فصل: السلف على أن العباد مأمورون منهيون

ابن تيمية

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصل: السلف على أن العباد مأمورون منهيون
الإجابة: فصــل:

وسلف الأمة وأئمتها متفقون أيضاً على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده، ومن احتج بالقدر على ترك مأمور، أو فعل محظور أو دفع ما جاءت به النصوص في الوعد والوعيد، فهو أعظم ضلالاً، وافتراء على الله، ومخالفة لدين الله من أولئك القدرية، فإن أولئك مشبهون بالمجوس، وقد جاءت الآثار فيهم أنهم مجوس هذه الأمة، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره من السلف، وقد رويت في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه أبو داود والترمذي، ولكن طائفة من أئمة الحديث طعنوا في صحة الأحاديث المرفوعة في ذلك، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏

والمقصود هنا أن القدرية النافية يشبهون المجوس في كونهم أثبتوا غير الله، يحدث أشياء من الشر بدون مشيئته وقدرته وخلقه‏.

‏‏ وأما المحتجون على القدر بإسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، فهؤلاء يشبهون المشركين الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.

‏‏ فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل، وهم أسوأ حالاً من المجوس، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد‏.

‏‏ ومن هؤلاء من يظن أن آدم احتج على موسى بالقدر على الذنب، وأن ذلك جائز لخاصة الأولياء المشاهدين للقدر، وهذا ضلال عظيم، فإن موسى إنما لام آدم على المعصية التي لحقت الذرية بسبب أكله من الشجرة، فقال "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة"‏‏‏؟‏ والعبد مأمور عند المصائب أن يرجع للقدر، فإن سعادة العبد أن يفعل المأمور، ويترك المحظور ويسلم للمقدور، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏، قال ابن مسعود‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.

‏‏ فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏، والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب، وإلا فآدم صلى الله عليه وسلم قد تاب من الذنب، وقد اجتباه ربه وهداه، وموسى أجل قدراً من أن يلوم أحداً على ذنب قد تاب منه وغفر الله له، فضلا عن آدم، وهو أيضاً قد تاب مما فعل حيث قال‏:‏ ‏{‏‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.

‏‏ وقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، وموسى وآدم أعلم بالله من أن يظن واحد منهما أن القدر عذر لمن عصى الله، وقد علمنا ما حل بإبليس وغير إبليس، وآدم نفسه قد أخرج من الجنة وطفق هو وامرأته يخصفان عليهما من ورق الجنة، وقد عاقب الله قوم نوح، وهود، وصالح، وغيرهم من الأممم وقد شرع الله عقوبة المعتدين وأعد جهنم للكافرين، فكيف يكون القدر عذراً للذنب‏؟‏‏!‏ ‏.

‏‏ وهؤلاء لا يحتجون بالقدر إلا إذا كانوا متبعين لأهوائهم بغير علم، ولا يطردون حجتهم، فإن القدر لو كان عذراً للخلق للزم ألا يلام أحد ولا يذم ولا يعاقب لا في الدنيا والآخرة، ولا يقتص من ظالم أصلا، بل يمكن الناس أن يفعلوا ما يشتهون مطلقاً، ومعلوم أن هذا لا يتصور أن يقوم عليه مصلحة أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو موجب الفساد العام وصاحب هذا لا يكون إلا ظالماً متناقضاً، فإذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته وجزاه، ولم يعذره بالقدر، وإذا كان هو الظالم احتج لنفسه بالقدر، فلا يحتج أحد بالقدر لإتباع هواه بغير علم، ولا يكون إلا مبطلاً لاحق معه، كما احتج به المشركون فقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏‏.

