التهجير والصعوبة في طلب العلم
شاب مهجَّرٌ من سوريا، كان طالبَ علمٍ، لكن ظروف التهجير حالت دون ذلك، فلم يستطع الانتساب إلى أي جامعة خارج تركيا، ومستواه المادي لا يسعفه، وتواجهه صعوبات في الدراسة بكلية الشريعة في تركيا؛ كضعف لغته التركية، وزاد من معاناته تنمُّر الأتراك، وشعوره بأنه لن يستطيع تكوين أسرة، ويسأل: ما النصيحة؟
- التصنيفات: طلب العلم - استشارات نفسية -
أنا طالب علمٍ من سوريا المنكوبة، في أول أمري كنتُ مُجِدًّا ومثابرًا، وأتعطش للعلم، بيد أنه بعد ما جرى في سوريا، وبعد نزوحي من مكان لمكانٍ، واضطراري للهجرة إلى تركيا - واجهتُ صعوباتٍ بالغةً في طلبي للعلم، ثم منَّ الله عليَّ بأن التحقت بمعهد شرعي سوري مجاني، وظَلَلْتُ فيه ستة أشهر، وقد كنتُ سعيدًا في هذا المعهد؛ فالمبيت كان داخله، والمدرسون غالبيتهم خريجو الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والطلاب على قدر كبير من الأدب والأخلاق، وكان المعهد يعبق بجوٍّ إيماني جميل، وقد تفوَّقت فيه، لكنني اضطررت إلى تركه؛ لأن شهادته غير معترف بها، ثم حاولت الانتساب للجامعة الإسلامية في المدينة أو جامعة الأزهر، لكن فارق العمر، وعدم حصولي على جواز سفر، ووضعي المادي البائس - كل ذلك حال دون ذلك، ثم انتسبت بعد ذلك لكلية الشريعة في تركيا، لكنني غير مطمئنٍّ لوضعي فيها؛ فالدكاترة غير متمكنين، وأغلب الطلاب يبتعدون عن النموذج الحقيقي لطالب العلم، كما أن التدريس باللغة التركية، إضافة إلى أن الفارق العمري بيني وبين الزملاء كبيرٌ (سبع أو ثماني سنوات)، وما زاد الأمر سوءًا أن ثمة أسبابًا نفسيةً أضعفت من همتي، وأخمدت من جذوتي، حتى إنني أصبحت أرى الكتب أمامي، ولا أرغب في لمسها أو مطالعتها، كما ضعُفت لغتي التركية؛ لعدم احتكاكي بالزملاء والمدرسين، ولا أستطيع أن أواظب طلب العلم ولا مراجعة ما تعلمته، اللهم إلا القرآن الكريم الذي لازمته بشِقِّ الأنفس، وما ذاك إلا لأنني في دخيلة نفسي أفتقد الأمل والتفاؤل في الحياة؛ فأنا سوف أتخرج في كلية الشريعة بعد سنتين، وسيكون عمري يومئذٍ 31 عامًا، ولن أستطيع أن أعمل إلا بعد فترة من البحث، ومن ثَمَّ فإنني لن أتزوج إلا بعد التخرج بسنين، ولن أتزوج - من ثَمَّ - إلا أرملة أو فتاة عانسًا، لتناسب حياتي الصعبة، كما أن كثيرًا من الأتراك يتنمرون على السوريين؛ ما حدا بي إلى أن أعتزل مجالسهم، وتكوين صداقات معهم، كل هذه الأسباب جعلتني في حالة من اليأس والكآبة والألم يُرثى لها، أكتب هذه الكلمات والدموع تخنقني، جودوا عليَّ بالنظر في أمري؛ عسى الله أن ينفعني بكلماتكم، وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فليت الكلمات تسهم في حل مشكلة إخواننا وأخواتنا في سوريا، ولكن الكلام كثير، والفعل قليل، والحال صعب، والحياة قاسية على مَن هم في ديارهم، فما بالُنا بالمشردين والمهاجرين؟
أعلم أن كلماتي هذه لن تحسن حالك المعيشي، ولن ترفع مستوى دراستك في ذلك المعهد التركي، ولن تُعيد سنوات العمر التي ضاعت منك، ولن تأتيك بوظيفة مربحة، ولا زيجة مناسبة، ولن تُعيدك إلى ديارك، وليس بمقدورها لَمُّ شمل أسرتك وأهلك في بلدك وبين أحبابك.
