دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين

ابن تيمية

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
السؤال: دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين
الإجابة: وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه؛ ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النَّخَعِيّ‏:‏ لفتنتهم يعني المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة‏.‏

وقال الزهري‏: ‏ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وقال الأوزاعي‏:‏كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان‏: ‏ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وقال شريك القاضي وذكر المرجئة فقال‏:‏هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله‏.‏وقال سفيان الثوري‏:‏ تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِيّ وقال قتادة‏:‏إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث‏.

‏‏ وسئل مَيْمُون بن مِهْرَان عن كلام المرجئة، فقال‏:‏ أنا أكبر من ذلك، وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني‏:‏ ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه‏؟‏‏!‏ وقال أيوب السِّخْتِيَاني‏:‏ أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له‏:‏ الحسن‏.

‏‏ وقال زاذان‏:‏ أتينا الحسن بن محمد فقلنا‏:‏ ما هذا الكتاب الذي وضعت‏؟‏ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، فقال لي‏:‏ يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب، فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق‏.

‏‏ وأحمد رضي الله عنه فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب، فإن تصديق اللسان هو الإقرار، وقد ذكر ثلاثة أشياء، وهذا يحتمل شيئين‏: ‏يحتمل أن يفرق بين تصديق القلب ومعرفته، وهذا قول ابن كلاب والقلانسي، والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب، فإن تصديق القلب قوله‏.‏وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعاً آخ؛ ولهذاا قال أحمد‏:‏هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار‏؟‏ وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقا بما عرف ‏؟‏ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال‏:‏ لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد أتى عظيماً ولا أحسب امرءاً يدفع المعرفة والتصديق‏.‏

والذين قالوا‏:‏ الإيمان هو الإقرار‏.

‏‏ فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان‏.‏ والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق، فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان، إلا أن يقال‏:‏ أراد تصديق القلب واللسان جميعاً مع المعرفة والإقرار، ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق، كما قال تعالى‏:‏ ‏ {‏‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏81‏]‏، فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه، وقد أمروا بهذا، وليس هذا الإقرار تصديقاً، فإن الله تعالى لم يخبرهم بخبر، بل أوجب عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه‏.‏

فصدقوا بهذا الإقرار والتزموه، فهذا هو إقرارهم‏.

‏‏ والإنسان قد يقر للرسول، بمعنى‏:‏ أنه يلتزم ما يأمر به مع غير معرفة، ومن غير تصديق له بأنه رسول الله، لكن لم يقل أحد من المرجئة‏:‏ إن هذا الإقرار يكون إيماناً، بل لابد عندهم من الإقرار الخبري وهو أنه يقر له بأنه رسول الله كما يقر المقر بما يقر به من الحقوق، ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة، والمرجئة تارة يجعلون هذا هو الإيمان وتارة يجعلون الإيمان التصديق والالتزام معاً، هذا هو الإقرار الذي يقوله فقهاء المرجئة‏:‏ إنه إيمان، وإلا لو قال‏:‏ أنا أطيعه ولا أصدق أنه رسول الله، أو أصدقه ولا ألتزم طاعته، لم يكن مسلماً ولا مؤمناً عندهم‏.

‏ وأحمد قال‏:‏ لابد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقاً، وأن يكون عارفاً، وأن يكون مصدقاً بما عرف.

وفي رواية أخرى‏:‏ مصدقاً بما أقر، وهذا يقتضي أنه لابد من تصديق باطن، ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعاً، كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال‏:‏صدق بالقول والعمل‏.‏

فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد، فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيماً، وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسداً وإما كبراً، وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك، فلا يكون إيماناً، ولابد في الإيمان من علم القلب وعمله،فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقاً له،تابعاً له، محبا له، معظماً له، فإن هذا لابد منه، ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان، فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان،وهذا أشبه بأن يحمل عليه كلام أحمد؛ لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام‏.

‏‏ وأيضاً، فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لايتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون‏:‏ إن ما قاله ابن كلاب، والأشعري من الفرق، كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق، وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا‏:‏ ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق‏.

‏‏ فقال لهم الناس‏:‏ ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علماً حقيقياً ولا خبراً حقيقياً، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها‏.

