فصل: لفظ [الإيمان] إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ [البر]
ابن تيمية
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
السؤال: فصل: لفظ [الإيمان] إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ [البر]
الإجابة: فَصْــل:
فإذا تبين هذا، فلفظ [الإيمان] إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ [البر] وبلفظ [التقوى] وبلفظ [الدين] كما تقدم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فكان كل ما يحبه اللّه يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ [البر] يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ [التقوى] وكذلك [ الدين]، أو [دين الإسلام] وكذلك روى أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل اللّه هذه الآية: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية[البقرة:177]، وقد فسر البر بالإيمان، وفُسِّر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى اللّه والجميع حق، وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان.
قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذَرٍّ فسأله عن الإيمان، فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك.
فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلتَ لي.
فلما أبي أن يرضى قال له .
وقال: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن مجاهد؛ أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقرأ عليه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، وروى بإسناده عن عِكْرِمَة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع اللّه فلم يعصه، ورجل عصى اللّه فلم يطعه، فصار المطيع إلى اللّه فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى اللّه فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا.
قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم: الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن اللّه قال: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، فَسألتهم فلم يجيبوني، فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل، فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان اللّه! أما يقرؤون الآية التي في البقرة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} قال: ثم وصف اللّه على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إلي قوله: {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فقال: سلهم:هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، فألزم الاسم العمل، والعمل الاسم.
والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعاً لفظياً مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح، وبعض الناس يحكى هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن اللّه فرض على العباد فرائض، ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكى عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يُعَيِّنُون قائله، وقد يكون قول من لا خَلاقَ له؛ فإن كثيراً من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا.
ويدل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فقوله:{صَدَقُوا}أي: في قولهم: آمنوا، كقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}إلي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14-15]، أي:هم الصادقون في قولهم: آمنا باللّه، بخلاف الكاذبين الذين قال اللّه فيهم: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 8-10].
وفي {يكذبون} قراءتان مشهورتان، فإنهم كذبوا في قولهم: آمنا باللّه واليوم الآخر، وكذبوا الرسول في الباطن وإن صدقوه في الظاهر، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت:1- 3]، فبين أنه لابد أن يفتن الناس أي: يمتحنهم ويبتليهم ويختبرهم.
يقال: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتميزه مما اختلط به، ومنه قول موسى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:155]، أي: محنتك واختبارك وابتلاؤك، كما ابتليت عبادك بالحسنات والسيئات ليتبين الصبار الشكور من غيره، وابتليتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، والمنافق من المخلص، فتجعل ذلك سبباً لضلالة قوم وهدي آخرين.
والقرآن فيه كثير من هذا يصف المؤمنين بالصدق، والمنافقين بالكذب؛ لأن الطائفتين قالتا بألسنتهما: آمنا، فمن حقق قوله بعمله فهو مؤمن صادق ومن قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو كاذب منافق، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:166-167]،فلما قال في آية البر:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] دل على أن المراد:صدقوا في قولهم: آمنا؛ فإن هذا هو القول الذي أمروا به وكانوا يقولونه.
ولم يؤمروا أن يلفظوا بألسنتهم ويقولوا: نحن أبْرَارٌ أو بَرَرَةٌ؛ بل إذا قال الرجل: أنا بر فهذا مُزَكٍّ لنفسه؛ ولهذا كانت زينب بنت جَحْش اسمها بَرَّة فقيل: تُزَكِّى نفسها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، بخلاف إنشاء الإيمان بقولهم: [آمنا] فإن هذا قد فرض عليهم أن يقولوه، قال تعالى:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة:136]، وكذلك في أول آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [آل عمران:84 ] .
وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[ البقرة:285]،فقوله:{لاَ نُفَرِّقُ} دليل على أنهم قالوا: آمنا ولا نفرق؛ ولهذا قال: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فجمعوا بين قولهم: آمنا وبين قولهم: سمعنا وأطعنا، وقد قال في آية البر:{وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجعل الأبرار هم المتقين عند الإطلاق والتجريد، وقد ميز بينهما عند الاقتران والتقييد في قوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، ودلت هذه الآية على أن مسمى الإيمان ومسمى البر ومسمى التقوى عند الإطلاق واحد، فالمؤمنون هم المتقون وهم الأبرار.
ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة الصحيحة" ، وفي بعضها ، وهذا مطابق لقوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7- 8]، وذلك الذي هو مثقال ذرة من خير هو مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المؤمنون الأبرار الأتقياء هم أهل السعادة المطلقة، وهم أهل الجنة الذين وعدوا بدخولها بلا عذاب، وهؤلاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من هؤلاء، بل من أهل الذنوب المعرضين للوعيد أسوة أمثالهم.
فَصْــل:
وهذا النوع من نمط ( أسماء اللّه، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه) قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [ الأعراف:18]، وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24]، فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته، ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمته، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم.
وهكذا أسماء كتابه: القرآن، والفرقان، والكتاب، والهدى، والبيان، والشفاء، والنور، ونحو ذلك هي بهذه المنزلة، وكذلك أسماء رسوله: محمد، وأحمد، والماحِي، والحاشر، والمُقَفِّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملْحَمَة، كل اسم يدل على صفة من صفاته الممدوحة غير الصفة الأخرى، وهكذا ما يثنى ذكره من القصص في القرآن كقصة موسى وغيرها، ليس المقصود بها أن تكون سَمَراً، بل المقصود بها أن تكون عبراً كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، فالذي وقع شيء واحد وله صفات، فيعبر عنه بعبارات متنوعة، كل عبارة تدل على صفة من الصفات التي يعتبر بها المعتبرون، وليس هذا من التكرير في شيء.
وهكذا أسماء دينه، الذي أمر اللّه به ورسوله يسمى إيماناً، وبراً، وتقوى، وخيراً، وديناً، وعملاً صالحاً، وصراطاً مستقيماً، ونحو ذلك، وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ، والباقي كان تابعاً لها لازماً لها، ثم صارت دالة عليه بالتضمن، فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته.
ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد: قول القلب.
والتوكل: عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه، وحب ما يحبه اللّه ورسوله، وبغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وإخلاص العمل للّه وحده، وتوكل القلب على اللّه وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها اللّه ورسوله وجعلها من الإيمان.
ثم القلب هو الأصل،فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقال أبو هريرة: القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار، قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال: من قال من الصحابه عن المصلي العابث: لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه.
فلابد في إيمان القلب من حب اللّه ورسوله وأن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما،قال اللّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة:165]، فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حباً للّه من المشركين لأندادهم.
وفي الآية قولان: قيل: يحبونهم كحب المؤمنين اللّه، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم لأوثانهم.
وقيل: يحبونهم كما يحبون اللهّّ، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم، وهذا هو الصواب، والأول قول متناقض وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين للّه، وتستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محباً للّه ورسوله، مريداً لما يحبه اللّه ورسوله إرادة جازمة، مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته، دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه اللّه عليه.
ومن هنا يظهر خطأ قول جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب اللّه ورسوله، ويعادي اللّه ورسوله، ويعادي أولياء اللّه، ويوالي أعداء اللّه، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند اللّه مؤمن قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون: هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو؟ وهذا القول، مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة.
وقد كفَّر السلف كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول.
وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذب خبراً.
وكذلك فرعون وقومه، قال اللّه تعالى فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} [الإسراء:101-102].
فموسى وهو الصادق المصدوق يقول:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ}.
فدل على أن فرعون كان عالماً بأن اللّه أنزل الآيات وهو من أكبر خلق اللّه عناداً وبغياً لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه.
قال تعالى:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، وكذلك اليهود الذين قال اللّه فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146].
وكذلك كثير من المشركين الذين قال اللّه فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فَهَؤلاء غلطوا في أصلين:
أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال، وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً، فإن [أعمال القلوب] التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى اللّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه اللّه ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين، وذلك مثل حب اللّه ورسوله، بل أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية اللّه وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء اللّه وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل علي اللّه وحده دون المخلوقين، والإنابة إليه مع خشيته، كما قال تعالى:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 32 -33]، ومثل الحب في اللّه والبغض في اللّه والموالاة للّه والمعاداة للّه.
والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مُخَلَّد في النار، فإنما ذاك؛ لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق.
وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السَّلِيمِي الفطرة وجماهير النظار، فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوي النفس، يحمله ذلك الهوى على أن يعتدى عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في إتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.
ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، ومعلوم أن إتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وعمار بن ياسر، وبلال ونحوهم، وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصُّفَّة، فأنزل اللّه تبارك وتعالى:{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:52-53].
ومثل قول فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، وقول فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18-19]، ومثل قول مشركي العرب: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قال الله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا} [القصص:57]، ومثل قول قوم شعيب له:{أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } [هود:87] ومثل قول عامة المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم.
فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار، بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة واحتمال هذا الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بصدق الإيمان به، بل لهوى النفس، فكيف يقال: إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه باللّه؟ ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن اللّه موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم،وإما خوفهم إذا آمنوا ألا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل.
وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعه ويدفع عنه مضرة.
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة:51-53].
والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون.
وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال: يا رسول اللّه،إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى اللّه من ولاية يهود، فقال عبد اللّه بن أبيّ: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية. والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه.
وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم، فإنهم رأوا أن اللّّه قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:30] ورأوا أن اللّه خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9].
وقالوا: لو أن رجلاً آمن باللّه ورسوله ضَحْوَةً ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان.
وقالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل اللّه آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل اللّه ما بقى الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما.
والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه، ويقولون: قوله" مجاز.
والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه.
والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية.
والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه اللّه على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن إتباع الأنبياء المتقدمين أوجب اللّه عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك.
وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.
وأيضاً لو قدر أنه عاش، فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين.
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال. فنقول: إن قلتم: إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [آل عمران:97]؛ ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضِمَام بن ثَعْلَبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء اللّه متى فرض الحج؟ وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، فصحيح؛ لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف، فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين.
فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئاً واحداً في حق جميع الناس.وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب.
ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغُسْل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ: ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل: ما أتى فيه بالمستحبات.
ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب.
وأما قولهم: إن اللّه فرق بين الإيمان والعمل في مواضع. فهذا صحيح.
وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل اللّه ورسوله فيه الأعمال المأمور بها. وقد يقرن به الأعمال. وذكرنا نظائر لذلك كثيرة.
وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب.
والأعمال الظاهرة لازمة لذلك.
لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة.
ثم للناس في مثل هذا قولان: منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصاً له، لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، وقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}[الأحزاب:7]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد:2]، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5]، والصلاة والزكاة من العبادة، فقوله:{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5].
فإنه قصد أولاً:أن تكون العبادة للّه وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛ لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح فإنه أيضاً من تمام الدين لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح، وكذلك قوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1- 5].
وقد قيل: إن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل على من قبله، كابن سلام ونحوه، وأن هؤلاء نوع غير النوع المتقدم الذين يؤمنون بالغيب، وقد قيل: هؤلاء جميع المتقدمين الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب وهم صنف واحد، وإنما عطفوا لتغاير الصفتين كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [الأعلى:1- 5]، فهو سبحانه واحد وعطف بعض صفاته على بعض، وكذلك قوله: {الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ}، وهي صلاة العصر.
والصفات إذا كانت معارف كانت للتوضيح، وتضمنت المدح أو الذم. تقول: هذا الرجل هو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا تعدد محاسنه؛ ولهذا مع الإتباع قد يعطفونها وينصبون، أو يرفعون، وهذا القول هو الصواب؛ فإن المؤمنين بالغيب إن لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله لم يكونوا على هدى من ربهم ولا مفلحين ولا متقين، وكذلك الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله إن لم يكونوا من الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم اللّه ينفقون، لم يكونوا على هدى من ربهم، ولم يكونوا مفلحين، ولم يكونوا متقين، فدل على أن الجميع صفة المهتدين المتقين الذين اهتدوا بالكتاب المنزل إلى محمد، فقد عطفت هذه الصفة على تلك مع أنها داخلة فيها، لكن المقصود صفة إيمانهم، وأنهم يؤمنون بجميع ما أنزل اللّه على أنبيائه، لا يفرقون بين أحد منهم، وإلا فإذا لم يذكر إلا الإيمان بالغيب، فقد يقول: من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، نحن نؤمن بالغيب.
