خماسية التعديل السلوكي
تتكرر أسئلة أولياء الأمور عن كيفية التعامل مع عدم التزام الأطفال والبالغين بنظام البيت أو المدرسة أو غيرها: ابني لا يدرس، ابنتي لا ترتب غرفتها، طفلي لا يخلع حذاءه في مكانه المناسب.. فما طريقة التعامل مع مثل هذه السلوكيات وغيرها؟
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - استشارات تربوية وأسرية -
تتكرر أسئلة أولياء الأمور عن كيفية التعامل مع عدم التزام الأطفال والبالغين بنظام البيت أو المدرسة أو غيرها:
ابني لا يدرس، ابنتي لا ترتب غرفتها، طفلي لا يخلع حذاءه في مكانه المناسب، طفلتي ترفع ضغطي عند إيقاظها للمدرسة، ابني يتأخر مع أصحابه حتى منتصف الليل، ابنتي تخاطبني بندية قد تصل إلى سوء الأدب، وغير هذا من أمثلة..
أقول: قبل أي خوض في تفصيل الأمر أو توجيه النصائح (المعلبة) الجاهزة: افعل كذا، ولا تفعل كذا، وافعلي كذا، واحرصي ألا تفعلي كذا، قبل هذا كله، علينا نحن (أولياء الأمور) أن نتوجه إلى أنفسنا بشيء من الاهتمام وتزكية النفس وإعطائها حقها. ينبغي ألا نقع في فخ (أنا أحترق لأضيء للآخرين)، بل عليّ أن (أضيء لنفسي فأضيء للآخرين). لا أبالغ إذا قلت إن جُلّ ما وردني من حالات (مرهقة) في التربية تنطلق من (إهمال النفس) لدى أحد الأبوين أو كليهما. إذن: النفس أولًا، وفاقد الشيء لا يعطيه.
لا أنفك أكرر هذه القصة التي أخبرتني بها إحدى الأمهات في إحدى حلقات التدريب الخاصة بهنّ، قالت: مصداقًا لكلامك يا دكتور، فأنا أتوتر كثيرًا بسبب عدم التزام ابني (المراهق) بالصلاة، فأجدني ألاحقه، وآمره، وأكرر عليه الأمر. حتى حصل ذات يوم أنني (غضبت) وقلت له: اذهب، فلن يوفقك الله! فقال لي: ماذا عساي أفعل بالصلاة إذا كانت الصلاة لم تمنحك الطمأنينة الكافية للتعامل معي؟! قلت لها يومها: ابنك (المراهق) فقه الصلاة أكثر منك.
لافتة أولى: لا أحب استخدام لفظ (المراهق/المراهقة) بل أفضل (البالغ/البالغة). لافتة ثانية: كلمة الابن إنما هي كلمة حق أريد بها باطل، وإلا، فكان الأولى به أن يعتبر بما يقول، ولكن من عادة البالغين أن (يتفلسفوا) دون عمل.
إذن، عليّ أولًا أن أحيا الطمأنينة والسعادة والرضا قبل أن أحاول منحها أو إيصالها إلى الآخرين، في البيت أو خارجه. ثم يلي ذلك أمر مهم، لعلي أختصره بذكر ما قرأته مرة: فلقد أعجبني جدا ما بدأ به الشيخ مصطفى العدوي مقدمة كتابه "فقه تربية الأبناء". وكنت قد تساءلت، ماذا عسى يكتب شيخ (شرعي/سلفي) عن تربية الأبناء؟! لعله سيكرر كثيرًا مما سبقه إليه غيره. لكن الشيخ فاجأني في عنونته لمقدمة الكتاب، حيث كان العنوان: الهداية بيد الله. يومها قلت لزوجتي: هذا الرجل (يفقه) بحق (تربية الأبناء).
نعم، لا بد من هذه المقدمة قبل أن يخطو الوالدان خطوة واحدة في (تربية الأبناء). لا بد أن أدرك، كأب أو كأم، أن الأمر ليس بيدي، فأهدأ ولا أثقل كاهل نفسي بما قد لا أطيق حمله، لا بد أن أعي أن ما عليّ لا يتجاوز (الإرشاد والتوجيه)، أما (الهداية) فهي بيد الله وحده. كثير من الآباء والأمهات يتوهمون أن نفوس أبنائهم بأيديهم، وأنهم (يتحكمون) في (كل شيء) تقريبًا، ثم يصدمهم الواقع بما لا يقدرون على مواجهته أو حمله. لنفسي، ولهؤلاء، ولغيرهم، أقول: أشفقوا على أبنائكم من إشفاقكم عليهم.
ثم آتي هنا لأبين خماسية التربية السلوكية والإرشاد والتوجيه: الصمت، ثم الاستثارة، ثم القدوة الفاعلة، ثم الوعظ المباشر والعقد التربوي، ثم الانسحاب الإيجابي.
وسآخذ مثالًا على هذه الخماسية: وضع حقيبة المدرسة في مكانها المخصص لها. فإذا حصل أن عاد الطفل/الطفلة من المدرسة، ثم لم توضع الحقيبة في مكانها، هنا، عليّ أن أصمت. نعم، أصمت. دون (افعل) أو (لا تفعل). وأعطي الطفل/الطفلة زمنًا لعله يكون كافيًا أن يريني ما لا أتوقعه من الاستجابة الفاعلة، وإلا، فقد صار عندي من التجربة ما أعرف فيها حال طفلي أو طفلتي من (الشعور الحر) دون توجيه.
