توفي وأوصى بثلث ماله للفقراء، وأهله فقراء

محمد الحسن الددو الشنقيطي

  • التصنيفات: فقه الفرائض والوصايا -
السؤال: رجل توفي وأوصى بثلث ماله للفقراء، هل القرابة مقدمة في هذه الوصية أم لا؟
الإجابة: إن لفظ الموصي يجب احترامه شرعاً ولا يحل تبديله، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة]، وهذا صريح في أن وصية الإنسان في ثلث ماله حق له هو، وقد مات وانقطع عن الخصومة في هذه الدنيا، فلا يحل الاعتداء على حقه ونقصه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عن دبر منكم"، أي جعل الله سبحانه وتعالى هذا الثلث من مال الإنسان صدقة عليه يتصرف فيه بعد موته بالوصية، فيكون خالصاً له هو لا يناله الورثة، وذلك أن الميت إذا مات ترتب في تركته أي فيما يتركه من المال خمسة حقوق:

الحق الأول: حق تعلق بعين كالمرهون، فإذا كان له سيارة يملكها وعليه دين وقد رهن فيه السيارة، أو له دار يملكها وعليه دين وقد رهن فيه الدار، فإن صاحب ذلك الدين مقدم في هذه الدار ما لم يقضِ دينه لا يمكن أن ينتفع من هذه الدار لا تصل إلى الورثة ولا إلى أهل الوصية ولا تقضى منها الديون الأخرى، لأن الذي رهنت له أولى بها حتى يقضى الدين الذي هي مرهونة فيه.

والحق الثاني: هو مؤن تجهيزه بالمعروف، ومؤن التجهيز تشمل أيضاً مؤن العلاج إذا كان المتوفى كان يعالج في مستشفى تجاري مثلاً، وأنفقت عليه أموال طائلة، وكان لا يمكن أن يخرج من المستشفى إلا بعد تسديد الفاتورة فهذه الفاتورة هي من مؤن التجهيز، ومثلها مؤنة تغسيله وكفنه ودفنه، ويدخل في ذلك أيضاً ما كان من المعروف من النقل، فنقله من مكان بعيد إذا كان يكلف تذاكر كبيرة، وكان يمكن أن يدفن في المكان الذي هو فيه دون تكلفة فليس ذلك من المعروف، لا بد أن ينظر فيه إلى الحق، لا يخرج من ماله هو إذا كان له قُصَّر وصبية، بل إنما يخرجه المتطوعون من أموالهم.

فالذي يخرج من ماله هو مؤن تجهيزه بالمعروف، فالنفقات الكبيرة التي ينفقها الناس على نقل الأموات من بلد إلى بلد هذه لا تكون من تركة الميت إذا كان له أولاد صغار قصر يتامى، لأنه تكلف في أمر جائز من مال أولئك اليتامى، ومال اليتامى لا يمكن أن ينفق منه على مثل هذا، فمؤن التجهيز منها تسديد فاتورة العلاج، ومنها غسله وكفنه ومؤن دفنه بالمعروف، أما ما زاد على المعروف وهو مثل النقل مسافة بعيدة ونحو ذلك فهذا لا يخرج من تركته.

والحق الثالث: هو ديونه التي لم يرهن فيها شيء من ماله، فيجب تسديدها جميعاً، لأنها تحل، ما كان منها مؤجلاً وما كان حالاً سواء، فإذا مات ابن آدم فقد خربت ذمته لأن الذمة عبارة عن وعاء قدره الشارع مع الإنسان يتحمل به، لأن كل إنسان له أملاك محصورة وهي ما في يده، وله عقلية تجارية وآمال مستقبلية وإنتاج يمكن أن ينتجه في المستقبل، فهذا الإنتاج من الحكمة أن لا يعطل، فلذلك جعل الشارع له ذمة وهي بمثابة وعاء مقدر أي ظرف مقدر مع الإنسان تحفظ فيه الأموال التي هي وهمية غير حقيقية لديه، كطاقاته وما يتحمله، سواء كان ذلك إتلافاً أو كان معاملة، فما أتلفه من المتلفات يدخل في ذمته، وما اشتراه من المشتريات يدخل في ذمته، وما تحمله من التبعات يدخل في ذمته فهي بمثابة ظرف، لكن هذا الظرف مرتبط بحياة الإنسان فإذا مات الإنسان خربت ذمته لم تبق له ذمة.

