رسالة في مواقيت الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
- التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال: رسالة في مواقيت الصلاة
الإجابة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم
بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد: فإن الله تعالى فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، موقتة بأوقات اقتضتها حكمة الله تعالى ليكون العبد على صلة بربه تعالى في هذه الصلوات مدة الأوقات كلها، فهي للقلب بمنزلة الماء للشجرة تسقى به وقتاً فوقتاً لا دفعة واحدة ثم يقطع عنها.
ومن الحكمة في تفريق هذه الصلوات في تلك الأوقات أن لا يحصل الملل والثقل على العبد إذا أداها كلها في وقت واحد، فتبارك الله تعالى أحكم الحاكمين.
وهذه رسالة موجزة نتكلم فيها على أوقات الصلوات في الفصول التالية:
الفصل الأول: في بيات المواقيت.
الفصل الثاني: في بيان وجوب فعل الصلاة في وقتها، وحكم تقديمها في أوله أو تأخيرها عنه.
الفصل الثالث: فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك.
الفصل الرابع: في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما.
وقد مشينا فيها على ما تقضيه دلالة الكتاب والسنة، وأسندنا المسائل إلى أدلتها ليكون المؤمن سائراً على بصيرة ويزداد ثقة و طمأنينة.
والله المسئول المرجو الإجابة أن يثبتا على ذلك، وأن يجعل فيه الخير والبركة للمسلمين، أنه جواد كريم.
ومن أفراد هذه القاعدة الكلية العامة: بيان أوقات الصلوات الخمس -أوكد الأعمال البدنية فرضية، وأحبها إلى الله عز وجل-، فقد بين الله تعالى هذه الأوقات في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً ولله الحمد.
أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم -والأمر له أمر لأمته معه- أن يقيم الصلاة لدلوك الشمس أي من زوالها عند منتصف النهار إلى غسق الليل وهو اشتداد ظلمته، وذلك عند منتصفه، ثم فصَّل فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر وعبر عنها بالقرآن لأنه يطول فيها.
واشتمل قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، أوقات صلوات أربع هي: الظهر والعصر، وهما صلاتان نهاريتان في النصف الأخير من النهار.
والمغرب والعشاء، وهما صلاتان ليليتان في النصف الأول من الليل.
أما وقت الفجر ففصله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}، وعلم تعيين الوقت من إضافته إلى الفجر وهو تبين ضوء الشمس في الأفق.
وإنما جمع الله تعالى الأوقات الأربع دون فصل، لأن أوقاتها متصل بعضها ببعض فلا يخرج وقت الصلاة منها إلا بدخول التالية، وفصَّل وقت الفجر لأنه لا يتصل بوقت قبله ولا بعده فإن بينه وبين وقت صلاة العشاء نصف الليل الأخير، وبينه وبين صلاة الظهر نصف النهار الأول كما يتبين ذلك من السنة إن شاء الله تعالى.
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي رواية: " " ولم يقيده بالأوسط.
وله من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئاً قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره -يعني أمر بلال كما في رواية النسائي- فأقام بالظهر حين زالت الشمس.
والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت -وفي رواية النسائي غربت- ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، ثم أخّر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرّت الشمس ثم أخر المغرب حتى سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: " ".
فاتضح بهذه الآية الكريمة والسنة النبوية القولية والفعلية بيان أوقات الصلوات الخمس بياناً كافياً على النحو التالي: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس -وهو تجاوزها وسط السماء إلى أن يصير ظل كل شئ مثله ابتداء من الظل الذي زالت عليه الشمس.
وقت صلاة العصر من كون ظل الشيء مثله إلى أن تصفر الشمس أو تحمر.
ويمتد وقت الضرورة إلى الغروب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (متفق عليه).
وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق وهو الحمرة.
وقت صلاة العشاء الآخرة من مغيب الشفق إلى نصف الليل.
ولا يمتد وقتها إلى طلوع الفجر لأنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة، حيث قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ولم يقل: "إلى طلوع الفجر"، وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما رأيت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني -وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة- إلى طلوع الشمس.