ولما كانت سورة البقرة سَنَام القرآن، ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها اللّه بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فإنه من حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن، وإما كافر مظهر للكفر، وإما منافق، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فإنه لم يكن هناك منافق؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره: لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار؛ فإن مكة كانت للكفار مستولين عليها.
فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن ليس هناك داع يدعو إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة، فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار.
فمن لم يظهر الإيمان آذوه، فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان، مع أن قلوبهم لم تؤمن، واللّه تعالى افتتح البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء، فقال في أولها ما تقدم، وقال في وسطها:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}الآية [البقرة:136-137]، وقال في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} والآية الأخرى [البقرة:285].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والآية الوسطى قد ثبت في [الصحيح] أنه كان يقرأ بها في ركعتي الفجر: وبـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران:64]، تارة.
وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}،و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تارة.
فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان والإسلام، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص.
فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطف عليه عطف الخاص على العام، إما لذكره خصوصاً بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلاً على أنه لم يدخل في العام.
وقيل: بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عطفت عليه ذكرت، لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال، وقدالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصاً وتنصيصاً ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة وهو الجنة بلا عذاب لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل، وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: آمنت، لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم.
وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب [الموجز] وهو أن القرآن نفي الإيمان عن غير هؤلاء، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان، قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءاً، نزاع لفظي.
الثاني: أن نصوصاً صرحت بأنها جزء، كقوله الثالث: أنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان، كان قولكم قول الخوارج، وأنتم في طرف، والخوارج في طرف؛ فكيف توافقونهم؟ ومن هذه الأمور: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والإجابة إلى حكم اللّه ورسوله، وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه، وإن كفرتموه كان قولكم قول الخوارج.
الرابع: أن قول القائل: إن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم ألا يكون في قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق، قول يعلم فساده بالاضطرار.
الخامس: أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات، فيرتفع النزاع المعنوي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
فإذا تبين هذا، فلفظ [الإيمان] إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ [البر] وبلفظ [التقوى] وبلفظ [الدين] كما تقدم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فكان كل ما يحبه اللّه يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ [البر] يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ [التقوى] وكذلك [ الدين]، أو [دين الإسلام] وكذلك روى أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل اللّه هذه الآية: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية[البقرة:177]، وقد فسر البر بالإيمان، وفُسِّر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى اللّه والجميع حق، وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان.
قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذَرٍّ فسأله عن الإيمان، فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك.
فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلتَ لي.
فلما أبي أن يرضى قال له .
وقال: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن مجاهد؛ أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقرأ عليه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، وروى بإسناده عن عِكْرِمَة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع اللّه فلم يعصه، ورجل عصى اللّه فلم يطعه، فصار المطيع إلى اللّه فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى اللّه فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا.
قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم: الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن اللّه قال: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، فَسألتهم فلم يجيبوني، فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل، فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان اللّه! أما يقرؤون الآية التي في البقرة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} قال: ثم وصف اللّه على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إلي قوله: {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فقال: سلهم:هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، فألزم الاسم العمل، والعمل الاسم.
والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعاً لفظياً مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح، وبعض الناس يحكى هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن اللّه فرض على العباد فرائض، ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكى عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يُعَيِّنُون قائله، وقد يكون قول من لا خَلاقَ له؛ فإن كثيراً من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا.
ويدل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فقوله:{صَدَقُوا}أي: في قولهم: آمنوا، كقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}إلي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14-15]، أي:هم الصادقون في قولهم: آمنا باللّه، بخلاف الكاذبين الذين قال اللّه فيهم: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 8-10].
وفي {يكذبون} قراءتان مشهورتان، فإنهم كذبوا في قولهم: آمنا باللّه واليوم الآخر، وكذبوا الرسول في الباطن وإن صدقوه في الظاهر، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت:1- 3]، فبين أنه لابد أن يفتن الناس أي: يمتحنهم ويبتليهم ويختبرهم.
