حكم القصص والتمثيل

محمد الحسن الددو الشنقيطي

  • التصنيفات: فتاوى وأحكام -
السؤال: هل يعتبر الروائي كذّاباً باعتبار أنه يسنج قصصاً لا أساس لها من الصحة؟
الإجابة: إنه ليس كذلك لأنه ما قصد بها التحديث بواقعة، وإنما قصد بها التنفير من أمر وظاهرة، وهذا النوع مما يجوز في التعليم والبيان، وقد قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، فمن المعلوم أن الملائكة ليس لهم نعاج، وأنه لا يظلم بعضهم بعضاً، وقد تسور هذان الملكان المحراب على داود فدخلا عليه في المسجد وهو مغلق، فذكرا له هذه القصة ليدرباه على القضاء، فكانت تدريباً على عمل القاضي.

فداود عليه السلام قد أقامه الله خليفة في الأرض، وأمره بالفصل بين الناس فدربه على القضاء بإرسال الملكين إليه وإحداث هذه المنازعة والمرافعة بين يديه حتى يتدرب على القضاء، وقد تبين له الغلط لأنه حكم قبل أن يسمع جواب الخصم، ومع المعلوم أن القاضي لا يحل له الحكم حتى يسمع ما لدى الطرف الآخر، وحتى ينتهي من سماع جميع الحجج، والمالكية يشترطون مع ذلك أمراً آخر وهو الإعذار أن يقول القاضي للخصم: أبقيت لك حجة، فهذا زائد على تقصي الحجج، وتتبعها حتى يكون ذلك احتياطاً أخذاً من قضية داود هذه، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكى نبياً من الأنبياء دماه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه هكذا ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمسح الدم عن وجهه وإنما فعل ذلك محاكاة لذلك النبي من الأنبياء.

وهنا يأتي سؤال وهو عن حكم المحاكاة أصلاً، والجواب أن المحاكاة إذا قصد بها الطعن في الناس والسخرية بهم فهي حرام، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}، وإذا كانت من غير سخرية وإنما يقصد بها أمر مقبول شرعاً فهي جائزة، ولذلك حمل حديث عائشة رضي الله عنها وهو في صحيح البخاري قالت: حكيت رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أحب أن أحاكي رجلاً ولا امرأة"، إنما يُحمل على ما يؤخذ منه السخرية.

أما ما لا سخرية فيه فهو جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكى نبياً من الأنبياء دماه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه هكذا ويقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

وأنا أحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن أشفغ الخطاط عن القاضي السباعي عن شيخ الشيوخ الفالي الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن الجلال السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عن إبراهيم التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن الحسين بن المبارك عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري قال في صحيحه حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، قال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فحرك شفتيه، قال سعيد: فأنا أحركهما لكم كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}، فابن عباس حرك شفتيه ليرينا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه عندما كان يعالج من التنزيل شدة، وسعيد بن جبير حرك شفتيه كما كان ابن عباس يحركهما، وكل هذا من المحاكاة والتمثيل.

وهذا يدل على أن ما كان من التمثيليات والمحاكاة لقصد التعليم لا حرج فيه شرعاً، ولذلك فأحد الأئمة وهو الشيخ محمد ولد الدو حفظه الله يحاكي الإمام بداه بن البوصيري في خطبه، وقد سئل الشيخ بداه عن ذلك، سئل فقيل: فلان يحاكيك حتى من لم يره ظن أنك أنت المتكلم، فقال لهم: "اشدار فيه الطعمه ماه ذاك"، فمقصوده أنه ما فعل ذلك سخرية وإنما فعله إعجاباً، فيكون هذا جائزاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.