الكلام على التعصب في الدين
محمد الحسن الددو الشنقيطي
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
السؤال: بعض الناس من الذين ينتسبون للدعوة يتعصبون لآراء بعض الفقهاء،
ويحسبون أنها من الدين الذي نزل من عند الله عز وجل، ولا يرون الدين
غيره، ما تعليقكم على ذلك؟
الإجابة: إن التعصب مقيت مذموم، والله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا باتباع أحدٍ
غير رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جعله أسوة حسنة لنا، وأما من دونه
من غير المعصومين فلم يأمرنا بلزوم طريقه مائة بالمائة، بل المعصوم
وحده هو الذي لا يقع منه الخطأ أو لا يقر عليه، وأما من سواه فيمكن أن
يقع منه الخطأ، ولذلك ففعل غير المعصوم ليس بحجة إجماعاً.
ومن هنا: فإن التعصب لغير المعصوم مخالف لمقتضى الشرع ومخالف لمقتضى العقل، لأن التعصب له إما أن يكون في حق، وإما أن يكون في باطل، فإن كان في حق فعليك أن تتعصب للحق نفسه، والتعصب له بمعنى التزامه والأخذ به، وليس معناه أن ترد حقاً محتملاً آخر بل أن تعلم أن الحق أولى بالاتباع، وإن كان على باطل فلا يحل التعصب له بل يجوز التماس العذر له إن علم منه الصلاح، كأئمة المسلمين وفقهائهم وعلمائهم، فهؤلاء إذا علمت أن أحداً منهم أخطأ في اجتهاد فعليك أن تلتمس له العذر وأن تعلم أن سابقته في الإسلام وما عرف عنه من الصلاح وما عرف من حاله من الاستقامة مدعاة لأن يلتمس له العذر وأن يظن به أحسن الظنون.
ولكن ليس هذا داعياً لأن يتعصب لهم أبداً، بل لا يجوز أن يقال إن مذهباً من المذاهب صواب مائة بالمائة، أو أن مذهباً من المذاهب خطأ مائة بالمائة، ولم يرَ هذا أئمة الاجتهاد ولا أحد ممن سواهم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، والمقصود عندما يتعين حصول الخلاف المتناقض في مسألة من المسائل فالنقيضان لا يمكن أن يجتمعا ولا يمكن أن يرتفعا، النقيضان الشيء وغيره، لا يمكن أن يرتفعا لأنهما لا بد أن يكون أحدهما سلباً للآخر ولا يمكن أن يجتمعا كذلك، مثل إذا قيل: هذا الحكم واجب وقيل هذا الحكم غير واجب مثلاً، فهذان نقيضان، فيقول الشافعي هنا عند حصول الخلاف من هذا النوع، رأيي صواب لأن المسألة لا تحتمل صوابين، لا بد أن يكون فيها صواب واحد وخطأ واحد، رأيي صواب معناه في نظري أنا، يحتمل الخطأ لأنه ليس وحياً منزلاً وإنما هو نتاج لعقلي أنا، ورأي غيري معناه الرأي المقابل لرأيي خطأ معناه في رأيي أنا يحتمل الصواب معناه من المحتمل أيضاً أن يكون صحيحاً لأنه إنتاج عقل مثل عقلي.
وهذا هو الذي ينفي التعصب، وبالأخص عندما يعلم الإنسان مآخذ أهل العلم ومن أين أخذوا وعلى أي شيء اعتمدوا، فلم يأتِ أحد منهم بقول أراد به مخالفة كتاب الله أو مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يريدوا أبداً تحريف الكلم عن مواضعه، ولم يقل أحد منهم اتركوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذوا كلامي، بل قالوا خلاف ذلك جميعاً، فإذا كان الأمر كذلك فلو وجدت قولا لأحدهم ووجدت قولاً لآخر يخالفه ووجدت الدليل مع أحدهم أقوى، فإنك لا ينبغي أن تقول إن هذا الذي دل الدليل على صحة مذهبه معصوم، وأن ما قاله هو الصواب مائة بالمائة، وليس لك أيضاً أن تتهجم على الآخر الذي لم تجد دليله أو لم تطلع عليه أو عرفت أن الدليل يخالفه، بل تقول إن رأيه ضعيف في هذه المسألة ولا ينقص ذلك من قدره ولا يقلل من شأنه، كما أن صواب الآخر في تلك المسألة لا يقتضي أنه معصوم، ولا أن ترفعه عن حجمه الطبيعي، فهو إنسان اجتهد وبذل الجهد ووفقه الله تعالى لأمر إن أصاب فيه فهو مأجور وإن أخطأ فخطؤه مغفور.
