قسوت على ابنتي في صغرها .. فهل ما تفعله الآن بسبب تلك القسوة؟

تأثير قسوة الماضي على الحالة النّفسيّة والقدرات العامّة لطفلتك يُعدّ تأثيرًا يسيرًا مقارنة بحجم الأذى البدني والنّفسي الذي تعرّضت له خلال فترات الطّفولة الأولى والمبكّرة التي تُعد من أهمّ فترات التّنشئة والإعداد النّفسي.

  • التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

عند ولادة ابنتي تعرضت لتعب نفسي لا يوصف، وكنت أكرهها، أصابتني حالة لا أعرف لماذا! في تلك الفترة من عمر سنة، كنت أضربها بعنف، وأكره رائحتها، وأبكي، لا أريدها! ولا أحد ساعدني، رغم طلبي المساعدة، والأمر يزداد سوءًا، وكنت ألتجئ لله في الدعاء أن يحببني فيها، وفي عمر ثلاث سنوات كنت أضربها بشدة ثم أبكي، وما زلت مستمرة أن أستمد قوتي وحبي لها من الله، فكنت كثيرة الدعاء أن يشفي الله ما في صدري، وأن قلبي ليس بيدي، فلا حول لي ولا قوة، الأبواب مغلقة في وجهي، وكل يوم يمر أضربها بشدة وعنف.

الآن أصبح عمرها ست سنوات، ومع كثرة الإلحاح على الله والدموع والبكاء، أصبحت أضمها وأدللها وأقترب منها، وأحاول إظهار حبي لها لأعوضها، وفي قلبي عتب لكل من علم بحالتي ولم يساعدني.

المهم: أريد أن أستفسر عن بعض تصرفاتها لأطمئن، ابنتي مفرطة الحركة وعنيدة جدًا، لكنها تحب أن تساعدني، مثلًا: تأخذ الملاعق من سفرة الغداء والأكواب، وهكذا، والشيء الآخر: تتفاعل مع موسيقى أفلام الكرتون أو الشيلات، لا تستطيع أن تشاهد بهدوء، ترقص كثيرًا، وتحرك يديها وقدميها، وإذا رأت بنتًا ترتدي لبسًا جميلًا تحاول ضربها، وتقول لي: بأنها تكره هذه البنت، وأنا أقول: لا، أنت جميلة، وهي جميلة.

ماديتنا قليلة، لا أستطيع أن أشتري لها جميع الملابس، أكتفي بالملابس الموجودة، وهي تريد أن تلبس كل أنواع الملابس والألعاب، وعندما نتحدث أنا ووالدها، تبدي رأيها كثيرًا بشكل مزعج، وعندما أناقش أخاها لأمر ما، تبدي رأيها بشكل متكرر، وتطرح حلولًا كثيرة، متعلقة بالأكل كثيرًا، وتقدس الأكل، وعندما تلعب أتضايق من لعبها، فهي تأخذ الرمل وتسكبه على رؤوس الأطفال، ثم تأخذ ماء وتعجن التراب، وتتسخ ملابسها، لا تهتم لنظافتها بقدر أنها تريد أن تلعب بالطول والعرض، حتى الشجر تريد أن تتسلقه، تترأس الأطفال وتضربهم إن لم يسمعوا كلامها.

أشعر بألم، الكل يأتي يشكي من تخريبها، تقول لي بأنها بنت مؤدبة، لكن لا أراها مؤدبة، تخريبها كثير ولا ينتهي، تتغافلني بأمور، وإذا لم تجدني في مكان ما تفرح لتخرب بشكل أكبر، وعندما أحضر تمثل لي أنها بنت مؤدبة، هي نظامية، وتحب الترتيب، وعندما أتعب تأتي لتطبطب علي.

أرجو أن تطمئنوني، هل وضعها طبيعي؟ لأني قسوت عليها أول سنواتها، وأخاف أنها تأثرت، والآن ما علي أن أفعل؟

أرجوكم: لا تلوموني، فأنا عانيت الآمرين، وبانتظار إجابتكم بفارغ الصبر، شرح الله صدركم.

