سبب اعتماد المذاهب الأربعة دون غيرها

سائلة تسأل عن أسباب اعتماد أهل السنة والجماعة المذاهبَ الأربعة دون غيرها من المذاهب الفقهية.

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الفقه وأصوله -
السؤال:

لديَّ سؤال توقَّفتُ أمامه كثيرًا وهو موضوعُ المذاهب الأربعة عند أهل السُّنة والجماعة، ما كيفيَّة اعتماد المذاهب الأربعة كمذاهب مُعتَمدة وعدم اعتماد غيرها عند أهل السنة والجماعة؟ وما الحكمة مِن وُجودها، مع أنَّ القرآنَ الكريم والسنة النبوية وروايات الصحابة وتفسيرهم للقرآن والسنة كافٍ؟

 

فأنا أعلم وعلى قناعةٍ تامةٍ أن الأئمة الأربعة سلَكوا المنهجَ نفسه، ولم يَبْتَدِعوا شيئًا مِن أنفسهم، ولكن من الذي اعتمدهم لتصبح مذاهبهم هي مذاهب أهل السنة والجماعة المعتمدة، ولا يعتمد غيرها؟

 

مع العلم أنه قد ظَهَرتْ مذاهب في عصرهم شبه مطابقة لهم، ولم تبقَ وبقوا هم!

 

فأرجو بيان هذه الإشكالات، وجزاكم الله خيرًا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فقبلَ الجواب عن استفسارك أيتها الابنة الكريمة عن المذاهب الأربعة، وكيف وُجِدَتْ واستوعبتْ أكثر الشريعة الإسلامية ولم يَفُتها في الفروعِ إلا القليل، كما يَعرف ذلك مَن درَس بعضها - فضلًا عن كلها - أو قرأ بعض كتب تاريخ التشريع الإسلامي، وقبل تفصيل الجواب أُحِبُّ أن تَعلمي أن أصحاب المذاهب الأربعة وأئمةَ المذهب ومحققيه وغيرهم... كلهم أتباعٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن صواب المذهب أكثر مِن خطئه، وأن ما فات إمامًا أدركه غيره؛ لأسبابٍ سنأتي على ذكرها إن شاء الله في آخر الجواب.

 

وإن قُرْب المذهب أو بُعده عن السنة إنما يُعرف بموافَقة الدليل أو مخالفته، وأن المنقول عن جميع الأئمة هو وجوب اتباع الكتاب، ووجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وتقديمهما على ما سواهما، وقد نقل عن جميعهم تقديم الحديث على قوله، وأن الحديثَ إذا صحَّ فهو مذهبه، وتركُ التعصُّب واتِّباع القَوْل ما وافق الدليل.

 

أمر آخر وهو: أنَّ الواجب على المسلم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا نزلتْ به نازلةٌ استفتى مَن اعتقد أنه يُفتيه بشرع الله ورسوله، مِن أي مذهبٍ كان، ولا يجب عليه التزام مذهبٍ معين.

 

أما المذاهبُ الفقهية مِن الحنَفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فجميعُها مدارسُ فقهيَّة في فُروع الدين، تكلمَتْ في عامة مسائل الفقه بأدلته التفصيلية، ولا يُعرَف عن أحدٍ مِن الأئمة أنه خالف حديثًا صحَّ عنده وفَهِم دلالته، فكانوا على منهج الحق، واتباع الصحابة وتعظيم الكتاب والسنة، فكلُّها على معتقد أهل السنة والجماعة، ومُتفِقةٌ في النهج، وإن اختلفَتْ في بعض الفروع لأسبابٍ سنذكرها قريبًا، والمنتسِب لها سلفيُّ المذهب أيضًا.

