قول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن
ابن تيمية
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
السؤال: قول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن
الإجابة: وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان: يراد
به أنها لوازم له، فمتي وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف
وأهل السنة، ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً، وقد يكون
الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من
الجهمية وغيرهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غلطوا في ثلاثة أوجه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الذي في القلب تصديق بلا عمل للقلب، كمحبة الله وخشيته وخوفه، والتوكل عليه والشوق إلى لقائه.
والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة.
والثالث: قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف.
قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وقالت طائفة ثالثة وهم الجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة، وأصحاب الحديث:الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله ديناً وارتضاه لعباده ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه فقال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]، وقال:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125]، وقال: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر:22]، فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، فأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، وما ارتضاه فقد أحبه وامتدحه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه، فقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة:128]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [آل عمران:20]، وقال في موضع آخر: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} إلى قوله:{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [البقرة:136- 137] فحكم الله بأن من أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، فسوى بينهما.
قال: وقد ذكرنا تمام الحجة في أن الإسلام هو الإيمان، وأنهما لا يفترقان ولا يتباينان في موضع غير هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع كراهة التطويل والتكرير، غير أنا سنذكر من الحجة ما لم نذكره في غير هذا الموضع، ونبين خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار على التفرقة بين الإسلام والإيمان.
قلت: مقصود محمد بن نصر المروزي رحمه الله :أن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح، وأن المذموم ناقص الإسلام والإيمان، وأن كل مؤمن فهو مسلم، وكل مسلم فلابد أن يكون معه إيمان، وهذا صحيح، وهو متفق عل، بل ومقصوده أيضاً أن من أطلق عليه الإسلام أطلق عليه الإيمان، وهذا فيه نزاع لفظي، ومقصوده أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وهذا لا يعرف عن أحد من السلف.
وإن قيل:هما متلازمان، فالمتلازمان لا يجب أن يكون مسمى هذا هو مسمى هذا، وهو لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام المشهورين أنه قال:مسمى الإسلام هو مسمى الإيمان كما نصر،بل ولا عرفت أنا أحداً قال ذلك من السلف،ولكن المشهور عن الجماعة من السلف والخلف أن المؤمن المستحق لوعد الله هو المسلم المستحق لوعد الله، فكل مسلم مؤمن،وكل مؤمن مسلم،وهذا متفق على معناه بين السلف والخلف بل وبين فرق الأمة كلهم يقولون: إن المؤمن الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مسلماً،والمسلم الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مؤمناً، وكل من يدخل الجنة بلا عذاب من الأولين والآخرين فهو مؤمن مسلم.
ثم إن أهل السنة يقولون: الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة معهم بعض ذلك، وإنما النزاع في إطلاق الاسم، فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول وعمل، ولم ينقل عنهم شيء من ذلك في الإسلام، ولكن لما كان الجمهور الأعظم يقولون:إن الإسلام هو الدين كله، ليس هو الكلمة فقط خلاف ظاهر ما نقل عن الزهري، فكانوا يقولون:إن الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأفعال المأمور بها هي من الإسلام كما هي من الإيمان، ظن أنهم يجعلونها شيئاً واحداً، وليس كذلك، فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم، وليس إذا كان الإسلام داخـلاً فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق، ولكن هل يستلزم الإيمان الواجب أو كمال الإيمان؟ فيه نزاع، وليس معه دليل على أنه مستلزم للإيمان ولكن الأنبياء الذين وصفهم الله بالإسلام كلهم كانوا مؤمنين، وقد وصفهم الله بالإيمان ولو لم يذكر ذاك عنهم فنحن نعلم قطعاً أن الأنبياء كلهم مؤمنون.
وكذلك السابقون الأولون كانوا مسلمين مؤمنين.
ولو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان، فكل مسلم مؤمن، و كل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته، فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب وغيرهم، فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح، فما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وليس كل من صلى ببدنه يكون قلبه منوراً بذكر الله والخشوع وفهم القرآن وإن كانت صلاته يثاب عليها ويسقط عنه الفرض في أحكام الدنيا فهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله والخشوع وتدبر القرآن، فكل من خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا ينعكس؛ ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائماً بحقائقها.
والناس في [الإيمان] و [ الإسلام] على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فالمسلم ظاهراً وباطناً إذا كان ظالماً لنفسه، فلابد أن يكون معه إيمان، ولكن لم يأت بالواجب ولا ينعكس، وكذلك في الآخر.
وسيأتي إن شاء الله.
والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأن الله يحبه ويرضاه، وأنه ليس له دين غيره، وهذا كله حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان، بل ولا يدل على أن بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة، كما ذكره في حجة القول الأول، فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير آية، ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام.
وحينئذ، فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان، وأنه بعض منه، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، كلهم يقولون: كل مؤمن مسلم، وكل من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام الواجب، لكن النزاع في العكس، وهذا كما أن الصلاة يحبها الله ويأمر بها، ويوجبها ويثنى عليها وعلى أهلها في غير موضع، ثم لم يدل ذلك على أن مسمى الصلاة مسمى الإيمان، بل الصلاة تدخل في الإيمان، فكل مؤمن مصل، ولا يلزم أن يكون كل من صلى وأتى الكبائر مؤمنا.
وجميع ما ذكره من الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها التفريق بين مسمى الإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعاً، كما في حديث جبريل وغيره، وفيها أيضاً أن اسم الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام.
قال أبو عبد الله بن حامد في كتابه المصنف في [أصول الدين] قد ذكرنا أن الإيمان قول وعمل، فأما الإسلام فكلام أحمد يحتمل روايتين: إحداهما: أنه كالإيمان.
والثانية: أنه قول بلا عمل.
وهو نصه في رواية إسماعيل بن سعيد، قال: والصحيح أن المذهب رواية واحدة أنه قول وعمل، ويحتمل قوله: إن الإسلام قول يريد به: أنه لا يجب فيه ما يجب في الإيمان من العمل المشروط فيه؛ لأن الصلاة ليست من شرطه، إذ النص عنه أنه لا يكفر بتركه الصلاة.
قال: وقد قضينا أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين، وذكرنا اختلاف الفقهاء، وقد ذكر قبل ذلك أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين مختلفين، وبه قال مالك، وشريك، وحماد ابن زيد، بالتفرقة بين الإسلام والإيمان، قال: وقال أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة: إنهما اسمان معناهما واحد.
قال: ويفيد هذا أن الإيمان قد تنتفي عنه تسميته مع بقاء الإسلام عليه، وهو بإتيان الكبائر التي ذكرت في الخبر، فيخرج عن تسمية الإيمان، إلا أنه مسلم، فإذا تاب من ذلك عاد إلى ما كان عليه من الإيمان، ولا تنتفي عنه تسمية الإيمان بارتكاب الصغائر من الذنوب، بل الاسم باق عليه،ثم ذكر أدلة ذلك، ولكن ما ذكره فيه أدلة كثيرة على من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الأعمال من الإسلام، بل النصوص كلها تدل على ذلك، فمن قال: إن الأعمال الظاهرة المأمور بها ليست من الإسلام، فقوله باطل، بخلاف التصديق الذي في القلب، فإن هذا ليس في النصوص ما يدل على أنه من الإسلام، بل هو من الإيمان، وإنما الإسلام الدين، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسلم وجهه وقلبه لله، فإخلاص الدين لله إسلام، وهذا غير التصديق، ذاك من جنس عمل القلب، وهذا من جنس علم القلب.
وأحمد بن حنبل، وإن كان قد قال في هذا الموضع:إن الإسلام هو الكلمة، فقد قال في موضع آخر: إن الأعمال من الإسلام، وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله، فإن كان مراد من قال ذلك: إنه بالكلمة يدخل في الإسلام ولم يأت بتمام الإسلام، فهذا قريب، وإن كان مراده أنه أتى بجميع الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعاً، بل قد أنكر أحمد هذا الجواب، وهو قول من قال: يطلق عليه الإسلام وإن لم يعمل، متابعة لحديث جبريل، فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه.
قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الإسلام والإيمان فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار.
وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام، فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم.
فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضاً؟ فقال: هذا معاند للحديث.
فقد جعل أحمد من جعله مسلماً إذا لم يأت بالخمس معانداً للحديث، مع قوله: إن الإسلام الإقرار، فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام، وأنه لا يكون قائماً بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس، وإطلاق الاسم مشروط بها، فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل.
وأيضاً، فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة، بل وبغيرها من المباني، والكافر لا يكون مسلماً باتفاق المسلمين، فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل، وإن قدر أنه أراد ذلك، فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة، وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك، والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام؛ كالشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم، فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام؟! وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره، وقد روي عنه أنه جعل حديث سعد معارضاً لحديث عمر، ورجح حديث سعد.
قال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان أوكد أو الإسلام؟ قال: جاء حديث عمر هذا،وحديث سعد أحب إلى، كأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام،فيكون مسماه أفضل.
وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا الأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيماناً إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله، فيكون حينئذ بعض الإيمان، فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد، فلا منافاة بين الحديثين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الذي في القلب تصديق بلا عمل للقلب، كمحبة الله وخشيته وخوفه، والتوكل عليه والشوق إلى لقائه.
والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة.
والثالث: قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف.
قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وقالت طائفة ثالثة وهم الجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة، وأصحاب الحديث:الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله ديناً وارتضاه لعباده ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه فقال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]، وقال:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125]، وقال: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر:22]، فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، فأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، وما ارتضاه فقد أحبه وامتدحه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه، فقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة:128]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [آل عمران:20]، وقال في موضع آخر: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} إلى قوله:{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [البقرة:136- 137] فحكم الله بأن من أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، فسوى بينهما.
قال: وقد ذكرنا تمام الحجة في أن الإسلام هو الإيمان، وأنهما لا يفترقان ولا يتباينان في موضع غير هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع كراهة التطويل والتكرير، غير أنا سنذكر من الحجة ما لم نذكره في غير هذا الموضع، ونبين خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار على التفرقة بين الإسلام والإيمان.
قلت: مقصود محمد بن نصر المروزي رحمه الله :أن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح، وأن المذموم ناقص الإسلام والإيمان، وأن كل مؤمن فهو مسلم، وكل مسلم فلابد أن يكون معه إيمان، وهذا صحيح، وهو متفق عل، بل ومقصوده أيضاً أن من أطلق عليه الإسلام أطلق عليه الإيمان، وهذا فيه نزاع لفظي، ومقصوده أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وهذا لا يعرف عن أحد من السلف.
وإن قيل:هما متلازمان، فالمتلازمان لا يجب أن يكون مسمى هذا هو مسمى هذا، وهو لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام المشهورين أنه قال:مسمى الإسلام هو مسمى الإيمان كما نصر،بل ولا عرفت أنا أحداً قال ذلك من السلف،ولكن المشهور عن الجماعة من السلف والخلف أن المؤمن المستحق لوعد الله هو المسلم المستحق لوعد الله، فكل مسلم مؤمن،وكل مؤمن مسلم،وهذا متفق على معناه بين السلف والخلف بل وبين فرق الأمة كلهم يقولون: إن المؤمن الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مسلماً،والمسلم الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مؤمناً، وكل من يدخل الجنة بلا عذاب من الأولين والآخرين فهو مؤمن مسلم.
ثم إن أهل السنة يقولون: الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة معهم بعض ذلك، وإنما النزاع في إطلاق الاسم، فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول وعمل، ولم ينقل عنهم شيء من ذلك في الإسلام، ولكن لما كان الجمهور الأعظم يقولون:إن الإسلام هو الدين كله، ليس هو الكلمة فقط خلاف ظاهر ما نقل عن الزهري، فكانوا يقولون:إن الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأفعال المأمور بها هي من الإسلام كما هي من الإيمان، ظن أنهم يجعلونها شيئاً واحداً، وليس كذلك، فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم، وليس إذا كان الإسلام داخـلاً فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق، ولكن هل يستلزم الإيمان الواجب أو كمال الإيمان؟ فيه نزاع، وليس معه دليل على أنه مستلزم للإيمان ولكن الأنبياء الذين وصفهم الله بالإسلام كلهم كانوا مؤمنين، وقد وصفهم الله بالإيمان ولو لم يذكر ذاك عنهم فنحن نعلم قطعاً أن الأنبياء كلهم مؤمنون.
وكذلك السابقون الأولون كانوا مسلمين مؤمنين.
ولو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان، فكل مسلم مؤمن، و كل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته، فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب وغيرهم، فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح، فما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وليس كل من صلى ببدنه يكون قلبه منوراً بذكر الله والخشوع وفهم القرآن وإن كانت صلاته يثاب عليها ويسقط عنه الفرض في أحكام الدنيا فهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله والخشوع وتدبر القرآن، فكل من خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا ينعكس؛ ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائماً بحقائقها.
والناس في [الإيمان] و [ الإسلام] على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فالمسلم ظاهراً وباطناً إذا كان ظالماً لنفسه، فلابد أن يكون معه إيمان، ولكن لم يأت بالواجب ولا ينعكس، وكذلك في الآخر.
وسيأتي إن شاء الله.
والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأن الله يحبه ويرضاه، وأنه ليس له دين غيره، وهذا كله حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان، بل ولا يدل على أن بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة، كما ذكره في حجة القول الأول، فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير آية، ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام.
