فَصْل: مسألة رؤية بعض البلاد
ابن تيمية
- التصنيفات: فقه الصيام -
السؤال: فَصْل: مسألة رؤية بعض البلاد
الإجابة: مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها فيها اضطراب، فإنه قد حكي ابن عبد
البر الإجماع على أن الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه، فأما ما
كان مثل الأندلس وخراسان فلا خلاف أنه لا يعتبر.
قلت: أحمد اعتمد في الباب على حديث الأعرابي الذي شهد أنه أهل الهلال البارحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على هذه الرؤية، مع أنها كانت في غير البلد، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر، ولم يستفصله، وهذا الاستدلال لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر، لكن ما حد ذلك؟
والذين قالوا: لا تكون رؤية لجميعها كأكثر أصحاب الشافعي منهم من حدد ذلك بمسافة القصر، ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع، كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف؛ فإن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال، وأما الأقاليم فما حدد ذلك ؟ ثم هذان خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متي رؤي في المشرق وجب أن يري في المغرب ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان قد رؤي ازداد بالمغرب نوراً وبعداً عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحق بالرؤية، وليس كذلك إذا رؤي بالمغرب؛ لأنه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشمس عندهم، فازداد بعداً وضوءاً، ولما غربت بالمشرق كان قريباً منها.
ثم إنه لما رؤي بالمغرب كان قد غرب عن أهل المشرق، فهذا أمر محسوس في غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب؛ ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس، وكذلك الطلوع إذا طلعت بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس، فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق.
وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب، وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسبب ظهوره بُعْده عن الشمس، فكلما تأخر غروبها ازداد بُعْده عنها، فمن اعتبر بعد المساكن مطلقاً فلم يتمسك بأصل شرعي ولا حسي.
وأيضا، فإن هلال الحج مازال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.
الوجه الثاني: أنه إذا اعتبرنا حداً كمسافة القصر، أو الأقاليم فكان رجل في آخر المسافة والإقليم، فعليه أن يصوم ويفطر وينسك، وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
فالصواب في هذا واللّه أعلم ما دل عليه قوله ، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد؛ وجب الصوم.
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب؛ فعليهم إمساك ما بقي، سواء كان من إقليم أو إقليمين.
والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد،فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر، ولم ير قريباً منهم، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول، فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم.
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول، فلا قضاء عليهم؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك في الفطر والنسك، لكن هؤلاء هل يفطرون إذا ثبت عندهم في أثناء الشهر أنه رؤي بناء على تلك الرؤية؟ لكن إن بلغتهم بخبر واحد لم يفطروا؛ لأنه قد ثبت عندهم في أثنائه ما يفطرون به، ولا يقضون اليوم الأول، فيكون صومهم تسعة وعشرين كما يقوله من يقول بالمطالع، إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم، فإنه يفطر معهم، ولا يقضي اليوم الأول.
وإن تأخرت رؤيتهم فهنا اختلفت نقول أصحابنا، إن قالوا: يفطر وحده، فهو كما لو رآه عندهم لم يفطر وحده عندنا على المشهور، وإن صام معهم، فقد صام إحدى وثلاثين يوماً.
والأشبه أن هذه المسألة يخرج فيها لأصحابنا قولان كالمنفرد برؤيته في الفطر؛ لأن انفراد الرجل بالفطر هو المحذور في الموضعين، ورؤية أهل بلد دون غيرهم كرؤيته ورؤية طائفة معه دون غيرهم. وأما هلال الفطر، فإذا ثبتت رؤيته في اليوم عملوا بذلك، وإن كان بعد ذلك لم يكن فيه فائدة، بل العيد هو اليوم الذي عيده الناس، ولكن نقل التاريخ.
فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله ، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر، في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر، فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر، فإنها محل الاعتبار، فتدبر هذه المسائل الأربعة: وجوب الصوم، والإمساك، ووجوب القضاء، ووجوب بناء العيد على تلك الرؤية، ورؤية البعيد، والبلاغ في وقت بعد انقضاء العبادة.
ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم اعتباراً بالبلوغ، وإذا أخطأه طائفة منهم لم يجزهم لإمكان البلوغ، فالبلوغ هو المعتبر، سواء كان علم به للبعد، أو للقلة، وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر.
والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه مازال في عهد الصحابة والتابعين يري الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، و لكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا.
وقد أجاب أصحابنا بأنه إنما لم يفطر؛ لأنه لم يثبت عنده إلا بقول واحد، فلا يفطر به، ولا يقال: أصحابنا كذلك أيضاً لم ينقل أنهم كانوا إذا بلغهم الهلال في أثناء الشهر بنوا فطرهم عليه.