‏‏ ولهذا قالوا‏:‏ إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن، وهذا مما استدلوا به على أن الرب تعالى لا يتصور قيام الكذب بذاته؛ لأنه بكل شيء عليم، ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم، والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم‏.‏

فيقال لهم‏:‏ الخبر النفساني لو كان خلافاً للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة، وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها، كالقاضي أبي يعلى، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي الطيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي الخطاب، وابن عَقِيل وغيرهم، فيقولون‏:‏ العقل نوع من العلم، فإنه ليس بضد له، فإن لم يكن نوعاً منه كان خلافاً له، ولو كان خلافاً لجاز وجوده مع ضد العقل، وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة كما ضعفها الجمهور، وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها فإن ما كان مستلزماً لغيره لم يكن ضدا له، إذ قد اجتمعا، وليس هو من نوعه، بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين، أو خلافين أو ضدين، فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة، ونحو ذلك ليس ضداً ولا مثلاً، بل هو خلاف، ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم، فإن ضد اللازم ينافيه، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، كوجود الإرادة بدون العلم، والعلم بدون الحياة، فهذان خلافان عندهم، ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر‏.

‏‏ كذلك العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلاً له ولا ضداً ولا نوعاً منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل، لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر، فإنه ليس ضداً ولا مثلاً، بل خلافاً، فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب، فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم، وبسط هذا له موضع آخر‏.

‏‏ والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق‏.‏ثم احتج الإمام أحمد على أن الأعمال من الإيمان بحجج كثيرة، فقال‏:‏ وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال "‏‏شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمساً من المغنم‏"‏‏، فجعل ذلك كله من الإيمان‏.

‏‏ قال‏:‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الحياء شعبة من الإيمان‏"‏‏،وقال "‏‏أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً‏"‏‏، وقال "إن البَذَاذَة من الإيمان‏"‏‏‏.‏

وقال‏ "الإيمان بضع وستون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله‏"‏‏ مع أشياء كثيرة، منها "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏‏، وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق‏ "‏‏ثلاث من كن فيه فهو منافق‏"‏‏ مع حجج كثيرة‏.

‏‏ وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده، ثم ما وصف الله تعالى في كتابه من زيادة الإيمان في غير موضع، مثل قوله‏:‏‏{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏‏ ‏[‏ الفتح‏:‏4 ‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً‏}‏‏ ‏[‏ المدثر‏:‏31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً‏}‏‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏‏ ‏[‏ التوبة‏:‏124‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}‏‏ ‏[‏ التوبة‏:‏5 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏‏.

‏‏ قال أحمد‏:‏ ويلزمه أن يقول‏:‏ هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول‏:‏ إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم‏.

‏‏ قلت‏:‏ هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه‏.‏

ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا‏:‏ لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافراً في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافراً في الآخرة‏.

‏‏ قالوا‏:‏ فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع‏.

‏‏ وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعاً، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيماناً، فإنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً لا حقيقة له‏.

‏‏ كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب‏:‏ إنه ذات بلا صفات، وقالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وما يقوله ابن كلاب من وحدة الكلام وغيره من الصفات‏.

‏‏ فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض، وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة، المتعصبين للجهمية والمعتزلة بل وللمرجئة أيضاً، لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين، ولكن من رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق، مثل الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وكالشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، فلو شتم الله ورسوله كان كافراً باطناً وظاهراً عندهم كلهم، ومن كان موافقاً لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين، والشافعيين والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا‏:‏إن هذا كفر باطناً وظاهراً‏.

‏‏ وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا‏:‏ هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض، ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك‏.

‏‏ وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب ‏[‏الصارم المسلول على شاتم الرسول‏]‏، وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثاً يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان‏.

‏‏ والرازي لما صنف ‏[‏مناقب الشافعي‏]‏ ذكر قوله في الإيمان‏.

‏‏ وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين‏.‏

ومن لقيه استشكل قول الشافعي جداً؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان؛ من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة، وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم‏.

‏‏ والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء‏.‏

والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون‏:‏ إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعاً مع الذنوب، لكن يقولون بقى بعضه؛ إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه‏.

‏‏ ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضاً متعدداً عند من يقول بذلك، وهم الخوارج والمعتزلة‏.

‏‏ وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد، فيثبتون واحداً لا حقيقة له، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم‏.

‏‏ ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان‏.