وحينئذ، فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان، وأنه بعض منه، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، كلهم يقولون: كل مؤمن مسلم، وكل من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام الواجب، لكن النزاع في العكس، وهذا كما أن الصلاة يحبها الله ويأمر بها، ويوجبها ويثنى عليها وعلى أهلها في غير موضع، ثم لم يدل ذلك على أن مسمى الصلاة مسمى الإيمان، بل الصلاة تدخل في الإيمان، فكل مؤمن مصل، ولا يلزم أن يكون كل من صلى وأتى الكبائر مؤمنا.
وجميع ما ذكره من الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها التفريق بين مسمى الإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعاً، كما في حديث جبريل وغيره، وفيها أيضاً أن اسم الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام.
قال أبو عبد الله بن حامد في كتابه المصنف في [أصول الدين] قد ذكرنا أن الإيمان قول وعمل، فأما الإسلام فكلام أحمد يحتمل روايتين: إحداهما: أنه كالإيمان.
والثانية: أنه قول بلا عمل.
وهو نصه في رواية إسماعيل بن سعيد، قال: والصحيح أن المذهب رواية واحدة أنه قول وعمل، ويحتمل قوله: إن الإسلام قول يريد به: أنه لا يجب فيه ما يجب في الإيمان من العمل المشروط فيه؛ لأن الصلاة ليست من شرطه، إذ النص عنه أنه لا يكفر بتركه الصلاة.
قال: وقد قضينا أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين، وذكرنا اختلاف الفقهاء، وقد ذكر قبل ذلك أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين مختلفين، وبه قال مالك، وشريك، وحماد ابن زيد، بالتفرقة بين الإسلام والإيمان، قال: وقال أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة: إنهما اسمان معناهما واحد.
قال: ويفيد هذا أن الإيمان قد تنتفي عنه تسميته مع بقاء الإسلام عليه، وهو بإتيان الكبائر التي ذكرت في الخبر، فيخرج عن تسمية الإيمان، إلا أنه مسلم، فإذا تاب من ذلك عاد إلى ما كان عليه من الإيمان، ولا تنتفي عنه تسمية الإيمان بارتكاب الصغائر من الذنوب، بل الاسم باق عليه،ثم ذكر أدلة ذلك، ولكن ما ذكره فيه أدلة كثيرة على من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الأعمال من الإسلام، بل النصوص كلها تدل على ذلك، فمن قال: إن الأعمال الظاهرة المأمور بها ليست من الإسلام، فقوله باطل، بخلاف التصديق الذي في القلب، فإن هذا ليس في النصوص ما يدل على أنه من الإسلام، بل هو من الإيمان، وإنما الإسلام الدين، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسلم وجهه وقلبه لله، فإخلاص الدين لله إسلام، وهذا غير التصديق، ذاك من جنس عمل القلب، وهذا من جنس علم القلب.
وأحمد بن حنبل، وإن كان قد قال في هذا الموضع:إن الإسلام هو الكلمة، فقد قال في موضع آخر: إن الأعمال من الإسلام، وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله، فإن كان مراد من قال ذلك: إنه بالكلمة يدخل في الإسلام ولم يأت بتمام الإسلام، فهذا قريب، وإن كان مراده أنه أتى بجميع الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعاً، بل قد أنكر أحمد هذا الجواب، وهو قول من قال: يطلق عليه الإسلام وإن لم يعمل، متابعة لحديث جبريل، فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه.
قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الإسلام والإيمان فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار.
وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام، فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم.
فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضاً؟ فقال: هذا معاند للحديث.
فقد جعل أحمد من جعله مسلماً إذا لم يأت بالخمس معانداً للحديث، مع قوله: إن الإسلام الإقرار، فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام، وأنه لا يكون قائماً بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس، وإطلاق الاسم مشروط بها، فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل.
وأيضاً، فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة، بل وبغيرها من المباني، والكافر لا يكون مسلماً باتفاق المسلمين، فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل، وإن قدر أنه أراد ذلك، فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة، وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك، والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام؛ كالشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم، فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام؟! وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره، وقد روي عنه أنه جعل حديث سعد معارضاً لحديث عمر، ورجح حديث سعد.
قال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان أوكد أو الإسلام؟ قال: جاء حديث عمر هذا،وحديث سعد أحب إلى، كأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام،فيكون مسماه أفضل.
وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا الأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيماناً إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله، فيكون حينئذ بعض الإيمان، فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد، فلا منافاة بين الحديثين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.