قلنا: لأن ذاك أمر لا تتعلق الهمم بالبحث عنه؛ لأن فيه ترك صوم يوم، فإن ثبت عندهم، و إلا فالاحتياط الصوم؛ لأن ذاك الخبر قد يكون ضعيفاً، مع أن هذه المسألة فيها نظر.
ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه،بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان إلا في أثناء الشهر، ففي وجوب قضاء ذلك اليوم نظر، وإن كان يفطر بها؛ لأن قوله دليل على أن ذلك لم يكن يوم صومنا؛ ولأن التكليف يتبع العلم، ولا علم ولا دليل ظاهر، فلا وجوب، وطرد هذا: أن الهلال إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ صبي أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة.
فقد قيل: يمسك ويقضي. وقيل: لا يجب واحد منهما. وقيل: يجب الإمساك دون القضاء.
فإن الهلال مأخوذ من الظهور، ورفع الصوت، فطلوعه في السماء إن لم يظهر في الأرض، فلا حكم له لا باطناً ولا ظاهراً، واسمه مشتق من فعل الآدميين يقال: أهللنا الهلال، واستهللناه، فلا هلال إلا ما استهل، فإذا استهله الواحد والاثنان فلم يخبرا به، فلم يكن ذاك هلالاً، فلا يثبت به حكم حتى يخبرا به، فيكون خبرهما هو الإهلال الذي هو رفع الصوت بالإخبار به؛ ولأن التكليف يتبع العلم، فإذا لم يمكن علمه لم يجب صومه.
ووجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط يفتقر إلى دليل؛ ولأنه لو وجب القضاء أو استحب إذا بلغ رؤيته المكان البعيد، أو رؤية النفر القليل في أثناء الشهر؛ لاستحب الصوم يوم الشك مع الصحو، بل يوم الثلاثين مطلقاً؛ لأنه يمكن أن يخبر القليل أو البعيد برؤيته في أثناء الشهر فيستحب الصوم احتياطاً، وما من شيء في الشريعة يمكن وجوبه إلا والاحتياط مشروع في أدائه، فلما لم يشرع الاحتياط في أدائه، قطعنا بأنه لا وجوب مع بُعْد الرائي أو خفائه، حتى يكون الرائي قريباً ظاهراً، فتكون رؤيته إهلالاً يظهر به الطلوع وقد يحتج بهذا من لم يحتط في الغيم.
ولكن يجاب عنه: بأن طلوعه هذا مثال ظاهر أو مساوٍ، وإنما الحاجب مانع، كما لو كانوا ليلة الثلاثين في مغارة، أو مطمورة، وقد تعذر الترائي.
ولأن الذين لم يوجبوا التبييت، أصل مأخذهم: إجزاء يوم الشك، فإن بلوغ الرؤية قبل الزوال كثير، كيوم عاشوراء، وإيجاب القضاء فيه عسر لكثرة وقوع مثل ذلك، وعدم شهرة وجوب القضاء في السلف.
وجواب هذا: أنه لا يلزم من وجوب الإمساك وجوب القضاء، فإنه لا وجوب إلا من حين الإهلال والرؤية؛ لا من حين الطلوع؛ ولأن الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر يدل على هذا؛ لأن ما ذكره إذا لم يبلغ الخبر إلا بعد مضي الشهر؛ لم يبق فيه فائدة إلا وجوب القضاء، فعلم أن القضاء لا يجب برؤية بعيدة مطلقاً.
فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك؛ وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.
ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم، فقوله مخالف للعقل والشرع.
ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وأما إذا بلغه في أثناء المدة، فهل يؤثر في وجوب القضاء وفي بناء الفطر عليه ؟ وكذلك في بقية الأحكام: من حلول الدين، ومدة الإيلاء وانقضاء العدة، ونحو ذلك والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر.
فهذا متوسط في المسألة، وما من قول سواه إلا وله لوازم شنيعة لا سيما من قال بالتعدد، فإنه يلزمه في المناسك ما يعلم به خلاف دين الإسلام، إذا رأي بعض الوفود أو كلهم الهلال، وقدموا مكة، ولم يكن قد رؤي قريباً من مكة، ولما ذكرناه من فساده صار متنوعاً، والذي ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعي، كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لانفراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضر هذا، وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والاختلاف.