وهذه المواقيت المحددة إنما تكون في مكان يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة سواء تساوى الليل والنهار أم زاد أحدهما على الآخر زيادة قليلة أو كثيرة.
أما المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرون ساعة فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مطرداً في سائر العام، أو في أيام قليلة منه.
فإن كان في أيام قليلة منه مثل أن يكون المكان يتخلله الليل والنهار في أربع عشرون ساعة طيلة فصول السنة، لكن في بعض الفصول يكون فيه أربعاً وعشرين ساعة أو أكثر والنهار كذلك، ففي هذه الحالة إما أن يكون في الأفق ظاهرة حية يمكن بها تحديد الوقت كابتداء زيادة النور مثلاً أو انطماسه بالكلية، فيعلق الحكم بتلك الظاهرة، وإما أن لا يكون فيه ذلك فتقدر أوقات الصلاة بقدرها في آخر يوم قبل استمرار الليل في الأربع والعشرين ساعة أو النهار.
فإذا قدرنا أن الليل كان قبل أن يستمر عشرين ساعة، والنهار فيما بقي من الأربع والعشرين، جعلنا الليل المستمر عشرين ساعة فقط.
والباقي نهاراً واتبعنا فيه ما سبق في تحدي أوقات الصلوات.
أما إذا كان المكان لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة طيلة العام في الفصول كلها فإنه يحدد لأوقات الصلاة بقدرها لما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال الذي يكون في آخر الزمان فسألوه عن لبثه في الأرض، فقال: " "، قالوا: يا رسول الله فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " ".
فإذا ثبت أن المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار يقدر له قدره فماذا نقدره؟
يري بعض العلماء، أنه يقدر بالزمن المعتدل، فيقدر الليل باثنتي عشرة ساعة وكذلك النهار، لأنه لما تعذر اعتبار هذا المكان بنفسه اعتبر بالمكان المتوسط، كالمستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز.
ويرى آخرون أنه يقدر بأقرب البلاد إلى هذا المكان مما يحدث فيه ليل ونهار في أثناء العام، لأنه لما تعذر اعتباره بنفسه اعتبر بأقرب الأماكن شبهاً به وهو أقرب البلاد إليه التي يتخللها الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة.
وهذا القول أرجح لأنه أقوى تعليلاً وأقرب إلى الواقع، والله أعلم.
يجب فعل الصلاة جميعها في وقتها المحدد لها، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}، أي فرضاً ذا وقت، ولقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} والأمر للوجوب.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً، فقال: " " قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد.
فلا يجوز للمسلم أن يقدم الصلاة كلها أو بعضها قبل دخول وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته.
فإن فعل ذلك معذوراً بجهل أو نسيان أو غفلة فلا إثم عليه، وله أجر ما عمل، وتجب عليه الصلاة إذا دخل وقتها، لأن دخول الوقت هو وقت الأمر فإذا أتى بها قبله لم تقبل منه ولن تبرأ بها ذمته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " " أي: مردود (رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها)، ولا يجوز للمسلم أن يؤخر الصلاة وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته، فإن فعل ذلك بدون عذر فهو آثم وصلاته مردودة غير مقبولة ولا مبرئه لذمته، لحديث عائشة السابق، وعليه أن يتوب إلى الله تعالى ويصلح عمله فيما استقبل من حياته.
وإن أخر الصلاة عن وقتها لعذر من نوم أو نسيان، أو شغل ظنَّ أن يبيح له تأخيرها عن وقتها فإنه يصليها متى زال ذلك العذر، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي رواية: " " (متفق عليه).
وإذا تعددت الصلوات التي فاتته بعذر فإنه يصليها مرتبة من حين زوال عذره ولا يؤخرها إلى نظيرها من الأيام التالية لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق توضأ بعدما غربت الشمس فصلى العصر ثم صلى بعدها المغرب (متفق عليه).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام الصلاة للمغرب فصلاها كذلك (رواه أحمد).