ومن هنا كان علينا أن لا نسارع في إطلاق الصواب والخطأ وإذا حصل ذلك فلنعلم أنه لا يمكن أن يحسم، فأية مسألة اختلفت فيها الأمة لا ينبغي أن نلتمس نحن الحسم فيها.
مسألة اختلف فيها مالك وأبو حنيفة هل يمكن أن أحسمها أنا هنا في هذا القرن في هذا الوقت في هذا الزمان، لا، إذا قلت: الصحيح ما قال مالك، فقد ازداد أحد القولين بصوت واحد، وستجد الملايين في باكستان أو الهند يقولون: الصحيح ما قال أبو حنيفة، فلا يمكن أن يحسم الخلاف إذن بمجرد قولي أنا إن القول الفلاني هو الأصح أو الراجح أو لأني أنا اطلعت على دليله، فقد يخفى عليّ ملايين الأدلة، وما اطلعت عليه فهو غيض من فيض ولا يمثل شيئاً، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، لكنني غير مكلف بما جهلته، أنا مكلف بما علمته فقط، فسأعمل أنا بما عرفت دليله فهو الراجح لدي والعمل بالراجح واجب لا راجح، لكنني لا أطالب الأمة بأن تترك ما لديها وأن تعدل إلى ما ترجح لدي أنا فما أنا إلا واحد منهم، قد يترجح لدى آخر خلاف ما ترجح لدي ويكون مصيباً في قوله ولديه من الأدلة ما لم أطلع عليه وإذا كانت هذه الأدلة تخفى على أئمة الاجتهاد وأئمة النقل الكبار فمثلاً مالك بن أنس رحمه الله تعالى عاش عمراً طويلاً في المدينة ولم يشتغل عن هذا العلم بتجارة ولا بصناعة ولا بأي عمل آخر، أخرجته أمه إلى الحلقة وهو في السادسة من عمره ألبسته ثياباً بيضاً وعممته بعمامة وقالت: "لا ترجع إليّ حتى تكون صاحب الحلقة"، ومن ذلك الوقت وهو مشتغل بالعلم حتى شهد له سبعون محنكاً، معناه سبعون صاحب عمامة أنه أهل للإفتاء، ومع هذا خفي عليه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية معناها التي رواها أهل المدينة الشيء الكثير، حتى إنه صار يرجع إلى رواية بعض تلامذته، فقد سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء فقال: "لا أعرفه"، فقيل له: هل روي فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لم يبلغني"، فأتاه تلميذه عبد الله بن وهب فروى له الحديث الوارد في ذلك فسكت مالك حتى اجتمع المجلس فحدثهم بالحديث، قال: حدثني عبد الله بن وهب هذا، قال: أخبرنا الليث بن سعد وأتى بإسناده، فلا ينقص هذا من قدره شيئاً.
بل كثير من العلماء يرجعون إلى أقوال طلابهم، ولذلك فإن قصة ابن عرفة رحمه الله تعالى مشهورة، ابن عرفة أحد أئمة المالكية وكان يدرس في جامع عقبة بن نافع بالقيروان، فحدث في مجلسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه وطلق وظاهر منهن، فلما انفض المجلس بقي شاب في مكانه، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: نعم، حدثتنا أيها الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت، وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأمره الله تعالى بمراجعتها، وطلق قبل المسيس عدداً من النساء، وأخبرتنا أنه آلى من نسائه وقد صدقت، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقصة إيلائه من أزواجه في حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين، لكنك أخبرتنا أنه ظاهر من نسائه وكيف يكون ذلك؟ وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً}، فقال:إذن أنت الفتى ابن مرزوق؟ فقال: نعم، فلما اجتمع المجلس من الغد افتتح الشيخ الدرس على عادته، فقال: كنت حدثتكم بالأمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت ودليل ذلك كذا، وكنت أخبرتكم أنه آلى من نسائه وقد صدقت، ودليل ذلك كذا، وكنت أخبرتكم أنه ظاهر من نسائه وقد كذبت، وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً}؟ وقد أفادني بهذا هذا الفتى الجالس.