وتحقيق ذلك العلم بالأهلة، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وهذا يدل على أنه أراد المعلوم ببصر أو سمع؛ ولهذا ذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين: إلا أنه إذا كانت السماء مصحية ولم يحصل أحد على الرؤية أنه ليس بشك؛ لانتفاء الشك في الهلال، وإن وقع شك في الطلوع، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الهلال على وزن فعال. وهذا المثال في كلام العرب لما يفعل به كالإزار: لما يؤتزر به، والرداء: لما يرتدي به، والركاب: لما يركب به، والوعاء: لما يوعي فيه وبه، والسماد: لما تسمد به الأرض، و العصاب: لما يعصب به، والسداد: لما يسد به، وهذا كثير مطرد في الأسماء.
فالهلال اسم لما يهل به، أي: يصات به، والتصويت به لا يكون إلا مع إدراكه ببصر أو سمع، ويدل عليه قول الشاعر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر
أي: يصوتون بالفرقد، فجعلهم مهلين به؛ فلذلك سمي هلالاً. ومنه قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} [البقرة: 137] أي: صوت به، وسواء كان التصويت به رفيعاً أو خفيضاً، فإنه مما تكلم به، وجهر به لغير اللّه، ونطق به.
الوجه الثاني: أنه جعلها مواقيت للناس، ولا تكون مواقيت لهم إلا إذا أدركوها ببصر أو سمع، فإذا انتفي الإدراك انتفي التوقيت، فلا تكون أهلة، وهو غاية ما يمكن ضبطه من جهة الحس، إذ ضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح أصلا، وقد صنفت في ذلك شيئاً.
وهذه المسألة تنبني عليه أيضاً فإنه ليس في قوي البشر أن يضبطوا للرؤية زماناً ومكاناً محدوداً، وإنما يضبطون ما يدركونه بابصارهم أو ما يسمعونه بآذانهم، فإذا كان الواجب تعليقه في حق من رأي بالرؤية، ففي حق من لم ير بالسماع، ومن لا رؤية له ولا سماع، فلا إهلال له، واللّه هو المسئول أن يتم نعمته علينا وعلى المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس والعشرون (الفقه - باب الصيام)
قلت: أحمد اعتمد في الباب على حديث الأعرابي الذي شهد أنه أهل الهلال البارحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس على هذه الرؤية، مع أنها كانت في غير البلد، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر، ولم يستفصله، وهذا الاستدلال لا ينافي ما ذكره ابن عبد البر، لكن ما حد ذلك؟
والذين قالوا: لا تكون رؤية لجميعها كأكثر أصحاب الشافعي منهم من حدد ذلك بمسافة القصر، ومنهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع، كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف؛ فإن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال، وأما الأقاليم فما حدد ذلك ؟ ثم هذان خطأ من وجهين:
أحدهما: أن الرؤية تختلف باختلاف التشريق والتغريب، فإنه متي رؤي في المشرق وجب أن يري في المغرب ولا ينعكس؛ لأنه يتأخر غروب الشمس بالمغرب عن وقت غروبها بالمشرق، فإذا كان قد رؤي ازداد بالمغرب نوراً وبعداً عن الشمس وشعاعها وقت غروبها، فيكون أحق بالرؤية، وليس كذلك إذا رؤي بالمغرب؛ لأنه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشمس عندهم، فازداد بعداً وضوءاً، ولما غربت بالمشرق كان قريباً منها.
ثم إنه لما رؤي بالمغرب كان قد غرب عن أهل المشرق، فهذا أمر محسوس في غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب؛ ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس، وكذلك الطلوع إذا طلعت بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس، فطلوع الكواكب وغروبها بالمشرق سابق.
وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنه يطلع من المغرب، وليس في السماء ما يطلع من المغرب غيره، وسبب ظهوره بُعْده عن الشمس، فكلما تأخر غروبها ازداد بُعْده عنها، فمن اعتبر بعد المساكن مطلقاً فلم يتمسك بأصل شرعي ولا حسي.
وأيضا، فإن هلال الحج مازال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.
الوجه الثاني: أنه إذا اعتبرنا حداً كمسافة القصر، أو الأقاليم فكان رجل في آخر المسافة والإقليم، فعليه أن يصوم ويفطر وينسك، وآخر بينه وبينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين.
فالصواب في هذا واللّه أعلم ما دل عليه قوله ، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد؛ وجب الصوم.
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب؛ فعليهم إمساك ما بقي، سواء كان من إقليم أو إقليمين.
والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد،فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر، ولم ير قريباً منهم، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول، فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم.
وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول، فلا قضاء عليهم؛ لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال، وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك في الفطر والنسك، لكن هؤلاء هل يفطرون إذا ثبت عندهم في أثناء الشهر أنه رؤي بناء على تلك الرؤية؟ لكن إن بلغتهم بخبر واحد لم يفطروا؛ لأنه قد ثبت عندهم في أثنائه ما يفطرون به، ولا يقضون اليوم الأول، فيكون صومهم تسعة وعشرين كما يقوله من يقول بالمطالع، إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم، فإنه يفطر معهم، ولا يقضي اليوم الأول.
وإن تأخرت رؤيتهم فهنا اختلفت نقول أصحابنا، إن قالوا: يفطر وحده، فهو كما لو رآه عندهم لم يفطر وحده عندنا على المشهور، وإن صام معهم، فقد صام إحدى وثلاثين يوماً.
والأشبه أن هذه المسألة يخرج فيها لأصحابنا قولان كالمنفرد برؤيته في الفطر؛ لأن انفراد الرجل بالفطر هو المحذور في الموضعين، ورؤية أهل بلد دون غيرهم كرؤيته ورؤية طائفة معه دون غيرهم. وأما هلال الفطر، فإذا ثبتت رؤيته في اليوم عملوا بذلك، وإن كان بعد ذلك لم يكن فيه فائدة، بل العيد هو اليوم الذي عيده الناس، ولكن نقل التاريخ.
فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله ، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر، في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر، فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر، فإنها محل الاعتبار، فتدبر هذه المسائل الأربعة: وجوب الصوم، والإمساك، ووجوب القضاء، ووجوب بناء العيد على تلك الرؤية، ورؤية البعيد، والبلاغ في وقت بعد انقضاء العبادة.
ولهذا قالوا: إذا أخطأ الناس كلهم، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم اعتباراً بالبلوغ، وإذا أخطأه طائفة منهم لم يجزهم لإمكان البلوغ، فالبلوغ هو المعتبر، سواء كان علم به للبعد، أو للقلة، وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر.
والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه مازال في عهد الصحابة والتابعين يري الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، و لكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا.
وقد أجاب أصحابنا بأنه إنما لم يفطر؛ لأنه لم يثبت عنده إلا بقول واحد، فلا يفطر به، ولا يقال: أصحابنا كذلك أيضاً لم ينقل أنهم كانوا إذا بلغهم الهلال في أثناء الشهر بنوا فطرهم عليه.
قلنا: لأن ذاك أمر لا تتعلق الهمم بالبحث عنه؛ لأن فيه ترك صوم يوم، فإن ثبت عندهم، و إلا فالاحتياط الصوم؛ لأن ذاك الخبر قد يكون ضعيفاً، مع أن هذه المسألة فيها نظر.
ولو قيل: إذا بلغهم الخبر في أثناء الشهر لم يبنوا إلا على رؤيتهم، بخلاف ما إذا بلغهم في اليوم الأول لكان له وجه،بل الرؤية القليلة لو لم تبلغ الإنسان إلا في أثناء الشهر، ففي وجوب قضاء ذلك اليوم نظر، وإن كان يفطر بها؛ لأن قوله دليل على أن ذلك لم يكن يوم صومنا؛ ولأن التكليف يتبع العلم، ولا علم ولا دليل ظاهر، فلا وجوب، وطرد هذا: أن الهلال إذا ثبت في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ صبي أو أفاق مجنون على أصح الأقوال الثلاثة.
فقد قيل: يمسك ويقضي. وقيل: لا يجب واحد منهما. وقيل: يجب الإمساك دون القضاء.
فإن الهلال مأخوذ من الظهور، ورفع الصوت، فطلوعه في السماء إن لم يظهر في الأرض، فلا حكم له لا باطناً ولا ظاهراً، واسمه مشتق من فعل الآدميين يقال: أهللنا الهلال، واستهللناه، فلا هلال إلا ما استهل، فإذا استهله الواحد والاثنان فلم يخبرا به، فلم يكن ذاك هلالاً، فلا يثبت به حكم حتى يخبرا به، فيكون خبرهما هو الإهلال الذي هو رفع الصوت بالإخبار به؛ ولأن التكليف يتبع العلم، فإذا لم يمكن علمه لم يجب صومه.
ووجوب القضاء إذا كان الترك بغير تفريط يفتقر إلى دليل؛ ولأنه لو وجب القضاء أو استحب إذا بلغ رؤيته المكان البعيد، أو رؤية النفر القليل في أثناء الشهر؛ لاستحب الصوم يوم الشك مع الصحو، بل يوم الثلاثين مطلقاً؛ لأنه يمكن أن يخبر القليل أو البعيد برؤيته في أثناء الشهر فيستحب الصوم احتياطاً، وما من شيء في الشريعة يمكن وجوبه إلا والاحتياط مشروع في أدائه، فلما لم يشرع الاحتياط في أدائه، قطعنا بأنه لا وجوب مع بُعْد الرائي أو خفائه، حتى يكون الرائي قريباً ظاهراً، فتكون رؤيته إهلالاً يظهر به الطلوع وقد يحتج بهذا من لم يحتط في الغيم.