وفي هذا الحديث دليل على أن الفائتة تصلى كما تصلى في الوقت ويؤيده حديث أبي قتادة رضي الله عنه في قصة نومهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال: ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم (الحديث رواه مسلم)، وعلى هذا فإذا صلى بالنهار صلاة فائتة من صلاة الليل جهر فيها بالقراءة، وإذا صلى في الليل فائتة من صلاة النهار أسر فيها بالقراءة كما يدل على الأول حديث أبي قتادة، وعلى الثاني حديث أبي سعيد.
وإذا صلى الفوائت غير مرتبة لعذر فلا حرج عليه، فإذا جهل أن عليه صلاة فائتة فصلى ما بعدها ثم علم بالفائتة صلاها ولن يعد التي بعدها، وإذا نسي الصلاة الفائتة فصلى ما بعدها ثم ذكر الفائتة صلاها ولم يعد التي بعدها لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
قال أهل العلم: وإذا كان عليه فائتة فذكرها أو علم بها عند خروج وقت الحاضرة صلى الحاضرة أولاً، ثم صلى الفائتة لئلا يخرج وقت الحاضرة قبل أن يصليها فتكون الصلاتين كلتهما فائتتين.
والأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها، لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسبق إلى الخير، وأسرع في إبراء الذمة.
ففي صحيح البخاري عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أنه سئل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى المكتوبة؟ قال: كان يصلى الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، وفي رواية: إذا زالت الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية.
ونسيت ما قال في المغرب، لكن روى مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، ومن حديث رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلى المئة.
وله من حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه، وفي رواية: كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة، ولهما من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر، والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فذكر الحديث وفيه: " ".
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " " ثم أراد أن يؤذن فقال له: " " حتى رأينا فيء التلول، وفي رواية حتى ساوى الظل التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " "، ففي هذه الأحاديث دليل على أن السنة المبادرة بالصلاة في أول وقتها سوى صلاتين:
الأولى: صلاة الظهر في شدة الحر فتؤخر حتى يبرد الوقت وتمتد الأفياء.
الثانية: صلاة العشاء الآخرة فتؤخر إلى ما بعد ثلث الليل إلا أن يحصل في ذلك مشقة فيراعى حال المأمومين إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر.
يدرك الوقت بإدراك ركعة، بمعني أن الإنسان إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك تلك الصلاة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (متفق عليه)، وفي رواية: " ".
وفي رواية البخاري: " " فدلت هذه الروايات بمنطوقها على أن من أدرك ركعة من الوقت بسجدتيها فقد أدرك الوقت، ودلت بمفهومها على أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركاً للوقت.
ويترتب على هذا الإدراك أمران:
أحدهما: إنه إذا أدرك من الصلاة ركعة في الوقت صارت الصلاة كلها أداء، ولكن لا يعني ذلك أنه يجوز له أن يؤخر بعض الصلاة عن الوقت، لأنه يجب فعل الصلاة جميعها في الوقت.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ".
الأمر الثاني: إنه إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة وجبت عليه سواء كان ذلك من أول الوقت أم من آخره.
مثال ذلك من أوله: أن تحيض امرأة بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فأكثر ولم تصل المغرب، فقد وجبت عليها صلاة المغرب حينئذ فيجب عليها قضاؤها إذا طهرت.
ومثال ذلك آخره: أن تطهر امرأة من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فأكثر، فتجب عليها صلاة الفجر.
فإذا حاضت بعد غروب الشمس بأقل من مقدار ركعة أو طهرت قبيل طلوع الشمس بأقل من ركعة لم تجب عليها صلاة المغرب في المسألة الأولي ولا صلاة الفجر في المسألة الثانية، لأن الإدراك فيها أقل من مقدار ركعة.
سبق في الفصل الثاني بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل، لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع، بل كان مطلوباً ومحبوباً إلي الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ".
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين بعثه ومعاذاً إلى اليمن: " "، وفي روايةٍ لمسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: " "، وفيهما عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ".
إذا تبين هذا، فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع:
الأول: في السفر سائراً أو نازلاً: ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر، وفي صحيح مسلم عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول العصر فيجمع بينهما، وفيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وفيه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر) قال: فخرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها أدم) كأني أنظر إلى بياض ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين.
وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن ثمة حاجة إلى الجمع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلاً بمنى، وعلى هذا فنقول: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وأن جمع فلا بأس إلا أن يكون في حاجة إلى الجمع إما لشدة تعبه ليستريح، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة.
وأما المسافر السائر فلأفضل له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء -حسب الأيسر له- إما جمع تقديم يقدم الثانية في وقت الأولي، وإما جمع تأخير يؤخر الأولي إلى وقت الثانية.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -أي تزول- أخّر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل، قال: وأعِلَّ بتفرد إسحاق به شبابة، ثم تفرد جعفر الغريابي به عن إسحاق قال: وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان.
الثاني: عند الحاجة إلى الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر، لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك؟ قال: " "، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل ما حمله على ذلك؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلى لجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في حضر أو في سفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور" أ.هـ. ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت، قلت: ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما ذلك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفرداً ويسلم من مشقة المطر بدون جمع.
الموضوع الثالث: الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج:
ففي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس، قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً.
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة قال: فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئاً، وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في المزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم، وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما: فقيل: السفر وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها، وقيل: النسك، وفيه أيضاً إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلى الله عليه وسلم من حين أحرم، وقيل: المصلحة والحاجة، وهو الأقرب فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء، ولأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع، أما في مزدلفة فهم أحوج إلى الجمع، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلى تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك، وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد.
فسبحان الحكيم الرحيم، و نسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات، وعلى آله و أصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني عشر - باب المواقيت.
أما بعد: فإن الله تعالى فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، موقتة بأوقات اقتضتها حكمة الله تعالى ليكون العبد على صلة بربه تعالى في هذه الصلوات مدة الأوقات كلها، فهي للقلب بمنزلة الماء للشجرة تسقى به وقتاً فوقتاً لا دفعة واحدة ثم يقطع عنها.
ومن الحكمة في تفريق هذه الصلوات في تلك الأوقات أن لا يحصل الملل والثقل على العبد إذا أداها كلها في وقت واحد، فتبارك الله تعالى أحكم الحاكمين.
وهذه رسالة موجزة نتكلم فيها على أوقات الصلوات في الفصول التالية:
الفصل الأول: في بيات المواقيت.
الفصل الثاني: في بيان وجوب فعل الصلاة في وقتها، وحكم تقديمها في أوله أو تأخيرها عنه.
الفصل الثالث: فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك.
الفصل الرابع: في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما.
وقد مشينا فيها على ما تقضيه دلالة الكتاب والسنة، وأسندنا المسائل إلى أدلتها ليكون المؤمن سائراً على بصيرة ويزداد ثقة و طمأنينة.
والله المسئول المرجو الإجابة أن يثبتا على ذلك، وأن يجعل فيه الخير والبركة للمسلمين، أنه جواد كريم.
الفصل الأول:
في بيان المواقيت
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إليكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ}، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً
لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ}، فما من شئ يحتاج العباد في دينهم أو دنياهم
إلى معرفة حكمه إلا بينه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، فإن السنة تبين القرآن وتفسره وتخصص عمومه وتقيد مطلقه،
كما أن القرآن يبين لعضه بعضاً ويفسره ويخص عمومه ويقيد مطلقه، والكل
عند الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " " (رواه
أحمد وأبو داود وسنده صحيح).ومن أفراد هذه القاعدة الكلية العامة: بيان أوقات الصلوات الخمس -أوكد الأعمال البدنية فرضية، وأحبها إلى الله عز وجل-، فقد بين الله تعالى هذه الأوقات في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً ولله الحمد.
أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم -والأمر له أمر لأمته معه- أن يقيم الصلاة لدلوك الشمس أي من زوالها عند منتصف النهار إلى غسق الليل وهو اشتداد ظلمته، وذلك عند منتصفه، ثم فصَّل فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر وعبر عنها بالقرآن لأنه يطول فيها.