فلم يكن العلماء يرون غضاضة أبداً في مثل هذا، ولهذا فإن الليث بن سعد رحمه الله في رسالته إلى مالك ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وحملوا علمهم معهم، فكل أهل مصر يتشبثون بما بلغهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يحكم عليهم بإجماع أهل المدينة وحدهم، بالنسبة للآراء التي ذكرها.
وذِكر أن بعض الناس يكفّرون كل من يخالفهم هذا لا أظن إلا أن فيه مبالغة، فما أظن أن في مجتمعنا من يكفر من يخالفه في المسائل الفقهية، المسائل الفقهية أصلاً ليست محلاً للتكفير ولا للتبديع ولا للتفسيق لأنها مسائل اجتهادية، والتكفير إنما محله العقائد وقد ذكرنا صعوبة التكفير فيها، وأن له سبعة شروط وذكرنا بيانها، وأما قوله: وربما سخروا من أئمة الدين المشار إليهم، هذا لا أظنه يسمى سخرية ولكنه قد يكون شدة في القول وأسلوباً لبعض الناس، وأساليب الناس متفاوتة، ونحن نقرأ في أساليب أبي محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى بعض الكلام الذي فيه تهجم على الأئمة بحسب لغتنا نحن، ولكنه ما قصد التهجم عليهم وإنما سار على أسلوبه المعتاد لديه، وكذلك نقرأ في كلام أبي بكر بن العربي وهو أحد أئمة المالكية أقوالاً شديدة على الأئمة، فإنه قال في مسألة: قال مالك فيها كذا، وأخطأ مالك وغلطات الأئمة على قدرهم، هذا خطأ على قدر مالك بكامله، وقال في مسألة أخرى: وقال فيها الشافعي كذا وهو عند أصحابه سحبان وائل، يقصد أن هذا خطأ من الناحية اللغوية، وفي شرحه للموطأ القبس يقول مالك: ولا أرى هذا فيقول هو: قلت ولم؟ ولم لا تراه؟
فهذا أسلوب لبعض الناس وإن كان هذا الأسلوب فيه شدة، ولا ينبغي أن يدأب عليه الناس وبالأخص صغار طلاب العلم الذين ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، لا ينبغي أن يتعودوا على هذا النوع من الأساليب، بل عليهم أن يتعودوا أسلوباً آخر هو أسلوب الهدوء، والكلام العلمي الموثق المثبت، وأن يتركوا أسلوب التشنج ومثل هذا الكلام الذي يفهم على غير وجهه الصحيح، كذلك يقول في هذه الآراء مثلاً قضية الإسبال، إسبال الثوب جاء فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عنه، وهذه الأحاديث بعضها مطلق وبعضها مقيد، فالمطلق منها قوله صلى الله عليه وسلم: " "، والمقيد قوله صلى الله عليه وسلم: " "، وقد اختلف الأصوليون في المطلق والمقيد إذا تواردا في مسألة واحدة هل يحمل المطلق على المقيد أو يترك المطلق على إطلاقه ويبقى المقيد في بابه، وهذا الخلاف لا يمكن أن نحسمه نحن، فمثلاً جاء في القرآن: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وجاء في موضع آخر: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، فهل الرقبة التي تجزئ في الكفارة لا بد أن تكون مؤمنة دائماً، محل خلاف، لا يمكن أن نحسمه نحن، كذلك هنا هل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟ محل خلاف لا يمكن أن نحسمه نحن، من فعل ذلك ولم يقصد به خيلاء ولا عجباً فهل يدخل في الوعيد أم لا؟ محل خلاف، لكن الأحوط والأفضل أن يترك ذلك وأن لا يجره وأن لا يتجاوز به الكعبين كما نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عبد الله بن عمر فدعاه فقال: " "، وكما نصح به عمر بعد أن طُعن رضي الله عنه كان الناس يعودونه فأتاه شاب من الأنصار فلما ولى مقفياً رأى ثوبه يجر فقال: "ردوا عليّ الفتى" فقال: "ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى وأبقى"، وكذلك فإن الاحتياط في رفع الثياب وعدم إسبالها إذا كان خيلاء فالوعيد الشديد فيه، وإذا كان غير خيلاء فقالت طائفة من العلماء بنفس الوعيد فيه أيضاً، والنص أيضاً ظاهره كذلك، وأيضا فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على بطلان الصلاة والوضوء به، فقد رأى رجلاً مسبلاً يصلي فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة معاً، في سنن أبي داود وقد يكون بعض طرقه فيه ضعف لكن له طرق متعددة، لكن المهم هنا أن هذا الحديث لا يُحمل على عمومه لكل الناس، وإنما هو أمر غيبي تحدث عنه الرسول بقصة رجل واحد، عرف بالوحي بطلان صلاة هذا الرجل، وليس هذا قاعدة عامة لكل الناس أن كل من أسبل فقد بطل وضوؤه... المقيد هو قوله: "من جر ثوبه خيلاء" لأنه قيده بالخيلاء، قيده بأن يكون ذلك لقصد الخيلاء، والمطلق هو قوله: "ما أسفل من الكعبين في النار" فهذا مطلق سواء كان لخيلاء أو لغير ذلك، وقد علل بالإسبال لكن الإسبال بخصوص ذلك الرجل فهذه واقعة عين لم يفعلها مع آخرين، وأيضاً الإسبال في أثناء الصلاة ذكرت الخلاف فيه والحديث الوارد فيه في سنن أبي داود حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وذكرت أن أبا داود ضعفه في سننه.
أما تغطية وجه المرأة فإن وجه المرأة إذا كانت تخشى منه الفتنة فهو مثل سائر أعضائها يجب عليها أن تغطيه، وإما إذا لم تكن تخشى منه الفتنة كالقواعد من النساء وكغير الجميلات فإن الراجح الذي عليه جمهور أهل العلم أنه لا يجب تغطيته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.
ومن هنا: فإن التعصب لغير المعصوم مخالف لمقتضى الشرع ومخالف لمقتضى العقل، لأن التعصب له إما أن يكون في حق، وإما أن يكون في باطل، فإن كان في حق فعليك أن تتعصب للحق نفسه، والتعصب له بمعنى التزامه والأخذ به، وليس معناه أن ترد حقاً محتملاً آخر بل أن تعلم أن الحق أولى بالاتباع، وإن كان على باطل فلا يحل التعصب له بل يجوز التماس العذر له إن علم منه الصلاح، كأئمة المسلمين وفقهائهم وعلمائهم، فهؤلاء إذا علمت أن أحداً منهم أخطأ في اجتهاد فعليك أن تلتمس له العذر وأن تعلم أن سابقته في الإسلام وما عرف عنه من الصلاح وما عرف من حاله من الاستقامة مدعاة لأن يلتمس له العذر وأن يظن به أحسن الظنون.