الإجابة:

العزيزة الأم الغالية: أسعد الله قلبك وطفلتك وسائر أحبّتك.

بداية: نحمد الله إليك ونطمئن قلبك، ونبث السّكينة في حنايا فؤادك، بأنّ تأثير قسوة الماضي على الحالة النّفسيّة والقدرات العامّة لطفلتك يُعدّ تأثيرًا يسيرًا مقارنة بحجم الأذى البدني والنّفسي الذي تعرّضت له خلال فترات الطّفولة الأولى والمبكّرة التي تُعد من أهمّ فترات التّنشئة والإعداد النّفسي.

وطفلتك طبيعيّة لا تشكي من أي خلل سوى أنّها تحتاج منك الآن للاحتواء، والرّعاية وتوفير الأجواء التّربويّة الآمنة، وتدريبها على تسلّم المهام القياديّة التي تحاكي نمط شخصيّتها التي لم تتمكّن قسوة الماضي من طمس ملامحها، ولقد أثبت طفلتك قدرة نفسيّة عالية على تجاوز حدّة الخبرات السّلبيّة السّابقة، إلا أنّها تحتاج للتّمرين لتهذيب بعض الآثار.

 

ونفيدك بما يلي:
أولًا: بعض سلوكيّات طفلتك تشير إلى جانب إيجابي في القدرات العامة، ومن تلك السّلوكيّات التي في باطنها تخبر عن شخصيّة قوية:

  • مشاركتها لأحاديث البالغين والتّعبير عن رأيها بثقة، وطرحها للحلول وأساليب معالجة المشكلات، وإنّ كان الأسلوب في تفعيل تلك المهارات غير لائق، ويحتاج لشيء من التّهذيب، إلا أنّ المهارة ذاتها تشير إلى قدرات وكفاءة موائمة للمرحلة العمريّة.
  • قيادة مجموعات الأطفال وفرض شخصيّتها بينهم، رغم أخذها الضّرب كوسيلة لفرض الرّأي إلا أنّ المهارة تشير إلى ثقة عالية بالنّفس، وميول نحو القيادة، وما نرمي إليه أنّ تهذيب تلك المهارات وتعزيزها بتوفير الأساليب والأنماط التّربويّة المناسبة لتظهر بالصّورة اللائقة اجتماعيًّا، يُعدّ العامل المهم في إعادة تهيئة البناء النّفسي التّربوي لطفلتك وتأهيله.

 

ثانيًا: أمّا بعض السّلوكيّات والآثار النّفسيّة السّلبيّة التي نشأت عن قسوة المعاملة والإيذاء البدني خلال مراحل الطّفولة وكيفيّة علاجها ننصحك بما يلي:

فرط الحركة: ولا بدّ من توضيح الأمر؛ حيث لا يمكن تصنيف النّشاط البدني عند طفلتك على أنّه اضطراب سلوكي تابع لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، خاصّة مع عدم إشارتك لضعف التّركيز على التّفاصيل أو تشتت الانتباه، لذلك غالبًا ما يصّنف النّشاط الحركي الزّائد أو غير المنظّم على أنّه نوع من أنواع الاستكشاف الطّبيعي للبيئة والانخراط مع المثيرات المحيطة، ويظهر عند طفلتك بصورة غير منظّمة نتيجة للخلل في أساليب التّفاعل، لكنّه لا يشير بأي صورة من الصّور لمشكلات نفسيّة –فليطمئن قلبك–، بل على العكس فهو يشير إلى نسبة ذكاء مرتفعة على الغالب، بدليل ما أشرتِ إليه من تفاعل لغوي وحوار، وقدرة عالية على طرح الحلول والتّساؤلات.