ومن هنا إذا كان على الإنسان ديون مؤجلة بأجل بعيد لعشرين سنة أو ثلاثين سنة فمات الإنسان اليوم، وقد بقيت هذه الديون فإنها تحل بنفس موته، وهنا أذكر أن الذين يشترون الدور من الشركات شركات البنيان التي عندنا هنا: "سوكوجيم" مثلاً أو غيرها، إذا كان العقد صحيحاً فعقد شخص مع هذه الشركة واشترى منها داراً لمدة عشرين سنة أو عشر سنوات يسدد كل شهر قسطاً معيناً إذا مات فقد حلت الديون التي عليه، حل جميع الأقساط التي عليه الآن، لكن بالإمكان أن يأتي ورثته أو ولي أمره فيجدد عقداً جديداً مع الشركة فيقول: نعم أنتم ديونكم قد حلت جميعاً لكننا نحن نتعهد بها ونتحملها فسنستمر معكم في العقد، وأنا أتحمل بدفع القسط الشهري في وقته، ويبدأ العقد الجديد.

ومثل ذلك ما ذكر من قبل في فتوى تطهير المال، من كان له مال من حرام أو مال مشكوك فيه ولا يريد أن يأتي في كفة سيئاته يوم القيامة ويريد أن يتخلص منه الآن قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، ويتذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، لا بيع فيه لا يمكن أن يماكس الإنسان ويساوم في الحقوق التي عليه، ولا خلة، لا تنفع فيه العلاقة والصحبة، ولا شفاعة أي لا وساطة ولا شفاعة يمكن أن يسقط في مقابلها حق، هذه ثلاثة أمور منفية يوم القيامة، لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، فأراد التخلص من ذلك فدعا عدلين من المسلمين وصرح لهما بما معه من المال، وقال: أنا عندي كذا وكذا من المال أشك فيه أو أوقن أنه ليس لي وأريد الخلاص منه ولا أستطيع أن أدفعه دفعة واحدة لما يترتب علي من الأضرار المادية والمعنوية بذلك، فسأدفعه إليكما بالتقسيط، وأنا أستطيع أن أدفع منه شهرياً كذا وكذا، فيفاوضه العدلان فيقولان: لا، تستطيع أكثر من ذلك زدنا، حتى يتفقا معه على قدر محدد يدفعه، إذا مات هو قبل سداد الجميع فإن ذلك قد حل في ماله الآن، لكن إذا أدى ذلك إلى ضرر بورثته فبالإمكان أن يتقدم ولي أمرهم فيقول لعدلين من المسلمين هذا المال الذي كان في ذمة والدنا قد توفاه الله، وقد بقي منه كذا وكذا وهو حال الآن لكن في تسديده دفعة واحدة ضرر علينا، فأنظرونا ونحن نضمنه وسندفعه في كل شهر كذا وكذا، وحينئذ ينتقل الضمان من ذمة الميت المتوفى إلى ذمة أوليائه، فذمة الميت تخرب بمجرد الموت.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي للصلاة على جنازة فتقدم سأل: "هل عليه من دين؟" فإن قيل: عليه دين رجع ولم يصل عليه، وجيء يوماً برجل فلما تقدم للصلاة عليه قال: "هل عليه من دين؟" فقيل: نعم درهمان، درهمان فقط، فرجع ولم يصل عليه، فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فتحملهما أبو قتادة فبرئت ذمة الميت وتعلق الدين بذمة أبي قتادة فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى على الميت، قال أبو قتادة: فكان إذا لقيني قال: "أقضيت الدين عن صاحبك؟" فقلت: لا، فسألني فقال أقضيت الدين عن صاحبك؟ قلت: نعم، قال: "الآن بردت جلدة صاحبك، الآن بردت جلدة صاحبك"، وكذلك جيء بميت آخر فسأل هل عليه من دين فقيل: نعم عليه درهمان أو ديناران فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي بن أبي طالب هما علي يا رسول الله فضمنهما علي بن أبي طالب وسددهما فصلى النبي صلى الله عليه وسلم على الميت، وبعد هذا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الله عليه قضاء الديون عن الموتى المعسرين، وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه صلى الله عليه وسلم قضاء الدين عن كل ميت معسر من أمته، ولهذا صح عنه أنه قال في آخر عمره: "من مات عن حق أو ضياع فهو لورثته، ومن مات وعليه دين فعلي وإلي"، أي يتحمله النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من مسؤولياته صلى الله عليه وسلم فكان يجب عليه قضاء الدين عن الموتى الذين لا يملكون ما تقضى به الديون عنهم.