 

أما سببُ انتشار المذاهب الأربعة دون سواها مِن مذاهب الأئمة المتبَعين، والتي نُسِبت لأصحابها أيضًا وكانتْ في نفس زمانهم، فالسببُ في هذا أن الله تعالى قَيَّض للأئمة الأربعة مِن أتباعهم مَن حمل علمهم باستفاضة، وتلقَّت الأمة ذلك بالقَبول، ولم يحصل ذلك لمَن سواهم ممن كان في عصرهم أو بعده مِن الأئمة؛ كالليث والأوزاعي والسُّفيانَيْن وغيرهم... كما قال الشافعي: "الليثُ أفقه من مالك، لكن ضيَّعه أصحابه وما فاتني أحد فأسفت عليه مثله" كما في طبقات الفقهاء (ص: 78)، وقال يحيى بن عبد الله بن بكير: "الليثُ أفقهُ مِن مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك"؛ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/ 180).

 

أما السببُ في اعتبارهم مذاهب لأهل السنة والجماعة فهو تلقِّي الأمة كلها - علماء وطلاب علم وعامَّة - لتلك المذاهب بالقَبول، وحكمتْ أنها مذاهب اجتهادية في مسائل الشريعة الفرعية، وهي متَّفقة في الجملة في أُصول الشريعة.

 

وإن كنتِ قصدتِ أنه لم تكن ثَم مذهبيَّة أيام الصحابة والتابعين، فالجواب أن الضرورة دعَتْ لتتبُّع اجتهاد فقهاء المذاهب الفقهية؛ مِن أجل التمكُّن مِن حل المشكلات العمَلية بيُسرٍ وسهولة، فنشأتْ كمدارس فقهيةٍ كما قدَّمنا؛ لتلبية حاجة المسلمين لمعرفة أحكام دينهم، وإنزالها على الوقائع الجديدة.

 

وقد قرَّر تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 8)، فقال: "فيجب على المسلمين - بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم - موالاةُ المؤمنين؛ كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جَعَلَهم اللهُ بمنزلة النجوم، يُهتدَى بهم في ظُلُمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.

 

إذ كل أمة - قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، والمُحيون لِمَا مات مِن سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطَق الكتاب وبه نَطَقُوا.

 

وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة - المقبولين عند الأمة قَبولًا عامًّا - يَتعمَّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحدٍ مِن الناس يُؤخَذ مِن قوله ويُترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجِد لواحدٍ منهم قولٌ قد جاء حديث صحيح بخِلافه، فلا بد له مِن عُذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَه.

 

والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

 

والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم مَنسوخ".

 

ثم أسهب رحمه الله في بيان أسباب تركهم العمل ببعض النصوص؛ فيُرجَى مراجعة كلامه كاملًا.

 

أما ما وقع بينهم مِن المنازَعات والخلاف، فمِن أعظم مَن وجَّهه بعد شيخ الإسلام ابن تيميَّة تلميذُه العلَّامة ابن القيم في كتابه: الصواعق المُرْسَلَة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 519-631)، سأختصره لكِ، ولكن أنصحكِ بالرجوع إليه لغزارة فوائده، قال رحمه الله: "ووقُوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروري لا بد منه؛ لتفاوُت إرادتهم وأفهامهم وقُوَى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلافُ على وجهٍ لا يُؤدِّي إلى التبايُن والتحزُّب، وكلٌّ مِن المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضرَّ ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصلُ واحدًا، والغايةُ المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة، لم يَكَد يقَع اختلاف، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدَّم من اختلاف الصحابة؛ فإنَّ الأصل الذي بنَوْا عليه واحدٌ؛ وهو كتابُ الله وسنة رسوله، والقصد واحد؛ وهو طاعةُ الله ورسوله، والطريقُ واحد؛ وهو النظَرُ في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قولٍ ورأي وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ".

