تشتت التفكير وعدم القدرة على إدارة الوقت
شابٌّ له طموحان؛ أحدهما يتعلق بدراسته، فهو يرغب في إكمالها خارج الوطن، وهناك معوقات تُعيقه في ذلك، وتشتت تفكيره، والطموح الآخر يتعلق بفتاة يريد أن يتخذها زوجة له، ويسأل: ماذا أفعل؟
- التصنيفات: طلب العلم - استشارات نفسية -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أوشِكُ على التخرج في كلية العلوم، وأود أن أُتمَّ دراستي خارج الديار، وآمُلُ أن ألتحق بجامعة في إسبانيا؛ لذا فقد التحقت بدورة مركزة في اللغة الإسبانية، ثم إنني قد تقدمت إلى خطيبتي السابقة مرة أخرى، فرُفضتُ، وكانت كلمتهم الأخيرة أنك بلا عملٍ الآن، وإن كنتَ راغبًا فيها، فاصنع لنفسك هدفًا، وإلا فلا تَقْرَبْها، وقد أنزلوا بي وابلًا من الأسئلة أغضبتني كثيرًا، وخطيبتي تلك فتاة ذات خُلُقٍ ودين وعفة ونسبٍ، وقد طلبتها من ربي في صلاتي، وأصبحت مولعًا بها مؤخرًا، ولا أدري أهذا تزيين من الشيطان، وأمل زائف أم لا.
وبخصوص الدراسة هناك أمر يعكر صفوَ طريقي؛ ألا وهو الموضوعات التي تُناقَش تحت عنوان "خالف تُعرف"؛ إذ تُناقَش فيها أمور دينية وفلسفية، وعندما انخرطتُ فيها، شعرت بأن معرفتي عن الدين تقتصر على الصلاة والأذكار، وما تيسر من الذكر الحكيم، وهذا سبَّب لي شيئًا من الرعب والخوف داخلي، وعزمًا على عدم عودتي لتلك المناقشات مرة ثانية؛ لأنني بكل بساطة أغار على ديني، ومن ثَمَّ فقد تسرَّب لي شعور بأنه ليس لديَّ ما أقدمه لديني؛ ما أشْحَذَ همتي للقراءة والاطلاع في شتى المجالات، ولا سيما العلوم الشرعية، لكن الدراسة الجامعية لم تترك لي شيئًا من الوقت لمثل هذا، فنفسي تحدثني بأنني في غربة، وعليَّ أن أتفوَّقَ في المجال الذي أنا فيه، فهو أولوية عندي، وهذا أصابني بالتشتت وأثَّر في صحتي، فقد أصبحت نحيفًا، وأحيانًا أُصاب بالشلل التام، وأغرق في دوامة من التفكير، تنتهي بنوم عميق، أصبحت لا أستطيع إدارة وقتي البتةَ، وهذه الأفكار تزرع شكوكًا في هدفي، وشكوكًا في زواجي من تلك الفتاة، وقد قيل: تشبَّثْ بحُلْمِكَ، وسيُدهشك الله ويُبكيك فرحًا، بينما في الواقع أعتصر ألَمًا، وقد خسرت كثيرًا من الأمور التي جعلتني أتشكك في هذا الحلم والطموح، وأضرب مثالًا لذلك بأنني إذا ركزت على نقطة معينة في امتحان وسعيت لها، ففي الغالب لا تحدث، لي عدة أسئلة ومطالب:
أولًا: أريد جوابًا مقنعًا في ذلك الأمر مع الاستدلال، وثانيًا: أريد ألَّا أنخرط في تلك المناقشات الشرسة، وثالثًا: لساني دائمًا يتردد بجملتين عند استيقاظي من نومي: "خذ العزم بقوة"، "توكل على الله كما يتوكل المؤمنون"، ما سر هاتين الجملتين؟ ورابعًا: ترافقني ابتسامة أينما ذهبت، ما سرُّها؟ وخامسًا: ما صحة تخاطب الأرواح؟ وسادسًا: هل أستمر في قراءة الكتب الشرعية عوضًا عن مجالي؟ وسابعًا: أريد أن تضعوا لي خطة لإدارة وقتي، وثامنًا: أريدكم أن تقنعوني بأن تلك الفتاة وذاك الحلم من نصيبي، على الأقل كي يكون لديَّ أملٌ، كي أستطيع أن أحارب، لا أريد أن أدخل معركة نتائجها محسومة سلفًا، أرشدوني وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: ما لحظتُهُ من خلال رسالتك أنك كثيرُ التنظير والتخطيط، وهذا أمرٌ حَسنٌ، بشرط السعي والعمل لتحقيق وتنفيذ أهدافك، فاستعِنْ بالله وابدأ فيما تراه نافعًا لك في أمر دنياك وآخرتك، ولا تَعجِز وسَلِ اللهَ العَونَ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أسألك إيمانًا دائمًا، وهَدْيًا قَيِّمًا، وعلمًا نافعًا» [أبو نعيم في الحلية: (٦/ ١٧٩)، من حديث أنس رضي الله عنه].