 

  • وللمساعدة في تنظيم الحركة وتهذيب النّشاط البدني لدى طفلتك ننصحك بما يلي:
  1. مشاركتها في أنشطة رياضيّة هادفة ومنظّمة وحسب الميول والهوايات الخاصّة بها، ومن أهم أنواع الرّياضات في تهذيب النشاط الحركي، هو العلاج المائي أو السّباحة، لثلاث مرّات أسبوعيًّا، أو حسب المتاح للأسرة، أو تفريغ النشاط البدني من خلال الألعاب الحركية مثل القفز، والجري، ومسابقات الألعاب الحركيّة المنوّعة.
  2. محاولة شغل أوقات الفراغ بأنشطة ذهنيّة للمساعدة في التّحفيز الفاعل على تنمية مهارات مساندة للحد من النّشاط الحركي، ويمكن في هذا الجانب التركيز على إعداد ركن الأنشطة الاستكشافيّة والتّجارب العلميّة البسيطة، ومرسم الطّفل، والمكتبة القصصيّة التي تحوي على القصص المصوّرة.
     
  3. مشاركتها لفترات مضاعفة في برامج اللعب الحركي، ومساعدتها بالحث والتّعزيز والمتابعة على تنظيم الحركة والنّشاط البدني.
     

اللعب بشكل غير منظّم ومحاولة ضرب الأطفال والتعامل غير الحذر مع النّظافة العامة للمكان والبدن وتخريب الأدوات:

ضرب الأطفال: فهو سلوك مكتسب، كونها تتعرّض للضرب، لذلك فهي تعتقد بأنّه أفضل وسائل التّواصل لفرض السّلطة والتّعبير عن كيانها بين مجموعات الأقران؛ خاصّة الأقل قوّة منها، ولا بد من تدريبها على وسائل بديلة وحثّها مع التّعزيز على استخدام الحوار وأساليب الإقناع عوضًا عن مد اليد، إضافة إلى تلبية حاجتها من الحب والحنان، والإغداق عليها بالتّعاطف والقبول الذي حرمت منه لفترة طويلة ومؤثّرة في حياتها السّابقة.

نظافة الملابس: يُعد اللعب من أهم الوسائل لتنمية قدرات الأطفال، حيث يميل غالبيتهم للأساليب اللعب ذاتها في مناطق اللعب المخصصّة للأطفال مع بعض التّباين، وذلك تلبية لحاجتهم لمثل هذا النّوع من اللعب الحر، بعيدًا عن القيود المفروضة، وللمساعدة في تهذيب ذلك السّلوك يتم معالجة الأمر بالخطوات الإجرائيّة التّالية:
 

  1. الحرص على التّهيئة النّفسيّة لأهميّة النظافة العامّة وربطها بالقيم والتّربية الدّينيّة.
     
  2. الحرص على تبديل الملابس فور اتّساخها للتّمرين على أهميّة النظّافة.
     
  3. سرد القصص المصوّرة التي تحث على النّظافة، إضافة إلى المقاطع المصوّرة.
     
  4. تفهّم السّلوك والتّعاطف مع خصائص الرحلة العمريّة.
     

الشّغب والتّخريب: غالبًا ما يقترن بأسباب رئيسيّة مثل حب الاستطلاع والاستكشاف، أو الشّعور بالسّخط والرّغبة من الانتقام من بعض الأساليب التّربويّة، مثل: القسوة المفرطة، أو كنوع من أنواع الغيرة والشّعور بالنّقص، والعلاج يكمن في:

  1. تلبية الحاجات النّفسيّة والماديّة، والاحتواء، والحب.
     
  2. تنمية خبرات إيجابيّة سارّة للمساعدة في تفريغ الخبرات السّلبيّة وتجاوزها.
     
  3. تنمية قدرتها ومهاراتها الاجتماعيّة وتدريبها على وسائل التّواصل السّوي، والتّفاعل الإيجابي مع الأدوات والأشياء.
     
  4. إعادة بناء الثّقة بنفسها، وإحاطتها بمشاعر القبول، من قبل فئة الأقران.
     