ولكن يجاب عنه: بأن طلوعه هذا مثال ظاهر أو مساوٍ، وإنما الحاجب مانع، كما لو كانوا ليلة الثلاثين في مغارة، أو مطمورة، وقد تعذر الترائي.
ولأن الذين لم يوجبوا التبييت، أصل مأخذهم: إجزاء يوم الشك، فإن بلوغ الرؤية قبل الزوال كثير، كيوم عاشوراء، وإيجاب القضاء فيه عسر لكثرة وقوع مثل ذلك، وعدم شهرة وجوب القضاء في السلف.
وجواب هذا: أنه لا يلزم من وجوب الإمساك وجوب القضاء، فإنه لا وجوب إلا من حين الإهلال والرؤية؛ لا من حين الطلوع؛ ولأن الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر يدل على هذا؛ لأن ما ذكره إذا لم يبلغ الخبر إلا بعد مضي الشهر؛ لم يبق فيه فائدة إلا وجوب القضاء، فعلم أن القضاء لا يجب برؤية بعيدة مطلقاً.
فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك؛ وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.
ومن حدد ذلك بمسافة قصر أو إقليم، فقوله مخالف للعقل والشرع.
ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول، والنسك، فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وأما إذا بلغه في أثناء المدة، فهل يؤثر في وجوب القضاء وفي بناء الفطر عليه ؟ وكذلك في بقية الأحكام: من حلول الدين، ومدة الإيلاء وانقضاء العدة، ونحو ذلك والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر.
فهذا متوسط في المسألة، وما من قول سواه إلا وله لوازم شنيعة لا سيما من قال بالتعدد، فإنه يلزمه في المناسك ما يعلم به خلاف دين الإسلام، إذا رأي بعض الوفود أو كلهم الهلال، وقدموا مكة، ولم يكن قد رؤي قريباً من مكة، ولما ذكرناه من فساده صار متنوعاً، والذي ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعي، كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لانفراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضر هذا، وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والاختلاف.
وتحقيق ذلك العلم بالأهلة، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وهذا يدل على أنه أراد المعلوم ببصر أو سمع؛ ولهذا ذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين: إلا أنه إذا كانت السماء مصحية ولم يحصل أحد على الرؤية أنه ليس بشك؛ لانتفاء الشك في الهلال، وإن وقع شك في الطلوع، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الهلال على وزن فعال. وهذا المثال في كلام العرب لما يفعل به كالإزار: لما يؤتزر به، والرداء: لما يرتدي به، والركاب: لما يركب به، والوعاء: لما يوعي فيه وبه، والسماد: لما تسمد به الأرض، و العصاب: لما يعصب به، والسداد: لما يسد به، وهذا كثير مطرد في الأسماء.
فالهلال اسم لما يهل به، أي: يصات به، والتصويت به لا يكون إلا مع إدراكه ببصر أو سمع، ويدل عليه قول الشاعر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر
أي: يصوتون بالفرقد، فجعلهم مهلين به؛ فلذلك سمي هلالاً. ومنه قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} [البقرة: 137] أي: صوت به، وسواء كان التصويت به رفيعاً أو خفيضاً، فإنه مما تكلم به، وجهر به لغير اللّه، ونطق به.
الوجه الثاني: أنه جعلها مواقيت للناس، ولا تكون مواقيت لهم إلا إذا أدركوها ببصر أو سمع، فإذا انتفي الإدراك انتفي التوقيت، فلا تكون أهلة، وهو غاية ما يمكن ضبطه من جهة الحس، إذ ضبط مكان الطلوع بالحساب لا يصح أصلا، وقد صنفت في ذلك شيئاً.
وهذه المسألة تنبني عليه أيضاً فإنه ليس في قوي البشر أن يضبطوا للرؤية زماناً ومكاناً محدوداً، وإنما يضبطون ما يدركونه بابصارهم أو ما يسمعونه بآذانهم، فإذا كان الواجب تعليقه في حق من رأي بالرؤية، ففي حق من لم ير بالسماع، ومن لا رؤية له ولا سماع، فلا إهلال له، واللّه هو المسئول أن يتم نعمته علينا وعلى المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس والعشرون (الفقه - باب الصيام)