‏‏ ولهذا نظائر متعددة، يقول الإنسان قولاً مخالفاً للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع‏.

‏‏ وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده، فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن، وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل‏.‏

فقال لي مرة بعضهم‏:‏ الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان‏.

‏‏ فقلت له‏:‏ قولك من حيث هو، كما تقول‏:‏ الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فتثبت لهذه المسميات وجوداً مطلقاً مجرداً عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجوداً لا قديماً ولا حادثاً ولا قائماً بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنساناً لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول‏:‏ الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن‏.

‏‏ فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد‏.‏ وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي‏.‏

وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة، والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيماناً مطلقاً أو إنساناً مطلقاً، أو وجوداً مطلقا مجرداً عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس‏.

‏‏ وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره‏.

‏‏ ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج‏.

‏‏ وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزماناً مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلي الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين، والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى وجعلوا الصفة هي الموصوف‏.

‏‏ وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً وفي كونه متماثلاً كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل‏[‏ التوحيد‏]‏ و ‏[‏الصفات‏]‏ و‏[‏القرآن‏]‏ ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.

‏‏ وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف، بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل؛ ولهذا كان العقل يقبل التفاضل، والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل، فيكون إيجاب أقوى من إيجاب، وتحريم أقوى من تحريم، وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا كله نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل، وغيرهما‏.‏

وقد حكى عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان‏.

‏‏ وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة، ولكن يقوله من يخالف المرجئة، وهؤلاء يقولون‏:‏ التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل، وليس الأمر كما قالوه، بل جميع ذلك يتفاضل، وقد يقولون‏:‏إن أعمال القلب تتفاضل، بخلاف معارف القلب، وليس الأمر كذلك، بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب علي هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبراً، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمراً، وعلى العلم به إن كان علماً، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد‏.‏

فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة، ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب، ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه، والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله عز وجل ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره، وإما معاند‏.

‏‏ قال الإمام أحمد‏:‏ فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان، من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة، فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله‏؟‏ هل يقرون بهم في الجملة‏؟‏ ويزعمون أنه من الإيمان، فإذا قالوا‏:‏ نعم، قيل لهم‏:‏ هل تحدونهم وتعرفون عددهم‏؟‏ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم‏؟‏ فكذلك زيادة الإيمان‏.

‏‏ وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته، لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل‏.

‏‏ وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم‏.‏

وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان وقال‏:‏ إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏.

‏‏ وبين أيضاً أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلاماً، بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصاً لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله ديناً، وقال‏:‏‏{‏‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏، ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل ولا أعمال القلوب، مثل حب الله ورسوله ونحو ذلك، فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام، بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما يسمى إسلاماً لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل، كما علم أن من أثنى الله عليه بالإسلام من الأنبياء وأتباعهم إلى الحواريين كلهم كانوا مؤمنين كما كانوا مسلمين، كما قال الحواريون‏:‏ ‏{‏‏آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏52‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏111‏]‏؛ ولهذا أمرنا الله بهذا وبهذا في خطاب واحد، كما قال‏:‏ ‏{‏‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏136- 137‏]‏، وقال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.

‏‏ وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمي الدين هو مسمى الإيمان، بل أمرنا أن نقول‏:‏‏{‏‏آمَنَّا بِاللّهِ‏}‏‏، وأمرنا أن نقول‏:‏‏{‏‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏‏ فأمرنا باثنين فكيف نجعلهما واحداً‏؟‏‏!‏ وإذا جعلوا الإسلام والإيمان شيئاً واحداً، فإما أن يقولوا‏:‏ اللفظ مترادف، فيكون هذا تكريراً محضاً ثم مدلول هذا اللفظ عين مدلول هذا اللفظ، وإما أن يقولوا‏:‏ بل أحد اللفظين يدل على صفة غير الصفة الأخرى، كما في أسماء الله وأسماء كتابه، لكن هذا لا يقتضي الأمر بهما جميعاً، ولكن يقتضي أن يذكر تارة بهذا الوصف، وتارة بهذا الوصف، فلا يقول قائل‏:‏ قد فرض الله عليك الصلوات الخمس، والصلاة المكتوبة، وهذا هو هذا، والعطف بالصفات يكون إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح أو الذم، كقوله‏:‏‏{‏‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1‏:‏ 3‏]‏ لا يقال‏:‏ صل لربك الأعلى، ولربك الذي خلق فسوى‏.‏

وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله‏:‏ فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلى وقام بفرائض الله وانتهى عما نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئاً فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام، إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله حق، وما قال حق لا باطل وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم لله وخضوع للهيبة والجلال والطاعة للمصدق به، وهو الله، فمن ذلك يكون النقصان لا من إقرارهم بأن الله حق، وما قال صدق‏.