 

ثم قال: "الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحدٍ وتحاكُمهم إليه؛ وهو كتابُ الله وسنة رسوله:

ذكر الحُمَيْدي في هذا فصلًا مِن كلام أبي محمد بن حزم، وهو مِن أحسن كلامه، فرأينا سياقه بلفْظِه، قال الحُميدي: قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعيِّ وأسبابه: تطلَّعَت النفس بعد تيقُّنها أنَّ الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف، وهو ما جاء عن صاحب الشرع؛ إما في القرآن، وإما مِن فعله أو قوله الذي لا يَنطق عن الهوى فيه، لما رأيتُ وشاهدتُ مِن اختلاف علماء الأمة فيما سبيله واحد، وأصله غير مختلف، فبحثتُ عن السبب المُوجِب للاختلاف، ولترك من ترك كثيرًا مما صحَّ من السنن، فوضح لها بعد التفتيش والبحث أنَّ كلَّ واحد مِن العلماء بشر؛ ينسى كما ينسى البشر، وقد يَحفظ الرجل الحديثَ ولا يحضره ذكره فيُفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أَمَرَ على المنبر ألا يُزاد مهور النساء على عدد ذَكَرَه؛ ميلًا إلى أن النبي لم يَزِد على ذلك العدد في مهور نسائه، حتى ذكَّرته امرأة مِن جانب المسجد بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]؛ فترك قوله وقال: "كلُّ أحد أعلم منك، حتى النساء"، وفي رواية أخرى: "امرأة أصابتْ، ورجلٌ أخطأ"، عِلمًا منه رضي الله عنه بأن النبي وإن كان لم يزد في مُهور النساء على عدد ما، فإنه لم يَمنَع مما سواه، والآية أعمُّ.

 

وكذلك أمر رضي الله عنه برجم امرأةٍ وَلدت لستة أشهر، فذكَّره علي رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]؛ فرجع عن الأمر برَجْمها.

 

وهمَّ أن يسطو بعُيَيْنة بن حِصْن إذ جفا عليه، حتى ذكَّره الحر بن قيس بقول الله عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199]، فأَمْسَكَ عمر.

 

وقال رضي الله عنه يوم مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يكون آخرنا"، حتى قُرِئ عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]؛ فرجع عن ذلك، وقد كان عَلِم الآية، ولكنه نسِيَها لعِظَم الخَطْب الوارد عليه، وقد يَذكُر العالِم الآية والسُّنة، ولكن يَتأول فيهما تأويلًا مِن خصوص أو نَسْخ أو معنى ما، وإن كان كلُّ ذلك يحتاج إلى دليلٍ، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا بالمدينة حوله مجتمعين، وكانوا ذوي مَعايش يَطلبونها، وفي ضَنْك مِن القوت؛ فمن مُحترِف في الأسواق، ومن قائم على نخله، ويحضره في كل وقتٍ منهم طائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله.

 

وقد نصَّ على ذلك أبو هريرة فقال: "إن إخواني من المهاجرين كان يَشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يَشغلهم القيام على نخلهم، وكنتُ امرأً مسكينًا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مِلء بطني"، وقد قال عمر رضي الله عنه: "ألهاني الصَّفْق بالأسواق" في حديث استئذان أبي موسى، وكان صلى الله عليه وسلم يَسأل عن المسألة، ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء، ويفعل الشيء، فيحضره مَن حضره ويغيب عنه مَن غاب عنه، فلما مات وَلِيَ أبو بكر، كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نص سأل مَن بحضرته من الصحابة عنها، فإن وَجَد عندهم نصًّا رجع إليه، وإلا اجتهد في الحكم فيها، وكان اجتهاده واجتهاد غيره منهم رضي الله عنهم رجوعَهم إلى نص عام، أو إلى أصل إباحة متقدمة، أو إلى نوع من هذا يرجع إلى أصل، ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يُشرِّع شريعة باجتهاد ما، أو يخترع حكمًا لا أصل له، حاشاهم من ذلك.

 

فلما وَلِيَ عمر رضي الله عنه فُتِحت الأمصار، وتفرَّقت الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِم به، وإلا اجتهدوا في ذلك، وقد يكون في تلك القضية نصٌّ موجود عند صاحب آخر في بلد آخر.