واشتمل قوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، أوقات صلوات أربع هي: الظهر والعصر، وهما صلاتان نهاريتان في النصف الأخير من النهار.
والمغرب والعشاء، وهما صلاتان ليليتان في النصف الأول من الليل.
أما وقت الفجر ففصله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}، وعلم تعيين الوقت من إضافته إلى الفجر وهو تبين ضوء الشمس في الأفق.
وإنما جمع الله تعالى الأوقات الأربع دون فصل، لأن أوقاتها متصل بعضها ببعض فلا يخرج وقت الصلاة منها إلا بدخول التالية، وفصَّل وقت الفجر لأنه لا يتصل بوقت قبله ولا بعده فإن بينه وبين وقت صلاة العشاء نصف الليل الأخير، وبينه وبين صلاة الظهر نصف النهار الأول كما يتبين ذلك من السنة إن شاء الله تعالى.
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي رواية: " " ولم يقيده بالأوسط.
وله من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئاً قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره -يعني أمر بلال كما في رواية النسائي- فأقام بالظهر حين زالت الشمس.
والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت -وفي رواية النسائي غربت- ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، ثم أخّر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: قد احمرّت الشمس ثم أخر المغرب حتى سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: " ".
فاتضح بهذه الآية الكريمة والسنة النبوية القولية والفعلية بيان أوقات الصلوات الخمس بياناً كافياً على النحو التالي: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس -وهو تجاوزها وسط السماء إلى أن يصير ظل كل شئ مثله ابتداء من الظل الذي زالت عليه الشمس.
وقت صلاة العصر من كون ظل الشيء مثله إلى أن تصفر الشمس أو تحمر.
ويمتد وقت الضرورة إلى الغروب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (متفق عليه).
وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق وهو الحمرة.
وقت صلاة العشاء الآخرة من مغيب الشفق إلى نصف الليل.
ولا يمتد وقتها إلى طلوع الفجر لأنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة، حيث قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ولم يقل: "إلى طلوع الفجر"، وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما رأيت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني -وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة- إلى طلوع الشمس.
وهذه المواقيت المحددة إنما تكون في مكان يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة سواء تساوى الليل والنهار أم زاد أحدهما على الآخر زيادة قليلة أو كثيرة.
أما المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرون ساعة فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مطرداً في سائر العام، أو في أيام قليلة منه.
فإن كان في أيام قليلة منه مثل أن يكون المكان يتخلله الليل والنهار في أربع عشرون ساعة طيلة فصول السنة، لكن في بعض الفصول يكون فيه أربعاً وعشرين ساعة أو أكثر والنهار كذلك، ففي هذه الحالة إما أن يكون في الأفق ظاهرة حية يمكن بها تحديد الوقت كابتداء زيادة النور مثلاً أو انطماسه بالكلية، فيعلق الحكم بتلك الظاهرة، وإما أن لا يكون فيه ذلك فتقدر أوقات الصلاة بقدرها في آخر يوم قبل استمرار الليل في الأربع والعشرين ساعة أو النهار.
فإذا قدرنا أن الليل كان قبل أن يستمر عشرين ساعة، والنهار فيما بقي من الأربع والعشرين، جعلنا الليل المستمر عشرين ساعة فقط.
والباقي نهاراً واتبعنا فيه ما سبق في تحدي أوقات الصلوات.
أما إذا كان المكان لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة طيلة العام في الفصول كلها فإنه يحدد لأوقات الصلاة بقدرها لما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال الذي يكون في آخر الزمان فسألوه عن لبثه في الأرض، فقال: " "، قالوا: يا رسول الله فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " ".
فإذا ثبت أن المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار يقدر له قدره فماذا نقدره؟
يري بعض العلماء، أنه يقدر بالزمن المعتدل، فيقدر الليل باثنتي عشرة ساعة وكذلك النهار، لأنه لما تعذر اعتبار هذا المكان بنفسه اعتبر بالمكان المتوسط، كالمستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز.