يقال: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتميزه مما اختلط به، ومنه قول موسى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:155]، أي: محنتك واختبارك وابتلاؤك، كما ابتليت عبادك بالحسنات والسيئات ليتبين الصبار الشكور من غيره، وابتليتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، والمنافق من المخلص، فتجعل ذلك سبباً لضلالة قوم وهدي آخرين.
والقرآن فيه كثير من هذا يصف المؤمنين بالصدق، والمنافقين بالكذب؛ لأن الطائفتين قالتا بألسنتهما: آمنا، فمن حقق قوله بعمله فهو مؤمن صادق ومن قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو كاذب منافق، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:166-167]،فلما قال في آية البر:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] دل على أن المراد:صدقوا في قولهم: آمنا؛ فإن هذا هو القول الذي أمروا به وكانوا يقولونه.
ولم يؤمروا أن يلفظوا بألسنتهم ويقولوا: نحن أبْرَارٌ أو بَرَرَةٌ؛ بل إذا قال الرجل: أنا بر فهذا مُزَكٍّ لنفسه؛ ولهذا كانت زينب بنت جَحْش اسمها بَرَّة فقيل: تُزَكِّى نفسها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، بخلاف إنشاء الإيمان بقولهم: [آمنا] فإن هذا قد فرض عليهم أن يقولوه، قال تعالى:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة:136]، وكذلك في أول آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [آل عمران:84 ] .
وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[ البقرة:285]،فقوله:{لاَ نُفَرِّقُ} دليل على أنهم قالوا: آمنا ولا نفرق؛ ولهذا قال: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فجمعوا بين قولهم: آمنا وبين قولهم: سمعنا وأطعنا، وقد قال في آية البر:{وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجعل الأبرار هم المتقين عند الإطلاق والتجريد، وقد ميز بينهما عند الاقتران والتقييد في قوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، ودلت هذه الآية على أن مسمى الإيمان ومسمى البر ومسمى التقوى عند الإطلاق واحد، فالمؤمنون هم المتقون وهم الأبرار.
ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة الصحيحة" ، وفي بعضها ، وهذا مطابق لقوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7- 8]، وذلك الذي هو مثقال ذرة من خير هو مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المؤمنون الأبرار الأتقياء هم أهل السعادة المطلقة، وهم أهل الجنة الذين وعدوا بدخولها بلا عذاب، وهؤلاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من هؤلاء، بل من أهل الذنوب المعرضين للوعيد أسوة أمثالهم.
فَصْــل:
وهذا النوع من نمط ( أسماء اللّه، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه) قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [ الأعراف:18]، وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24]، فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته، ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمته، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم.
وهكذا أسماء كتابه: القرآن، والفرقان، والكتاب، والهدى، والبيان، والشفاء، والنور، ونحو ذلك هي بهذه المنزلة، وكذلك أسماء رسوله: محمد، وأحمد، والماحِي، والحاشر، والمُقَفِّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملْحَمَة، كل اسم يدل على صفة من صفاته الممدوحة غير الصفة الأخرى، وهكذا ما يثنى ذكره من القصص في القرآن كقصة موسى وغيرها، ليس المقصود بها أن تكون سَمَراً، بل المقصود بها أن تكون عبراً كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، فالذي وقع شيء واحد وله صفات، فيعبر عنه بعبارات متنوعة، كل عبارة تدل على صفة من الصفات التي يعتبر بها المعتبرون، وليس هذا من التكرير في شيء.
وهكذا أسماء دينه، الذي أمر اللّه به ورسوله يسمى إيماناً، وبراً، وتقوى، وخيراً، وديناً، وعملاً صالحاً، وصراطاً مستقيماً، ونحو ذلك، وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ، والباقي كان تابعاً لها لازماً لها، ثم صارت دالة عليه بالتضمن، فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته.
ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد: قول القلب.
والتوكل: عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه، وحب ما يحبه اللّه ورسوله، وبغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وإخلاص العمل للّه وحده، وتوكل القلب على اللّه وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها اللّه ورسوله وجعلها من الإيمان.