ولا تجعل مبلغَ علمك الدنيا؛ قال الحسن البصري في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]: "لَيَبلُغُ من حَذْقِ أحدهم بأمر دنياه أنه يقلِّب الدرهم على ظُفْره، فيُخبرك بوزنه، وما يُحسِنُ يُصلِّي"؛ [تفسير ابن أبي حاتم: (١٧٤٦٧)].
ثالثًا: أما ما يتعلق بأمر زواجك، فننصحك بالاستشارة أولًا، ثم الاستخارة، فحاوِرْ مَن تثق بخبرته ومحبته لك، ثم صلِّ الاستخارة، وإذا وجدت الأمر غير مناسب، فابحث لك عن زوجة غيرها ذات خلق ودين.
رابعًا: أما ما يتعلق بما يدور في رأسك من أفكار ونحوها، فمن وسوسة الشيطان وتسويل النفس، وننصحك بقطع وساوس الشيطان بالذكر وقراءة القرآن، أما تسويل النفس فبقطع الأمانيِّ والشروع في العمل، واحرِص على ما ينفعك، ولا تَعجِز، ولا تقل: لو كان كذا وكذا، لكان كذا وكذا.
خامسًا: أما ما يتعلق بالتخاطر الذهني أو التخاطب عن طريق الأرواح، فهو باطلٌ ومن ضروب الرجم بالغيب، والتخمين، وادعاء علم الغيب؛ وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
وأصبح علمًا يُدرس الآن، وبالذات في منطقة الصين، وبدأ ينتشر إلى أوروبا وأمريكا، وقد ظهر ما يُعرف بالأبحاث الروحية، والإسقاط النجمي، والجسم الأثيري، وهو داخل ضمن العلم غير النافع الذي نُهيَ عن تعلُّمه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وأعوذ بك من علم لا ينفع» [النسائي من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وحسنه الألباني].
ويحسن بنا أن ننقُلَ لك أيها الأخ الفاضل جوابًا للدكتورة فوز بنت عبد اللطيف كردي - أستاذة العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة بكلية التربية للبنات بجدة - على السؤال التالي: هل الجسم الأثيري له أصل في الشرع، أو أنه مجرد توقُّعات أو سحر وخزعبلات؟
فكان الجواب: بالنسبة للجسم الأثيري، فهو أولًا: قول مبني على نظرية قديمة تفترض وجود مادة الأثير، وهي مادة مطلقة قوية غير مرئية تملأ الفراغ في الكون، سمَّاها أرسطو "العنصر الخامس"، وعدَّها عنصرًا ساميًا شريفًا ثابتًا، غير قابل للتغيير والفساد، وقد أثبت العلم الحديث عدم وجود الأثير، ولكن الفلسفات القديمة المتعلقة بالأثير بقيَتْ كما في الفلسفات المتعلقة بالعناصر الخمسة أو الأربعة.
ثانيًا: قول تروِّج له حديثًا التطبيقات الاستشفائية والتدريبية المستمدة من الفلسفة الشرقية، ومع أن التراث المعرفي المستمد من الوحي المعصوم بيِّنٌ أوضحَ البيان، وغنيٌّ كل الغِنى بأصول ما يُعرِّف الإنسان بنفسه، وقواه الظاهرة والخفية، فإن عقدة المفتونين بالعقل، والمهووسين بالغرب والشرق من المسلمين، جعلتهم يلتمسون ذلك فيما شاع هناك باسم (الأبحاث الروحية)، فنظروا إليها على أنها حقائق علمية أو خلاصة حضارة شرقية عريقة، وأعطوا لأباطيلها وتخرُّصات أهلها ما لم يعطوا لمُحْكَمَاتِ الكتاب وقواطع السنة، ومن ذلك القول بتعدد أجساد الإنسان، وقد يسمُّونها (الأبعاد أو الطاقات)، للقطع بأنها اكتشافات علمية، وهذا القول حقيقتُهُ بعثُ لفلسفة الأجساد السبعة المعروفة في الأديان الشرقية، ومفادها: أن النفس الإنسانية تتكون من عدة أجساد اختلفوا في عدِّها ما بين الخمسة إلى التسعة، بحسب وجهات نظر فلسفية تتعلق بمعتقدهم في ألوهية الكواكب، أو المؤثرات الخارجية، والمتفق عليه من هذه الأجساد: الجسم البدني أو الأرضي، والجسم العاطفي، والجسم العقلي، والجسم الحيوي، والجسم الأثيري، فالجسم البدني: هو الظاهر الذي نتعامل معه، وتنعكس عليه حالات الأجساد الأخرى.