ويرى آخرون أنه يقدر بأقرب البلاد إلى هذا المكان مما يحدث فيه ليل ونهار في أثناء العام، لأنه لما تعذر اعتباره بنفسه اعتبر بأقرب الأماكن شبهاً به وهو أقرب البلاد إليه التي يتخللها الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة.
وهذا القول أرجح لأنه أقوى تعليلاً وأقرب إلى الواقع، والله أعلم.
الفصل الثاني:
وجوب فعل الصلاة في
وقتها وحكم تقديمها في أوله أو تأخيرها عنه
يجب فعل الصلاة جميعها في وقتها المحدد لها، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}، أي فرضاً ذا وقت، ولقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} والأمر للوجوب.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً، فقال: " " قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد.
فلا يجوز للمسلم أن يقدم الصلاة كلها أو بعضها قبل دخول وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته.
فإن فعل ذلك معذوراً بجهل أو نسيان أو غفلة فلا إثم عليه، وله أجر ما عمل، وتجب عليه الصلاة إذا دخل وقتها، لأن دخول الوقت هو وقت الأمر فإذا أتى بها قبله لم تقبل منه ولن تبرأ بها ذمته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " " أي: مردود (رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها)، ولا يجوز للمسلم أن يؤخر الصلاة وقتها، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته، فإن فعل ذلك بدون عذر فهو آثم وصلاته مردودة غير مقبولة ولا مبرئه لذمته، لحديث عائشة السابق، وعليه أن يتوب إلى الله تعالى ويصلح عمله فيما استقبل من حياته.
وإن أخر الصلاة عن وقتها لعذر من نوم أو نسيان، أو شغل ظنَّ أن يبيح له تأخيرها عن وقتها فإنه يصليها متى زال ذلك العذر، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، وفي رواية: " " (متفق عليه).
وإذا تعددت الصلوات التي فاتته بعذر فإنه يصليها مرتبة من حين زوال عذره ولا يؤخرها إلى نظيرها من الأيام التالية لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق توضأ بعدما غربت الشمس فصلى العصر ثم صلى بعدها المغرب (متفق عليه).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام الصلاة للمغرب فصلاها كذلك (رواه أحمد).
وفي هذا الحديث دليل على أن الفائتة تصلى كما تصلى في الوقت ويؤيده حديث أبي قتادة رضي الله عنه في قصة نومهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال: ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم (الحديث رواه مسلم)، وعلى هذا فإذا صلى بالنهار صلاة فائتة من صلاة الليل جهر فيها بالقراءة، وإذا صلى في الليل فائتة من صلاة النهار أسر فيها بالقراءة كما يدل على الأول حديث أبي قتادة، وعلى الثاني حديث أبي سعيد.
وإذا صلى الفوائت غير مرتبة لعذر فلا حرج عليه، فإذا جهل أن عليه صلاة فائتة فصلى ما بعدها ثم علم بالفائتة صلاها ولن يعد التي بعدها، وإذا نسي الصلاة الفائتة فصلى ما بعدها ثم ذكر الفائتة صلاها ولم يعد التي بعدها لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
قال أهل العلم: وإذا كان عليه فائتة فذكرها أو علم بها عند خروج وقت الحاضرة صلى الحاضرة أولاً، ثم صلى الفائتة لئلا يخرج وقت الحاضرة قبل أن يصليها فتكون الصلاتين كلتهما فائتتين.
والأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها، لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسبق إلى الخير، وأسرع في إبراء الذمة.
ففي صحيح البخاري عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أنه سئل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى المكتوبة؟ قال: كان يصلى الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، وفي رواية: إذا زالت الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية.
ونسيت ما قال في المغرب، لكن روى مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، ومن حديث رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلى المئة.
وله من حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه، وفي رواية: كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة، ولهما من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر، والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فذكر الحديث وفيه: " ".
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " " ثم أراد أن يؤذن فقال له: " " حتى رأينا فيء التلول، وفي رواية حتى ساوى الظل التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " "، ففي هذه الأحاديث دليل على أن السنة المبادرة بالصلاة في أول وقتها سوى صلاتين:
الأولى: صلاة الظهر في شدة الحر فتؤخر حتى يبرد الوقت وتمتد الأفياء.