 

وقد حضر المدنيُّ ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، والبصري ما لم يحضر الكوفي، والكوفي ما لم يحضر البصري، والمدني ما لم يحضر الكوفي والبصري...، كل هذا موجود في الآثار، وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن مجلسه في بعض الأوقات، وحضور غيرهم مغيبَ الذي حضر، وحضور الذي غاب؛ فيدري كل واحد منهم ما حضره، ويفوته ما غاب عنه، هذا أمرٌ مشاهَد.

 

وقد كان عِلم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود؛ حتى قالا: لا يَتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين.

 

وكان حكم المسح على الخفين عند علي وحُذَيفة، ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة، على أنهم مدَنيون.

 

وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب ذلك عن أبي موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأُبَي، وغاب عن عمر.

 

وكان حكم الإذن للحائض في أن تَنفِر قبل أن تطوفَ عند ابن عباس وأم سليم، ولم يعلمه ابن عمر وزيد بن ثابت.

 

وكان حكم المتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يَعلمه ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمَّة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر، فنَسِيَه عمر سنتين، فتَرَكهم حتى ذُكِّر بذلك فذَكَره فأجلاهم، ومثل هذا كثير، فمضى الصحابة على هذا ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة مِن التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقهوا بمن كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاويهم، لا تقليدًا لهم، ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بَلَغهم عن غير مَن كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم؛ كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود.

 

ثم أتى مِن بعد التابعين فقهاءُ الأمصار؛ كأبي حنيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك، وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي، وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجرَوْا على تلك الطريقة مِن أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده، وتابعوهم عن الصحابة فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم وهو موجود عند غيرهم، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها، وكل مَن ذكرنا مأجورٌ على ما أصاب فيه أجرَين، ومأجور فيما خَفِيَ عنه ولم يبلغه أجرًا واحدًا؛ قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقد يَبلُغ الرجلَ ممن ذكرنا نَصَّان ظاهرُهما التعارض؛ فيَميل إلى أحدهما بضَرْب مِن الترجيحات، ويميل غيره إلى النص الآخر الذي تركه بضرب آخر من الترجيحات؛ كما روى عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين، أحلَّتْهما آية وحرَّمَتْهما آية، وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً؛ بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقال: "لا أعلم شركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها"، وغلَّب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى، ومثل هذا كثير.

 

فعلى هذه الوجوه ترَك بعضُ العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم؛ فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص ولا تركًا لطاعتها، ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا؛ إما من نسيان، وإما أنها لم تبلغهم، وإما لتأويل ما، وإما لأخذٍ بخبر ضعيف لم يَعلم الآخذ به ضعفَ رواته وعَلِمَه غيره؛ فيأخذ بخبر آخر أصحَّ منه، أو بظاهر آية، وقد يَتنبَّه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح منه حكم بدليل ما، ويغيب عن غيره، وقد كثرت الرِّحَل إلى الآفاق، وتداخل الناس، وانتدب أقوام لجمع حديث النبي وضمِّه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى مَن لم يكن عنده، وقامت الحُجة على من بلغه شيء منه، وجُمِعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث، وعُرِف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله، وسقط العُذر عمَّن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه، وقيام الحجة بها عليه، ولم يبق إلا العناد والتقليد.

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: جِماع الأعذار في تركِ مَن تركَ مِن الأئمة حديثًا ثلاثةُ أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله.

 

الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.

 

الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

 

وهذه الأصناف الثلاثة تتفرَّع إلى أسباب متعددة:

• السبب الأول: ألا يكون الحديثُ قد بلغه؛ ومن لم يبلغه الحديث لم يُكلَّف أن يكون عالِمًا بموجبه، فإذا لم يبلغه - وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية، أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب - فقد يُوافِق الحديث المتروك تارة، ويخالفه أخرى، وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد مِن أقوال السلَف مخالفًا لبعض الأحاديث.