فإذا استمر الأمر، يحين دور الاستثارة. وأعني بالاستثارة هنا: توجيه انتباه الطفل/الطفلة إلى (وضع الحقيبة في مكانها) دون (توجيه مباشر). مثلا: (لمن هذه الحقيبة؟) دون أن أنتظر إجابة. أو: (هل هناك من نسي حقيبته على الأرض؟) دون أن أنتظر إجابة. أو: (هل تود إحداكن أن تتبرع بهذه الحقيبة لمن يستحقونها؟) دون أن أنتظر إجابة. وفائدة الاستثارة هنا، أن أربي في طفلي/طفلتي الحس المرهف، وأن أعلمهم أن (اللبيب بالإشارة يفهم)، وأن أترك لعقلهم مساحة للاستجابة.
فإذا استمر الأمر، يحين دور القدوة الفاعلة. وأعني بـ القدوة الفاعلة هنا: أن أتوجه بنفسي، وبكل هدوء، لرفع الحقيبة من الأرض ووضعها في مكانها. سيقفز البعض ليقولوا: إذن سيطيب لهم الحال ويعتمدوا علينا بعد ذلك! أقول: لا تعجلوا. الآن، وحتى هذه اللحظة: أكون، كأب أو كأم، قد منحت طفلي/طفلتي أكثر من فرصة لتقدير النفس، وتكونت لديّ، كأب أو كأم، صورة واضحة، وحجة كافية، لمعرفة ما يمكن أن أقوم به فيما هو قادم. ولا أستغرب ألا يصل كثير من الأبناء/البنات إلى هذه المرحلة، فهم لا يحتاجون أكثر من (محيط تربوي هادئ).
فإذا استمر الأمر، يحين الآن، الآن فقط، الآن وليس أول الأمر، الآن، بهدوء، وليس انتقامًا، يحين دور الوعظ المباشر + العقد التربوي. والوعظ المباشر لا يكون إلا: في جو من الهدوء، وبوضوح الموضوع ومفرداته في نفسي، ويعطى وقتًا كافيًا ومقتطعًا، بعيدًا عن لحظة الخطأ أو التوتر، وبلغة حوار تقدر الآخر وتمنحه حقه في الخطأ والتعبير، وبعقلانية في الطرح: أسباب وجيهة ومنطقية لا تسقطها حجج سخيفة أو واهية.
لافتة: في الحوار، وإذا لزم الأمر، يحق لنا أن نستعمل ما مضى من (تجارب) لنثبت له/لها أننا (مضطرون) للوعظ المباشر، بعد كل ما مضى.
وهنا، ومع الوعظ المباشر، نتقدم بوضع (العقد التربوي) على طاولة الحوار. والعقد التربوي باختصار: مجموعة الحقوق والواجبات التربوية، وما يتعلق بها من أنظمة وقوانين، وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب. وأنصح بأن يكون الأمر غاية في الوضوح والتفصيل: يبدأ بوقت ما قبل النوم، وينتهي بمساء اليوم التالي، كما يتناول نهاية الأسبوع، والأنشطة داخل البيت وخارجه.
هنا، لا بد لنا من توضيح مفهوم (الدور) أو (الوظيفة). فيعلم الطفل/الطفلة أن لكل منا دورًا/وظيفة، ولكل دور/وظيفة حق/واجب، ابن/ابنة- شقيق/شقيقة- صاحب/صاحبة- طالب/طالبة- زوج/زوجة- أب/أم.. وهكذا.
كما لا بد لهم أن يعلموا، أن الحرية متعلقة بمفردة أخرى لا تغادرها وهي: المسؤولية. فمن يطالبون بـ (الحرية)، لا بد لهم أن يعلموا أنهم (مسؤولون).
لافتة: يتقن معظم الأبناء/البنات فن (الابتزاز الطفلي) والمطالبة بكل الحقوق، دون اعتبار أي واجب أو مسؤولية. وهنا أيضا، لا بد أن أتوقع أن يطيل الطفل/الطفلة النفَس في (المفاوضات)، لكن المهم ألا تنتهي الجلسة حتى نتفق، على الأقل، على نظام مبدئي، ثم، لا حرج في إرجاء الاتفاق على (نظام الثواب والعقاب).
وبعد أن أتأكد من فهم الطرف الآخر لـ العقد التربوي، أنسحب، وأعود إلى الصمت مرة أخرى، ولكنني أعود إلى الصمت ومعي: العقد التربوي. فإذا صدر ما يوجب تفعيل العقد إيجابًا أو سلبًا عليّ أن (ألتزم) بما ورد في العقد التربوي، بكل حزم، وحسم، وهدوء.
ولأتذكر هنا:
التربية الصالحة ليست الانتقام. التربية الصالحة عملية فاعلة صادرة عن نفس سوية مطمئنة، وليست نفسًا مرهقة تصب جام تعبها على من حولها.
وخلال هذا كله، وقبله، وبعده: عليّ أن أحيا حياتي اليومية، وأنا أعطي نفسي حقها، لأتمكن من أن أعطي غيري، حقوقهم.
آنسكم الله، وآنس أبناءكم وبناتكم، وأعاننا وإياكم على البر بأنفسنا وبأبنائنا وبناتنا.
عبد الرحمن ذاكر الهاشمي