ثم القلب هو الأصل،فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقال أبو هريرة: القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار، قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال: من قال من الصحابه عن المصلي العابث: لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه.
فلابد في إيمان القلب من حب اللّه ورسوله وأن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما،قال اللّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة:165]، فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حباً للّه من المشركين لأندادهم.
وفي الآية قولان: قيل: يحبونهم كحب المؤمنين اللّه، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم لأوثانهم.
وقيل: يحبونهم كما يحبون اللهّّ، والذين آمنوا أشد حباً للّه منهم، وهذا هو الصواب، والأول قول متناقض وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين للّه، وتستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محباً للّه ورسوله، مريداً لما يحبه اللّه ورسوله إرادة جازمة، مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته، دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه اللّه عليه.
ومن هنا يظهر خطأ قول جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب اللّه ورسوله، ويعادي اللّه ورسوله، ويعادي أولياء اللّه، ويوالي أعداء اللّه، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند اللّه مؤمن قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون: هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو؟ وهذا القول، مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة.
وقد كفَّر السلف كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول.
وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذب خبراً.
وكذلك فرعون وقومه، قال اللّه تعالى فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} [الإسراء:101-102].
فموسى وهو الصادق المصدوق يقول:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ}.
فدل على أن فرعون كان عالماً بأن اللّه أنزل الآيات وهو من أكبر خلق اللّه عناداً وبغياً لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه.
قال تعالى:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، وكذلك اليهود الذين قال اللّه فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146].
وكذلك كثير من المشركين الذين قال اللّه فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فَهَؤلاء غلطوا في أصلين:
أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال، وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً، فإن [أعمال القلوب] التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى اللّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه اللّه ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين، وذلك مثل حب اللّه ورسوله، بل أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية اللّه وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء اللّه وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل علي اللّه وحده دون المخلوقين، والإنابة إليه مع خشيته، كما قال تعالى:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 32 -33]، ومثل الحب في اللّه والبغض في اللّه والموالاة للّه والمعاداة للّه.
والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مُخَلَّد في النار، فإنما ذاك؛ لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق.
وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السَّلِيمِي الفطرة وجماهير النظار، فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوي النفس، يحمله ذلك الهوى على أن يعتدى عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في إتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.
ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، ومعلوم أن إتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وعمار بن ياسر، وبلال ونحوهم، وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصُّفَّة، فأنزل اللّه تبارك وتعالى:{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:52-53].
ومثل قول فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، وقول فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18-19]، ومثل قول مشركي العرب: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قال الله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا} [القصص:57]، ومثل قول قوم شعيب له:{أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء } [هود:87] ومثل قول عامة المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم.
فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار، بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة واحتمال هذا الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بصدق الإيمان به، بل لهوى النفس، فكيف يقال: إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه باللّه؟ ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن اللّه موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم،وإما خوفهم إذا آمنوا ألا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل.
وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعه ويدفع عنه مضرة.
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة:51-53].
والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون.
وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال: يا رسول اللّه،إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى اللّه من ولاية يهود، فقال عبد اللّه بن أبيّ: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية. والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه.
وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم، فإنهم رأوا أن اللّّه قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:30] ورأوا أن اللّه خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9].
وقالوا: لو أن رجلاً آمن باللّه ورسوله ضَحْوَةً ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان.
وقالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل اللّه آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل اللّه ما بقى الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما.
والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه، ويقولون: قوله" مجاز.
والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه.
والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية.
والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه اللّه على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن إتباع الأنبياء المتقدمين أوجب اللّه عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك.
وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.
وأيضاً لو قدر أنه عاش، فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين.
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال. فنقول: إن قلتم: إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [آل عمران:97]؛ ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضِمَام بن ثَعْلَبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء اللّه متى فرض الحج؟ وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، فصحيح؛ لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف، فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين.
فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئاً واحداً في حق جميع الناس.وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب.
ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغُسْل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ: ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل: ما أتى فيه بالمستحبات.
ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب.
وأما قولهم: إن اللّه فرق بين الإيمان والعمل في مواضع. فهذا صحيح.
وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل اللّه ورسوله فيه الأعمال المأمور بها. وقد يقرن به الأعمال. وذكرنا نظائر لذلك كثيرة.
وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب.
والأعمال الظاهرة لازمة لذلك.
لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة.
ثم للناس في مثل هذا قولان: منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصاً له، لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، وقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}[الأحزاب:7]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد:2]، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5]، والصلاة والزكاة من العبادة، فقوله:{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5].
فإنه قصد أولاً:أن تكون العبادة للّه وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛ لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح فإنه أيضاً من تمام الدين لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح، وكذلك قوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1- 5].
وقد قيل: إن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل على من قبله، كابن سلام ونحوه، وأن هؤلاء نوع غير النوع المتقدم الذين يؤمنون بالغيب، وقد قيل: هؤلاء جميع المتقدمين الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب وهم صنف واحد، وإنما عطفوا لتغاير الصفتين كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [الأعلى:1- 5]، فهو سبحانه واحد وعطف بعض صفاته على بعض، وكذلك قوله: {الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ}، وهي صلاة العصر.
والصفات إذا كانت معارف كانت للتوضيح، وتضمنت المدح أو الذم. تقول: هذا الرجل هو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا تعدد محاسنه؛ ولهذا مع الإتباع قد يعطفونها وينصبون، أو يرفعون، وهذا القول هو الصواب؛ فإن المؤمنين بالغيب إن لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله لم يكونوا على هدى من ربهم ولا مفلحين ولا متقين، وكذلك الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله إن لم يكونوا من الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم اللّه ينفقون، لم يكونوا على هدى من ربهم، ولم يكونوا مفلحين، ولم يكونوا متقين، فدل على أن الجميع صفة المهتدين المتقين الذين اهتدوا بالكتاب المنزل إلى محمد، فقد عطفت هذه الصفة على تلك مع أنها داخلة فيها، لكن المقصود صفة إيمانهم، وأنهم يؤمنون بجميع ما أنزل اللّه على أنبيائه، لا يفرقون بين أحد منهم، وإلا فإذا لم يذكر إلا الإيمان بالغيب، فقد يقول: من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، نحن نؤمن بالغيب.
ولما كانت سورة البقرة سَنَام القرآن، ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها اللّه بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فإنه من حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن، وإما كافر مظهر للكفر، وإما منافق، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فإنه لم يكن هناك منافق؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره: لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار؛ فإن مكة كانت للكفار مستولين عليها.
فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن ليس هناك داع يدعو إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة، فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار.
فمن لم يظهر الإيمان آذوه، فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان، مع أن قلوبهم لم تؤمن، واللّه تعالى افتتح البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء، فقال في أولها ما تقدم، وقال في وسطها:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}الآية [البقرة:136-137]، وقال في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} والآية الأخرى [البقرة:285].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والآية الوسطى قد ثبت في [الصحيح] أنه كان يقرأ بها في ركعتي الفجر: وبـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران:64]، تارة.
وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}،و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تارة.
فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان والإسلام، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص.
فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطف عليه عطف الخاص على العام، إما لذكره خصوصاً بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلاً على أنه لم يدخل في العام.
وقيل: بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عطفت عليه ذكرت، لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال، وقدالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصاً وتنصيصاً ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة وهو الجنة بلا عذاب لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل، وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: آمنت، لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم.
وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب [الموجز] وهو أن القرآن نفي الإيمان عن غير هؤلاء، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان، قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءاً، نزاع لفظي.
الثاني: أن نصوصاً صرحت بأنها جزء، كقوله الثالث: أنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان، كان قولكم قول الخوارج، وأنتم في طرف، والخوارج في طرف؛ فكيف توافقونهم؟ ومن هذه الأمور: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والإجابة إلى حكم اللّه ورسوله، وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه، وإن كفرتموه كان قولكم قول الخوارج.
الرابع: أن قول القائل: إن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم ألا يكون في قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق، قول يعلم فساده بالاضطرار.
الخامس: أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات، فيرتفع النزاع المعنوي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.