ولكن ليس هذا داعياً لأن يتعصب لهم أبداً، بل لا يجوز أن يقال إن مذهباً من المذاهب صواب مائة بالمائة، أو أن مذهباً من المذاهب خطأ مائة بالمائة، ولم يرَ هذا أئمة الاجتهاد ولا أحد ممن سواهم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، والمقصود عندما يتعين حصول الخلاف المتناقض في مسألة من المسائل فالنقيضان لا يمكن أن يجتمعا ولا يمكن أن يرتفعا، النقيضان الشيء وغيره، لا يمكن أن يرتفعا لأنهما لا بد أن يكون أحدهما سلباً للآخر ولا يمكن أن يجتمعا كذلك، مثل إذا قيل: هذا الحكم واجب وقيل هذا الحكم غير واجب مثلاً، فهذان نقيضان، فيقول الشافعي هنا عند حصول الخلاف من هذا النوع، رأيي صواب لأن المسألة لا تحتمل صوابين، لا بد أن يكون فيها صواب واحد وخطأ واحد، رأيي صواب معناه في نظري أنا، يحتمل الخطأ لأنه ليس وحياً منزلاً وإنما هو نتاج لعقلي أنا، ورأي غيري معناه الرأي المقابل لرأيي خطأ معناه في رأيي أنا يحتمل الصواب معناه من المحتمل أيضاً أن يكون صحيحاً لأنه إنتاج عقل مثل عقلي.
وهذا هو الذي ينفي التعصب، وبالأخص عندما يعلم الإنسان مآخذ أهل العلم ومن أين أخذوا وعلى أي شيء اعتمدوا، فلم يأتِ أحد منهم بقول أراد به مخالفة كتاب الله أو مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يريدوا أبداً تحريف الكلم عن مواضعه، ولم يقل أحد منهم اتركوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذوا كلامي، بل قالوا خلاف ذلك جميعاً، فإذا كان الأمر كذلك فلو وجدت قولا لأحدهم ووجدت قولاً لآخر يخالفه ووجدت الدليل مع أحدهم أقوى، فإنك لا ينبغي أن تقول إن هذا الذي دل الدليل على صحة مذهبه معصوم، وأن ما قاله هو الصواب مائة بالمائة، وليس لك أيضاً أن تتهجم على الآخر الذي لم تجد دليله أو لم تطلع عليه أو عرفت أن الدليل يخالفه، بل تقول إن رأيه ضعيف في هذه المسألة ولا ينقص ذلك من قدره ولا يقلل من شأنه، كما أن صواب الآخر في تلك المسألة لا يقتضي أنه معصوم، ولا أن ترفعه عن حجمه الطبيعي، فهو إنسان اجتهد وبذل الجهد ووفقه الله تعالى لأمر إن أصاب فيه فهو مأجور وإن أخطأ فخطؤه مغفور.
ومن هنا كان علينا أن لا نسارع في إطلاق الصواب والخطأ وإذا حصل ذلك فلنعلم أنه لا يمكن أن يحسم، فأية مسألة اختلفت فيها الأمة لا ينبغي أن نلتمس نحن الحسم فيها.
مسألة اختلف فيها مالك وأبو حنيفة هل يمكن أن أحسمها أنا هنا في هذا القرن في هذا الوقت في هذا الزمان، لا، إذا قلت: الصحيح ما قال مالك، فقد ازداد أحد القولين بصوت واحد، وستجد الملايين في باكستان أو الهند يقولون: الصحيح ما قال أبو حنيفة، فلا يمكن أن يحسم الخلاف إذن بمجرد قولي أنا إن القول الفلاني هو الأصح أو الراجح أو لأني أنا اطلعت على دليله، فقد يخفى عليّ ملايين الأدلة، وما اطلعت عليه فهو غيض من فيض ولا يمثل شيئاً، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، لكنني غير مكلف بما جهلته، أنا مكلف بما علمته فقط، فسأعمل أنا بما عرفت دليله فهو الراجح لدي والعمل بالراجح واجب لا راجح، لكنني لا أطالب الأمة بأن تترك ما لديها وأن تعدل إلى ما ترجح لدي أنا فما أنا إلا واحد منهم، قد يترجح لدى آخر خلاف ما ترجح لدي ويكون مصيباً في قوله ولديه من الأدلة ما لم أطلع عليه وإذا كانت هذه الأدلة تخفى على أئمة الاجتهاد وأئمة النقل الكبار فمثلاً مالك بن أنس رحمه الله تعالى عاش عمراً طويلاً في المدينة ولم يشتغل عن هذا العلم بتجارة ولا بصناعة ولا بأي عمل آخر، أخرجته أمه إلى الحلقة وهو في السادسة من عمره ألبسته ثياباً بيضاً وعممته بعمامة وقالت: "لا ترجع إليّ حتى تكون صاحب الحلقة"، ومن ذلك الوقت وهو مشتغل بالعلم حتى شهد له سبعون محنكاً، معناه سبعون صاحب عمامة أنه أهل للإفتاء، ومع هذا خفي عليه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية معناها التي رواها أهل المدينة الشيء الكثير، حتى إنه صار يرجع إلى رواية بعض تلامذته، فقد سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء فقال: "لا أعرفه"، فقيل له: هل روي فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لم يبلغني"، فأتاه تلميذه عبد الله بن وهب فروى له الحديث الوارد في ذلك فسكت مالك حتى اجتمع المجلس فحدثهم بالحديث، قال: حدثني عبد الله بن وهب هذا، قال: أخبرنا الليث بن سعد وأتى بإسناده، فلا ينقص هذا من قدره شيئاً.