أنت رجل تعاني وتشكو وأنت وحيد بلا زوجة ولا أولاد، فما بالنا بالأرامل واليتامى، ومن لا يعرف أين أبوه، أو إلى أين ذهب ولده؟
لكنها الدنيا تفنى يومًا ما، ويفنى كل ما عليها، وتذهب التعاسة وتختفي السعادة، ويبقي كتابٌ قد سوَّدتَهُ بعملك، وزيَّنته بصبرك، وأمسكته - إن شاء الله - بيمينك، وغيرك من الممكن أنه كان يسكن القصور، ويلبس الحرير، ويأكل ما لذَّ وطاب يقول: يا ليتني كنتُ ترابًا.
هي دار ابتلاء وليست دار امتلاء، فتخفَّف منها قدر المستطاع إن كنتَ تملك، واحمَدِ الله إن صرفها عنك.
يا أخي، اعلم أن الخير فيما اختاره الله لك، فإنك لا تدري ماذا كان سيكون حالك لو فتح الله عليك الدنيا.
وإذا كنت في معهدك الدراسي تنتظر يومًا تذهب فيه للامتحان، فأنت في الدنيا في كل يومٍ في امتحان، فأحسِنِ الإجابة فأنت لا تدري متى ينتهي امتحانك.
عِشِ الحياة كما هي بحُلْوِها ومُرِّها، واصبر على شدتها، وابتسم واسعد عندما تصفو ولو قليلًا، فليس بيدك تغيير الكون، ولكن بيدك أن تغيِّرَ نفسك، وتُصلح فيما حولك قدر المستطاع.
واعلم أنه هناك رجلًا خيرًا منك في سن الشباب تزوج امرأة أرملة تكبره بخمسة عشر عامًا، فكانت خير زوجاته، وعاش معها حتى بلغ من العمر الخمسين فماتت، ولم يكن له زوجة غيرها، فكان خيرَ زوجٍ، وكانت خير زوجة، صلوات ربي وسلامه على النبي المصطفى، ورضي الله عن أمنا خديجة.
فليس هناك عيبٌ ولا نقيصة في الزواج من أرملة أو مُطلَّقة أو فتاة تأخرت سنُّ زوجها - عانس كما تقول - ولعل السعادة والهَناء يكون بسببها، والرزق على بابها.
هناك كثير من الرجال ظروفهم أصعب من ظروفك، مع أن بلادهم ليس فيها حرب، تتأخر بهم سن الزواج إلى أبعد مما تتوقعه لنفسك، ومنهم من لا يستطيع له سبيلًا، فلا يقدر على تجهيز بيتٍ ولا على نفقته، فيمر به قطار العمر وحيدًا، وقد فاته قطار الزواج كما فاتته أشياءُ كثيرة؛ إذًا فحالك أفضل من حال هؤلاء، ومشكلتك أيسر من مشاكلهم.
أنت أمامك طريقان:
الأول: أن تصارع الحياة، وتتحمل الآلام والأحزان وتصبر عليها، فتلتزم بدراستك، ثم تتزوَّد من العلم من طرقٍ أخرى؛ فتعوِّض بهذا النقصَ الذي تراه، وتتعلَّم اللغة التركية، وتختلط بالأتراك بالشكل الذي لا يُفسدك، ولكن هذا ضروري لتحسين لغتك، فربما يكون قَدَرُكَ أن تقضيَ حياتك بينهم، واعلم أن حاجز اللغة من أكبر أسباب التنمر، فالناس تألف من يتكلم لغتها، حتى ولو كان غريبًا عنهم، ويتأفَّفون من صاحب اللسان المُعْوَجِّ، ويجدون رغبة في السخرية منه، هذا بالطبع ليس السبب الوحيد للتنمر، ولكننا نحاول أن نزيل منها ما نستطيع.
أما الطريق الآخر، فهو الاستسلام لليأس والاكتئاب، والبكاء على ما قد ضاع حتى يضيع ما قد بقيَ، ويفنى منك ما يُبقيك حيًّا، فاخْتَرْ لنفسك ما تشاء.
وعسى الله أن يُزيحَ عن قلبك الهمَّ، ويرزقك السعادة والرضا ولا تدري: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}.