ثم إن الدين الذي يحل بمجرد الموت إذا كان مالكه ومستحقه إنما زاد من أجل التأخير وقد حل الآن فهو يستحقه بالغاً ما بلغ، لأنه في الأصل عقد هذه الصفقة ببيع هذه السيارة إلى أجل سنة أو سنتين بثمن كذا، ولو باعها حالة لكان الثمن أقل، لكن لا اعتبار لذلك الآن لأنه إذا حط فإن هذا من الحطيطة في بيع الأجل وذلك لا يمكن إلا إذا كان الإنسان يتطوع به لورثة الميت، فقال: أنا أحط عنكم من هذا المبلغ كذا وكذا وأعطوني البقية فيصالحهم على بقية ذلك، والحطيطة تصح في السلم ولا تصح في القرض، ولذلك قال القواعدي:

وضع بقرض سلم قد دخلا

وحط في السلم لا قرض فلا



ومعنى هذه القاعدة أن من أمهات الربا أمين إحداهما ضع وتعجل، والأخرى حط الضمان وأزيدك، فضع وتعجل معناه انقص عني بعض الدين وأدفعه لك حالاً، وحط الضمان وأزيدك معناه أخرني وأنظرني وسأزيدك في رأس المال سأزيدك في الدين، فضع وتعجل تدخل في القرض والسلم، وحط الضمان وأزيدك تدخل في السلم لا في القرض، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبني قينقاع لما أجلاهم عن المدينة أن يضعوا وأن يتعجلوا، فقد كانت لهم ديون على أهل المدينة، فأجلهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يخرجون فيها من المدينة إلى الشام لأول الحشر، هذا أول حشر اليهود إلى الشام، فحشرهم الآن الذي تسمعون عنه بمجيئهم من الفلاشا وجمهوريات روسيا وغيرها واليمن يجتمعون جميعاً في أرض محشرهم لأنهم جميعاً يحشرون إلى الشام، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، فأول الحشر هو حشر اليهود إلى الشام، فإن الله تعالى يقول: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104]، {وقلنا من بعده} أي من بعد موسى، {لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} أي تفرقوا فيها، {فإذا جاء وعد الآخرة} إذا اقترب موعد قيام الساعة {جئنا بكم لفيفاً} أي حشرناكم في الشام، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إخراجهم إذا لهم ديون على الناس، فقال: "ضعوا وتعجلوا"، لأن الديون مؤجلة، ضعوا، أي انقصوا بعض ديونكم وتعجلوا بعضها.

والسلم قد سبق بيانه في العقود وهو أن تدفع مالاً الآن لشخص ويتحمل لك في ذمته موصوفاً بالذمة، أن تدفع مليوناً لشخص الآن ويتحمل لك سيارة من مودل كذا وكذا مواصفاتها كذا وكذا، أو أن تدفع إليه نقداً قدره كذا وكذا، ألف دولار، ويتحمل لك مثلاً عدداً معيناً من الكراتين من البطاريات أو غير ذلك، فهذا هو السلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.