بل كثير من العلماء يرجعون إلى أقوال طلابهم، ولذلك فإن قصة ابن عرفة رحمه الله تعالى مشهورة، ابن عرفة أحد أئمة المالكية وكان يدرس في جامع عقبة بن نافع بالقيروان، فحدث في مجلسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه وطلق وظاهر منهن، فلما انفض المجلس بقي شاب في مكانه، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: نعم، حدثتنا أيها الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت، وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأمره الله تعالى بمراجعتها، وطلق قبل المسيس عدداً من النساء، وأخبرتنا أنه آلى من نسائه وقد صدقت، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقصة إيلائه من أزواجه في حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين، لكنك أخبرتنا أنه ظاهر من نسائه وكيف يكون ذلك؟ وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً}، فقال:إذن أنت الفتى ابن مرزوق؟ فقال: نعم، فلما اجتمع المجلس من الغد افتتح الشيخ الدرس على عادته، فقال: كنت حدثتكم بالأمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق وقد صدقت ودليل ذلك كذا، وكنت أخبرتكم أنه آلى من نسائه وقد صدقت، ودليل ذلك كذا، وكنت أخبرتكم أنه ظاهر من نسائه وقد كذبت، وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً}؟ وقد أفادني بهذا هذا الفتى الجالس.
فلم يكن العلماء يرون غضاضة أبداً في مثل هذا، ولهذا فإن الليث بن سعد رحمه الله في رسالته إلى مالك ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وحملوا علمهم معهم، فكل أهل مصر يتشبثون بما بلغهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يحكم عليهم بإجماع أهل المدينة وحدهم، بالنسبة للآراء التي ذكرها.
وذِكر أن بعض الناس يكفّرون كل من يخالفهم هذا لا أظن إلا أن فيه مبالغة، فما أظن أن في مجتمعنا من يكفر من يخالفه في المسائل الفقهية، المسائل الفقهية أصلاً ليست محلاً للتكفير ولا للتبديع ولا للتفسيق لأنها مسائل اجتهادية، والتكفير إنما محله العقائد وقد ذكرنا صعوبة التكفير فيها، وأن له سبعة شروط وذكرنا بيانها، وأما قوله: وربما سخروا من أئمة الدين المشار إليهم، هذا لا أظنه يسمى سخرية ولكنه قد يكون شدة في القول وأسلوباً لبعض الناس، وأساليب الناس متفاوتة، ونحن نقرأ في أساليب أبي محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى بعض الكلام الذي فيه تهجم على الأئمة بحسب لغتنا نحن، ولكنه ما قصد التهجم عليهم وإنما سار على أسلوبه المعتاد لديه، وكذلك نقرأ في كلام أبي بكر بن العربي وهو أحد أئمة المالكية أقوالاً شديدة على الأئمة، فإنه قال في مسألة: قال مالك فيها كذا، وأخطأ مالك وغلطات الأئمة على قدرهم، هذا خطأ على قدر مالك بكامله، وقال في مسألة أخرى: وقال فيها الشافعي كذا وهو عند أصحابه سحبان وائل، يقصد أن هذا خطأ من الناحية اللغوية، وفي شرحه للموطأ القبس يقول مالك: ولا أرى هذا فيقول هو: قلت ولم؟ ولم لا تراه؟