والجسم الأثيري: هو أهم هذه الأجساد، وأساس حياتها، وهو منبع صحة الإنسان وروحانيته وسعادته، وقد سرى هذا المعتقد في أوساط المسلمين، بعد أن عُرِض على أنه كشفٌ علميٌّ عبر التطبيقات الشرقية المروِّجة له على شكل دورات تدريبية، أو تمارين استشفائية مفتوحة لعامة الناس، بعد أن كان هذا المعتقد غامضًا محصورًا في حجر تحضير الأرواح عند خبراء الحركة الروحية الحديثة.
فالاعتقاد بالجسم الأثيري كالاعتقاد بالعقل الباطن، وقُوى النفس، وإنما شاع ذكره عند من غفل عن حقائق الغيب، ورام الوصول إليها من غير طريق الرُّسُلِ، فأصْلُ هذه المعتقدات مأخوذٌ من التراث المنقول في الديانات الوثنية الشرقية، والمعتقدات السرية الباطنية، وكل تطبيقاتها الرياضية والعلاجية الحديثة تدعو إلى تطوير قُوى هذا الجسد لتنمية الجنس البشري؛ حيث يصبح بإمكان الإنسان في المستقبل فِعْلُ ما كان يُعَدُّ خارقة في العصور الماضية، كأن يصبح صاحب لمسة علاجية، أو قدرة على التنبؤ، أو التأثير عن بُعْدٍ، وغير ذلك، دون أن يكون متنبئًا أو كاهنًا، ومن ثَمَّ لا يحتاج لأيِّ مصدرٍ خارجٍ عن نفسه، ويستغني عن فكرة الدين أو معتقد الألوهية عياذًا بالله.
سادسًا: أما عن إدارة وقتك، فانشغل بما يصلُحُ به قِوامُ عَيْشِكَ، وبالنسبة لقراءة الكتب، فننصحك بالاستمرار، لكن مع المنهجية واختيار المناسب، ومما يُعين على ذلك أن تبحث لك عن عالِمٍ أو طالبِ علمٍ عُرف بالعلم والديانة والاستقامة يدلُّك ويُسدِّدك، فإذا عجزت، ننصحك بالتعلم عن بُعد عن طريق الإنترنت، ونرشِّح لك أكاديمية زاد التعليمية، وبمطالعة المواقع الشرعية الموثوق بها، كشبكة الألوكة ومجلسها العلمي، وكموقع الإسلام سؤال وجواب، وموقع إسلام ويب، وموقع الدرر السنية، وموقع إسلام واي.
سابعًا: أما عن مسألة القدر، وأن كل شيء مُقدَّرٌ مكتوب، فلا يمنع السعي والجِدَّ، فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم لأمرين في مسألة القدر؛ هما: الإيمان، والعمل الصالح، ففي حديث مسلم: (( «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» ))، وفيه أيضًا: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفَّت الأقلام وجرت عليه المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: «لا، بل فيما جفَّت به الأقلام، وجرت به المقادير»، قال: ففيمَ العمل؟ قال: «اعملوا، فكلٌّ ميسرٌ لِما خُلق له» [متفق عليه].
وننصح أيها الأخ الكريم باستعمال فكرك وعقلك فيما يناسبك، ويُمكنك أن تبدع فيه، أو ينفعك في دينك ودنياك، ولا تضيِّع وقتك، فإن القدرَ سرُّ الله تعالى في خلقه؛ كما قال الإمام الطحاوي في عقيدته: "وأصل القدر سرُّ الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخِذلان، وسُلَّمُ الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسةً، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامِهِ، ونهاهم عن مَرامِهِ؛ كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد ردَّ حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين".
ولله دَرُّ مَن قال:
تـبارك من أجـرى الأمور بحكمه *** كـمــا شــاء لا ظلـمًــــا ولا هــــضـمـــــــــا
فما لك شيءٌ غير ما الله شـاءه *** فإن شئتَ طِبْ نفسًا وإن شئت مُتْ كَظْما