‏‏ ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر، إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه، ولم يقبلوا حجته إذا قال‏:‏ لو شاء الله ما عاديتكم، بل هم دائماً يعيبون من ظلم واعتدى ولا يقبلون احتجاجه بالقدر، فلما جاءهم الحق من ربهم، أخذوا يدافعون ذلك بالقدر، فصاروا يحتجون على دفع أمر الله ونهيه بما لا يجوزون أن يحتج به عليهم في دفع أمرهم ونهيهم، بل ولا يجوز أحد من العقلاء أن يحتج به عليه في دفع حقه، فعارضوا ربهم ورسل ربهم بما لا يجوزون أن يعارض به أحد من الناس، ولا رسل أحد من الناس، فكان أمر المخلوق ونهيه وحقه أعظم على قولهم من أمر الله و نهيه وحقه على عباد الله، وكان أمر الله ونهيه وحقه على عباده أخف حرمة عندهم، من أمر المخلوق ونهيه وحقه على غيره، فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما ثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل قال‏:‏ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال "يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏‏حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ماحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏‏حقهم عليه ألا يعذبهم"‏‏‏.‏

فكان هؤلاء المشركون من أعظم الناس جهلاً وعداوة لله ورسوله، فاحتجوا على إسقاط حقه وأمره ونهيه بما لا يجوزون لا هم ولا أحد من العقلاء أن يحتج به على إسقاط حق مخلوق، ولا أمره ولا نهيه‏.

‏‏ وهذا، كما جعلوا لله شركاء وبنات، وهم لا يرضى أحدهم أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى البنات لنفسه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ أي كخيفة بعضكم بعضاً‏.

‏‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏، فالمكذبون للرسل دائما حجتهم داحضة متناقضة، فهم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً‏}‏‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً‏}‏‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏، فحجة المشركين في شركهم بالله وجعلهم له ولداً، وفي دفع أمره ونهيه بالقدر داحضة‏.‏ وقد بسط الكلام على هذه الأمور وما يناسبها في غير هذا الموضع‏.

‏‏ وبين أن قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وأنه صادر عن موجب بالذات متولد عن العقول والنفوس الذين يعبدون الكواكب العلوية ويصنعون لها التماثيل السفلية، كأرسطو وأتباعه أعظم كفراً وضلالا من مشركي العرب الذين كانوا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، بمشيئته وقدرته، ولكن خرقوا له بنين وبنات بغير علم وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا‏.

‏‏ وكذلك المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقاً، ويحتجون بالقضاء والقدر أسوأ حالاً من اليهود والنصارى ومشركي العرب، فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولكن كان لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بخلاف المباحية المسقطة للشرائع مطلقاً، فإنما يرضون بما تهواه أنفسهم، ويغضبون لما تهواه أنفسهم، لا يرضون لله، ولا يغضبون لله، ولا يحبون لله، ولا يبغضون لله، ولا يأمرون بما أمر الله به، ولا ينهون عما نهى عنه، إلا إذا كان لهم في ذلك هوى، فيفعلونه لأجل هواهم لا عبادة لمولاهم‏.‏

ولهذا لا ينكرون ما وقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، إلا إذا خالف أغراضهم، فينكرونه إنكاراً طبيعياً شيطانياً لا إنكاراً شرعيا رحمانيا، ولهذا تقترن بهم الشياطين إخوانهم فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وقد تتمثل لهم الشياطين وتخاطبهم وتعينهم على بعض أهوائهم، كما كانت الشياطين تفعل بالمشركين عباد الأصنام، وهؤلاء يكثرون في الطوائف الخارجين عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة الذين يسلكون طرقاً في العبادات والاعتقادات مبتدعة في الدين ولا يتحرون في عباداتهم، واعتقاداتهم موافقة الرسول والاعتصام بالكتاب والسنة، فتكثر فيهم الأهواء والشبهات، وتغويهم الشياطين، وتصير فيهم شبهة من المشركين بحسب بعدهم عن الرسول‏.

‏‏ وكما يجب إنكار قول القدرية المضاهين للمجوس، فإنكار قول هؤلاء أولى، والرد عليهم أحرى، وهؤلاء لم يكونوا موجودين في عصر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأولاً الأخف فالأخف كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة، ثم في آخر عصر الصحابة، بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات وأما هؤلاء المباحية المسقطون للأمر والنهي محتجين على ذلك بالقدر، فهم شر من جميع هذه الطوائف وإنما حدثوا بعد هؤلاء كلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.