 

فإنَّ الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكنْ لأحدٍ مِن الأئمة، واعتُبِر ذلك بالخلفاء الراشدين، الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله، وخصوصًا الصِّديق الذي لم يكن يفارقه؛ لا سفَرًا ولا حضرًا، وكان عنده غالب الأوقات، حتى كان يَسمَر عنده بالليل، وكان كثيرًا ما يقول: "دخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، وذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر"، ثم مع ذلك الاختصاص خَفِيَ على أبي بكر ميراث الجدة، وكان علمه عند المُغِيرة بن شُعبة ومحمد بن مَسْلَمَة وعِمران بن الحُصَين، وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر، ولا قريبًا منه في العلم، وخَفِيَ على عمر سنةُ الاستئذان وتوريث المرأة من دِية زوجها، حتى أخبره الضحَّاك بن سفيان الكلابي - وهو أميرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَّث امرأة أَشْيَمَ الضِّبابيِّ من دِيَة زوجها، فترك رأيه لذلك، وقال: "لو لم نسمع هذا لقضَيْنا بخلافه"، وخَفِيَ عليه حكم المجوس حتى أخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب»، وخَفِيَ عليه حكم الطاعون حتى أخبره عبدالرحمن بن عوف أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه».

 

وتذاكَر هو وابن عباس أمرَ الذي شكَّ في صلاته، فلم يكن قد بلغته السُّنة في ذلك، حتى حدَّثه عبدالرحمن بن عوف عن النبي أنه يطرح الشك، ويَبني على ما استيقن.

 

وكان مرة في السفر، فهاجتْ ريحٌ فجعل يقول: من يُحدِّثنا عن الريح؟ قال أبو هريرة: "فبلغني ذلك وأنا في أُخرَيات الناس، فحثثتُ راحلتي حتى أدركتُه، فحدَّثته بما أمر به النبي عند هبوب الريح".

 

وأما المنقول فيه عمَّن بعد الصحابة والتابعين فأكثر من أن يُحصى، فإذا خَفِيَ على أعلم الأمة وأفقهها بعضُ السُّنة، فما الظن بمَن بعدهم؟ فمَن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بَلَغ كل فرد من الأئمة، أو إمامًا معينًا، فقد أخطأ خطأً فاحشًا.

 

قال أبو عمر: "وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خَفِيَت عليه بعضُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن الصحابة فمن بعدهم".

 

وصدق أبو عمر رضي الله عنه فإن مجموع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وإقراره - لا يوجد عند رجلٍ واحد أبدًا، ولو كان أعلمَ أهل الأرض.

 

• السبب الثاني: أن يكونَ الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده؛ إما لأنَّ مُحدِّثه أو مَن فوقه مجهول عنده، أو سيئ الحفظ، أو مُتَّهم، أو لم يبلغه مسندًا، بل منقطعًا، أو لم يُضبَط له لفظ الحديث، ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسناد صحيح متصل؛ بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول، أو يرويه له ثقة غيره، ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة، ويضبطه له مَن لم يضبطه للآخر، أو يقع له من الشواهد والمتابعات ما لم يَقَعْ لغيره؛ فيكون الحديث حجة على من بَلَغه مِن هذا الوجه، وليس بحجة على مَن بلغه مِن الوجه الأول، ولهذا علَّق كثير من الأئمة القول بموجب الحديث على صحته؛ فيقول: "قولي فيها كيت وكيت، وقد روي فيها حديث بخِلافه، فإن صح فهو قولي"، وأمثلة هذا كثيرة جدًّا.

 

• السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفَه فيه غيره، فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل، ويعتقد الآخر ثقته وقوته، وقد يكون الصواب مع المضعِّف لاطلاعه على سبب خَفِيَ على الموثِّق، وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته؛ إما لأن جِنسه غير قادح، وإما لأن له فيه عذرًا أو تأويلًا يمنع الجَرح.

 

وقد لا يعتقد الذي بَلَغه الحديث أن راويه سَمِعه من غيره؛ لأسباب معروفة عنده، خَفِيَت على غيره.

