؟ وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
ففي فيلم تسجيلي قصير يعرض مشهدًا واحدًا، في المشهد رجل مُسنٍّ يجلس بجوار ابنه الشاب في حديقة منزلهما، الابن منشغل بقراءة الصحيفة، عصفور صغير يحط بالقرب منهما، يسأل الرجل المُسن ابنه: "هل هذا عصفور؟" يجيب الابن بلا اهتمام: "نعم، عصفور"، يطير العصفور ثم يحط مرة أخري، فيُعيد الرجل السؤال: "هل هذا عصفور؟" يجيب الابن بضيق: "نعم، نعم، عصفور"، ويتكرر الموقف للمرة الثالثة، فيُلقي الابن الجريدة على الأرض، ويصرخ في وجه أبيه: "نعم، قلت لك إنه عصفور، ألا تسمع؟" يسكت الأب قليلًا، ثم يدخل إلى المنزل، ويحضر مذكراته، ويطلب من الابن أن يقرأ صفحة منها، كانت الصفحة تحكي موقفًا حدث مع الابن وهو طفل صغير، ظل فيه يسأل والده أكثر من عشر مرات: هل هذا عصفور؟ والأب يجيب في كل مرة، وهو مبتسم: نعم هذا عصفور، ولم يتأفَّفْ ولم يغضب.
كثيرون هم مَن لا يدركون مقدار تقصيرهم في حق الآباء إلا بعد أن يصبحوا آباءً وأمهات، وللأسف تكون فرصة محاولة ردِّ الجميل قد ضاعت منهم بموت الوالدين.
حكمة الآباء كثيرًا ما تُواجَهُ برُعونة وطيش الشباب.
تقولين: إنكِ تواجهين مشكلة مع سلوك أبيكِ، وتسألين عن كيفية التعامل معها، ولكن لا تسألين مع علاج لمشاكلكِ التي تدفع والدكِ لنقْدكِ، وإلى التوجيه المستمر الذي يُكدِّر حياتكِ.
ربما يكون أسلوب والدكِ قاسيًا قليلًا وربما كثيرًا، ولكن أَلَا يشفع له عندكِ يقينٌ أنه صواب وفي صالحكِ؟!
يشعر الإنسان براحة كبيرة عندما يجد سببًا خارجيًّا يُعلِّق عليه أخطاءه.
ما سبب تقصيركِ وأخطائكِ؟ إجابتكِ واضحة وسهلة ومُريحة: إنه سلوك أبي.
إذًا فلا يُطلَب مني شيءٌ، كل ابن آدم خطَّاء، وأنا أتوب كلما أقع في خطأ.
أنا أعلم أنك لا تقولين هذا، وعندما تقرئين إجابتي عنكِ، سوف تعترضين على هذا السياق، ولكن هذه هي حقيقة تفكيركِ الذي ربما لا تصارحين به نفسكِ، وإنما تتركينه يعمل في عقلكِ الباطن في هدوء ليُريحكِ من تأنيب الضمير، ولكن للأسف الحياة في ثوب المظلومية الدائمة لها أثرٌ مدمر على النفس هو ما تعيشين فيه الآن.
إذًا فما الحل؟
الحل ليس أن تصلحي أباكِ؛ فهذا يبدو صعبًا من رسالتكِ، والأصعب منه اختياركِ بالابتعاد عنه، فسوف يأتي يومٌ ما تندمين فيه على كل لحظة مرَّت من حياتكِ كنتِ بعيدة عنه، وعلى كل فرصة كانت متاحة أمامكِ لتُقبِّلي يديه وقدميه فضيعتِها، وأدعو الله لكِ أَلَّا تَصِلِي لهذه اللحظة؛ فهي مؤلمة، ولا ينفع عندها الندم.
أصلحي نفسكِ من أجل نفسكِ ومن أجل والدكِ، أصلحي من نفسكِ؛ من أجل أن تصفوَ لكِ الحياة مع والدكِ، وقد يكون للمشكلة أكثر من حلٍّ، ولكن أفضل الحلول هو الذي نقدر عليه بأيدينا، لا ننتظر حلولًا من الخارج قد تأتي وقد لا تأتي.
ربما أن أسلوب والدكِ لا يساعدكِ في التخلص من أخطائكِ، ولكنه أيضًا ليس سببًا فيها، {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وكل نفسٍ بما كسبت رهينة، والله عز وجل إذا أحب عبدًا ابتلاه، فعسى أن يكون بلاؤك حبًّا من الله، فأقبلي عليه بمزيد من الطاعات، وبر الوالدين من أعظم الطاعات، فهذا هو طريق النجاة أمامكِ؛ بِرُّ والدك، فلماذا تُهلِكين نفسكِ؟ أَلَا تعلمين أن الجنة قد حُفَّت بالمكاره؟ الآن قِفي وقفة صدق مع نفسكِ، وجدِّدي النية لله بطاعة والدكِ، والصبر على أسلوبه، والسمع والطاعة له، واعلمي أن أيامكِ قد تكون معه قليلة، فربما يطرق بابكِ طارقُ الزواج اليوم أو غدًا، والمرأة ما زالت في فُسحة من كل شيء في بيت أبيها، حتى إذا دخلت بيت زوجها، علِمت أن الجد قد بدأ، وأنه جاء الوقت الذي سوف تمارس فيه دور النقد والنصح والإرشاد مع أولادها.