الثانية: صلاة العشاء الآخرة فتؤخر إلى ما بعد ثلث الليل إلا أن يحصل في ذلك مشقة فيراعى حال المأمومين إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر.
الفصل الثالث
فيما يدرك به الوقت وما
يترتب على ذلك
يدرك الوقت بإدراك ركعة، بمعني أن الإنسان إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك تلك الصلاة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (متفق عليه)، وفي رواية: " ".
وفي رواية البخاري: " " فدلت هذه الروايات بمنطوقها على أن من أدرك ركعة من الوقت بسجدتيها فقد أدرك الوقت، ودلت بمفهومها على أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركاً للوقت.
ويترتب على هذا الإدراك أمران:
أحدهما: إنه إذا أدرك من الصلاة ركعة في الوقت صارت الصلاة كلها أداء، ولكن لا يعني ذلك أنه يجوز له أن يؤخر بعض الصلاة عن الوقت، لأنه يجب فعل الصلاة جميعها في الوقت.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ".
الأمر الثاني: إنه إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة وجبت عليه سواء كان ذلك من أول الوقت أم من آخره.
مثال ذلك من أوله: أن تحيض امرأة بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فأكثر ولم تصل المغرب، فقد وجبت عليها صلاة المغرب حينئذ فيجب عليها قضاؤها إذا طهرت.
ومثال ذلك آخره: أن تطهر امرأة من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فأكثر، فتجب عليها صلاة الفجر.
فإذا حاضت بعد غروب الشمس بأقل من مقدار ركعة أو طهرت قبيل طلوع الشمس بأقل من ركعة لم تجب عليها صلاة المغرب في المسألة الأولي ولا صلاة الفجر في المسألة الثانية، لأن الإدراك فيها أقل من مقدار ركعة.
الفصل الرابع
في حكم الجمع بين
الصلاتين في وقت إحداهما
سبق في الفصل الثاني بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل، لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع، بل كان مطلوباً ومحبوباً إلي الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ".
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين بعثه ومعاذاً إلى اليمن: " "، وفي روايةٍ لمسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: " "، وفيهما عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ".
إذا تبين هذا، فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع:
الأول: في السفر سائراً أو نازلاً: ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر، وفي صحيح مسلم عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول العصر فيجمع بينهما، وفيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وفيه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر) قال: فخرج بلال فنادى بالصلاة، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم (أي من قبة كان فيها أدم) كأني أنظر إلى بياض ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين.
وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز، أو أن ثمة حاجة إلى الجمع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلاً بمنى، وعلى هذا فنقول: الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وأن جمع فلا بأس إلا أن يكون في حاجة إلى الجمع إما لشدة تعبه ليستريح، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة.
وأما المسافر السائر فلأفضل له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء -حسب الأيسر له- إما جمع تقديم يقدم الثانية في وقت الأولي، وإما جمع تأخير يؤخر الأولي إلى وقت الثانية.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -أي تزول- أخّر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال: كان إذا في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل، قال: وأعِلَّ بتفرد إسحاق به شبابة، ثم تفرد جعفر الغريابي به عن إسحاق قال: وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان.
الثاني: عند الحاجة إلى الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر، لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك؟ قال: " "، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل ما حمله على ذلك؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلى لجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في حضر أو في سفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور" أ.هـ. ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت، قلت: ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما ذلك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفرداً ويسلم من مشقة المطر بدون جمع.
الموضوع الثالث: الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج:
ففي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس، قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً.
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة قال: فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئاً، وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في المزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم، وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما: فقيل: السفر وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها، وقيل: النسك، وفيه أيضاً إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلى الله عليه وسلم من حين أحرم، وقيل: المصلحة والحاجة، وهو الأقرب فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء، ولأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع، أما في مزدلفة فهم أحوج إلى الجمع، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلى تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك، وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد.
فسبحان الحكيم الرحيم، و نسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات، وعلى آله و أصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني عشر - باب المواقيت.