‏‏ فيقال‏:‏ ما ذكره يدل على أن من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام، وهذا حق، ولكن ليس فيه ما يدل عن أن من أتى بالإسلام الواجب فقد أتى بالإيمان، فقوله‏:‏ من آمن بالله فقد خضع له وقد استسلم له حق، لكن أي شيء في هذا يدل على أن من أسلم لله وخضع له، فقد آمن به وبملائكته وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت‏؟‏ وقوله‏:‏ إن الله ورسوله قد بين أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، إن أراد أن الله أوجبهما جميعاً ونهى عن التفريق بينهما، فهذا حق، وإن أراد أن الله جعل مسمي هذا مسمى هذا، فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك، وما ذكر قط نصاً واحداً يدل على اتفاق المسلمين‏.‏

و كذلك قوله‏:‏ من فعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه فقد استكمل الإيمان والإسلام، فهذا صحيح إذا فعل ما أمر به باطناً وظاهراً، ويكون قد استكمل الإيمان والإسلام الواجب عليه، ولا يلزم أن يكون إيمانه وإسلامه مساوياً للإيمان والإسلام الذي فعله أولو العزم من الرسل؛ كالخليل إبراهيم، ومحمد خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام، بل كان معه من الإيمان والإسلام ما لا يقدر عليه غيره ممن ليس كذلك ولم يؤمر به‏.

‏‏ وقوله‏:‏ من ترك من ذلك شيئاً فلن يزول عنه اسم الإسلام والإيمان إلا أنه أنقص من غيره في ذلك‏.

‏‏ فيقال‏:‏ إن أريد بذلك أنه بقي معه شيء من الإسلام والإيمان، فهذا حق كما دلت عليه النصوص، خلافاً للخوارج والمعتزلة، وإن أراد أنه يطلق عليه بلا تقييد مؤمن ومسلم في سياق الثناء والوعد بالجنة، فهذا خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله‏:‏‏{‏‏وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏72‏]‏ وأمثال ذلك مما وعدوا فيه بالجنة بلا عذاب‏.

‏‏ وأيضاً، فصاحب الشرع قد نفى عنهم الاسم في غير موضع، بل قال‏:‏‏(‏ قتال المؤمن كفر‏)‏،وقال‏ "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض‏"‏‏‏.

‏وإذا احتج بقوله‏:‏ ‏ {‏‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9‏]‏ ونحو ذلك قيل‏:‏ كل هؤلاء إنما سموا به مع التقييد بأنهم فعلوا هذه الأمور؛ ليذكر ما يؤمرون به هم وما يؤمر به غيرهم‏.

‏‏ وكذلك قوله‏:‏ لا يكون النقصان من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق، فيقال‏:‏ بل النقصان يكون في الإيمان الذي في القلوب من معرفتهم ومن علمهم فلا تكون معرفتهم وتصديقهم بالله وأسمائه وصفاته، وما قاله من أمر ونهي، ووعد ووعيد، كمعرفة غيرهم وتصديقه، لا من جهة الإجمال والتفصيل، ولا من جهة القوة والضعف، ولا من جهة الذكر والغفلة، وهذه الأمور كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله، وكيف يكون الإيمان بالله وأسمائه وصفاته متماثلاً في القلوب‏؟‏‏!‏ أم كيف يكون الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، ليس هو من الإيمان به‏؟‏‏!‏ فلا يمكن مسلماً أن يقول‏:‏ إن الإيمان بذلك ليس من الإيمان به ولا يدعي تماثل الناس فيه‏.‏

وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان، فهذا أيضاً حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئاً، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الإسلام هو الكلمة فقط، وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص، فقوله خطأ‏.‏

ورد الذين جعلوا الإسلام والإيمان سواء إنما يتوجه إلى هؤلاء، فإن قولهم في الإسلام يشبه قول المرجئة في الإيمان‏.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.