 

وقد يكون للمحدث حالان؛ حال استقامة وحال اضطراب، فلا يَدري الرجل أن حديثه المُعيَّن حَدَّث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب؛ فيتوقف فيه، ويَعلم غيره أنه حدث به في حال الاستقامة؛ فيقبله.

 

وقد يكون المُحدث قد نَسِيَ الحديث الذي قد حَدث به، فيُنكره، فيبلغ المجتهدَ إنكارُه له ولا يعمل به، ويرى غيرُه أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به.

 

• السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العَدْل شروطًا يُخالفه فيها غيرُه؛ كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهًا إذا خالف ما رواه القياس، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان مما تعمُّ به البلوى، واشتراط بعضهم ألا يكون الحديث قد تضمَّن زيادة على نص القرآن؛ لئلا يلزم منه نسخ القرآن به، وهذه مسائل معروفة.

 

• السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية؛ كما نَسِيَ عمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، ونَسِيَ قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، ونَسِيَ فتوى النبي له ولعمَّار بالتيمم للجنابة في السفر، وكذلك ما رُوِيَ أن عليًّا ذكَّر الزبير يومَ الجمل شيئًا عهده إليهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فذكَره فانصرف عن القتال، قلتُ: فيكون الناسي معذورًا بفتواه بخلاف النص، فما عذر الذاكر للنص إذا قلد الناس وخالف الذاكر والذكر.

 

• السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث؛ إما لكون لفظ الحديث غريبًا عنده؛ مثل لفظ المزابنة والمحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والحصاة والغرر... ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها، ومثل قوله: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق؛ فإنهم فسَّروا الإغلاق بالإكراه، قلتُ: هذا تفسير كثير من الحجازيين.

 

ومن هذا الخلافُ العارض من جهة كون اللفظ مشتركًا أو مجملًا أو متردِّدًا بين حمله على معناه عند الإطلاق؛ وهو المسمى بالحقيقة، أو على معناه عند التقييد؛ وهو المسمَّى بالمجاز، كاختلافهم في المراد من (القُرْء)، هل هو الحيض أو الأطهار؟ ففهِمَت طائفة منه: الحيض، وأخرى: الطُّهر، وكما فهمت طائفة من الخيط الأبيض والأسود: الخيطَيْن المعروفَيْن، وفهم غيرهم: بياض النهار وسواد الليل.

 

• السبب السابع: أن يكون عارفًا بدلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطَّن لدخول هذا الفرد المُعيَّن تحت اللفظ؛ إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته، وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإما لاعتقاده اختصاصه بخصيصة يُخرجه من اللفظ العام، وإما لاعتقاده العموم فيما ليس بعام، أو الإطلاق فيما هو مُقيَّد؛ فيَذهَل عن المُقيَّد كما يَذهَل عن المُخصَّص.

 

• السبب الثامن: اعتقاده أن لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازع فيه؛ فها هنا أربعة أمور:

أحدها: أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع؛ فيحمله على خلاف مدلوله.

 

الثاني: أن يكون له في عرف الشارع معنيان؛ فيحمله على أحدهما، ويَحمله غيره على المعنى الآخر.

 

الثالث: أن يَفهم من العام خاصًّا أو من الخاص عامًّا، أو من المُطْلق مقيَّدًا أو من المقيَّد مُطلقًا.

 

الرابع: أن ينفي دلالة اللفظ؛ وتارة يكون مُصيبًا في نفس الدلالة، وتارة يكون مخطئًا.

 

• السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما هو مساوٍ لها؛ فيجب التوقُّف، أو ما هو أقوى منها؛ فيجب تقديمه، وهذه المعارضة نوعان؛ معارضة في الدليل، ومعارضة في مقدمة من مقدماته"، اهـ مختصرًا.

 

وفقك الله لكل خير، ورزقنا جميعًا الاعتصام بالكتاب والسنة