فهذا أسلوب لبعض الناس وإن كان هذا الأسلوب فيه شدة، ولا ينبغي أن يدأب عليه الناس وبالأخص صغار طلاب العلم الذين ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، لا ينبغي أن يتعودوا على هذا النوع من الأساليب، بل عليهم أن يتعودوا أسلوباً آخر هو أسلوب الهدوء، والكلام العلمي الموثق المثبت، وأن يتركوا أسلوب التشنج ومثل هذا الكلام الذي يفهم على غير وجهه الصحيح، كذلك يقول في هذه الآراء مثلاً قضية الإسبال، إسبال الثوب جاء فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عنه، وهذه الأحاديث بعضها مطلق وبعضها مقيد، فالمطلق منها قوله صلى الله عليه وسلم: " "، والمقيد قوله صلى الله عليه وسلم: " "، وقد اختلف الأصوليون في المطلق والمقيد إذا تواردا في مسألة واحدة هل يحمل المطلق على المقيد أو يترك المطلق على إطلاقه ويبقى المقيد في بابه، وهذا الخلاف لا يمكن أن نحسمه نحن، فمثلاً جاء في القرآن: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وجاء في موضع آخر: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، فهل الرقبة التي تجزئ في الكفارة لا بد أن تكون مؤمنة دائماً، محل خلاف، لا يمكن أن نحسمه نحن، كذلك هنا هل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟ محل خلاف لا يمكن أن نحسمه نحن، من فعل ذلك ولم يقصد به خيلاء ولا عجباً فهل يدخل في الوعيد أم لا؟ محل خلاف، لكن الأحوط والأفضل أن يترك ذلك وأن لا يجره وأن لا يتجاوز به الكعبين كما نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عبد الله بن عمر فدعاه فقال: " "، وكما نصح به عمر بعد أن طُعن رضي الله عنه كان الناس يعودونه فأتاه شاب من الأنصار فلما ولى مقفياً رأى ثوبه يجر فقال: "ردوا عليّ الفتى" فقال: "ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى وأبقى"، وكذلك فإن الاحتياط في رفع الثياب وعدم إسبالها إذا كان خيلاء فالوعيد الشديد فيه، وإذا كان غير خيلاء فقالت طائفة من العلماء بنفس الوعيد فيه أيضاً، والنص أيضاً ظاهره كذلك، وأيضا فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على بطلان الصلاة والوضوء به، فقد رأى رجلاً مسبلاً يصلي فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة معاً، في سنن أبي داود وقد يكون بعض طرقه فيه ضعف لكن له طرق متعددة، لكن المهم هنا أن هذا الحديث لا يُحمل على عمومه لكل الناس، وإنما هو أمر غيبي تحدث عنه الرسول بقصة رجل واحد، عرف بالوحي بطلان صلاة هذا الرجل، وليس هذا قاعدة عامة لكل الناس أن كل من أسبل فقد بطل وضوؤه... المقيد هو قوله: "من جر ثوبه خيلاء" لأنه قيده بالخيلاء، قيده بأن يكون ذلك لقصد الخيلاء، والمطلق هو قوله: "ما أسفل من الكعبين في النار" فهذا مطلق سواء كان لخيلاء أو لغير ذلك، وقد علل بالإسبال لكن الإسبال بخصوص ذلك الرجل فهذه واقعة عين لم يفعلها مع آخرين، وأيضاً الإسبال في أثناء الصلاة ذكرت الخلاف فيه والحديث الوارد فيه في سنن أبي داود حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وذكرت أن أبا داود ضعفه في سننه.
أما تغطية وجه المرأة فإن وجه المرأة إذا كانت تخشى منه الفتنة فهو مثل سائر أعضائها يجب عليها أن تغطيه، وإما إذا لم تكن تخشى منه الفتنة كالقواعد من النساء وكغير الجميلات فإن الراجح الذي عليه جمهور أهل العلم أنه لا يجب تغطيته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.