  5. الحذر من توجيه النّقد المتواصل، وعدم التّركيز السّلبي على جوانب الضّعف، وتعزيز الأداء والسّلوك الإيجابي بهدف تكراره للتّمكن من إطفاء الأساليب السّلبيّة في التّعامل مع المثيرات من حولها.
     
  6. تمكينها من إبراز جانب إيجابي بين مجموعة الأقران والأقارب، كأنْ تقوم بإتقان عملٍ م،ا ثم عرضه في حلقة جماعيّة والثّناء عليه.
     
  7. توفير بعض أدوات اللعب التي تمكنها من تفريغ ميولها إيجابًا.
     

التّصرّف بازدواجيّة: حيث تبدي السلوك المقبول اجتماعيًّا في حضرتك، بينما تسيء التّصرف عند غيابك، ويُعد ذلك نوعًا من أنواع الخوف من مصدر السّلطة "الأم"، وللحد من هذا التّوجّه السّلوكي ننصحك بما يلي:
 

  1. استخدام البدائل التّربويّة والحد من العقاب، خاصّة البدني، وتعزيز الثقة بالوالدين وبث مشاعر الأمن والاستقرار النّفسي والوجداني.
  2. متابعة سلوكها من خلال الأشراف، أثناء الفترة الحاليّة، والتّعامل مع ذلك بالتّعديل والتّثبيت، لتصحيح الانحراف والاعوجاج، فالتّعليمات التربويّة التي يتم التّدريب عليها لا بدّ من تعميمها وحث الأقارب الذين يشكون من تصرّفاتها بالتّوجيه والرّعاية وتثبيت السّلوك الإيجابي وتعزيزه حتّى مع غيابك.

 

ثالثًا: بالنسبة للإمكانيات الماديّة: عند توفير الحاجات المادّية الأساسيّة لطفلتك المقرونة بتلبية الحاجات النّفسيّة بصورة آمنة مع غرس القناعة بما توفرينه من ملابس وكماليّات يسيرة، فأنتِ تحرصين بذلك على رعاية صحتها النّفسيّة وتنشئتها بشكلٍ آمن، فأناقة الأطفال وحُسن مظهرهم يكمن في ابتساماتهم ونظافة الثياب ولباقة القول واللعب، ويمكن توفير ذلك ب:
 

  • التربية الاقتصاديّة، لحماية طفلتك من التّعرّض للمواقف التي تبدي التّفاخر بالماركات العالميّة من الملابس، وتربيتها على احترام ما تملكه وتقدير الإمكانيات الماديّة للأسرة، والتّعامل مع النّقود، وتحملّ مسؤولية عمليات الشّراء البسيطة التي تتناسب مع عمرها.
     
  • تدريب طفلتك وتمرينها على الشّعور بالسّعادة من خلال الممتلكات البسيطة يُعد من أهم وسائل التّكيّف مع المراحل المقبلة، وليس بالضّرورة أنْ تحصل طفلتك على الثياب الثمينة، ويكفيها أنْ تثني على جمالها وإطلالتها بما توفرينه لها، وتسعدي قلبها ببعض أدوات الزّينة غير باهظة الثمن التي تناسب ميولها، وأنْ تقدّميها لها بأساليب مليئة بالفرح وألوان الطّفولة.
     

وأخيرًا: لا بد من تفعيل دور الأب وعدم ركنه على خطّ الاحتياط، وعدم تحديد المساحات التّربويّة الخاصّة به وجعل سلطته قرينة بسلطتك بل تفوقها ابتداءً من هذه المرحلة، لإيجاد توازن انفعالي عاطفي وإصلاح ما سبق من وسائل تربويّة لا إراديّة، ثمّ لا تطيلي الأسف والحزن، بل ابدئي خطواتك الإيجابيّة بالثّقة واليقين بالله أنّه قادر على حفظ طفلتك ورعاية صحتها النّفسيّة بالتّوكّل عليه والإحسان إليها بالتّربية، والاستمرار بالدّعاء بالخير الوفير والهداية.

 

المستشار: أ.أميمة صوالحة