تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام
الإجابة: وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا
بمعنى مفعوله، مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل والمفعول، فلهذا عظم
النزاع وأشكلت المسألة على الطائفتين وحاروا فيها.
وأما من قال: خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل :إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد وعلي هذا تزول الشبهة؛ فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة.
ومعني قبحها: كونها ضارة لفاعلها، وسبباً لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره.
ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون: له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة، كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم، ومن يقول: لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا.
يوضح ذلك أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمي ومرضاً وجوعاً وعطشاً ووصباً ونصباً و نحو ذلك، كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم.
فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذي والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك.
فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك، هي أمور ضارة مكروهة مؤذية.
وهذا معني كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسوء أيضاً غيره وتضره، كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره.
يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء، كما في قوله تعالى :{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 50] ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزي عليها ويستحق الذم عليها والعقاب، وهي مخلوقة لله تعالى فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه، وإن افترقا من وجه آخر، وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلا لله دون هذا، وهذا فعلا للعبد دون هذا، ولكن يقولون: إن هذا يحسن من الله تعالى لكونه جزاء للعبد، وذلك لا يحسن منه لكونه ابتداء للعبد بما يضره وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق، أو عوض لاحق.
وأما أهل الإثبات للقدر، فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق.
وأما القائلون بالحكمة وهم الجمهور فيقولون: لله تعالى فيما يخلقه من أذي الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا، ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض، فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس، وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله.
والمعتزلة مُشَبِّهَة في الأفعال مُعَطِّلَة في الصفات، ومن أصولهم الفاسدة: أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم؛ إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به فيسمونه به، ويصفونه بما يخلقه في العالم، مثل قولهم: هو متكلم بكلام يخلقه في غيره، ومريد بإرادة يحدثها لا في محل.
وقولهم: إن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب، وقولهم: إنه لو كان خالقاً لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب، وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة، ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة عليهم، لاسيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله تعالى وأنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلاماً له، فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة، وإنطاقه للجبال والحصي بالتسبيح، وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلاماً له، وإذا كان خالقاً لكل شيء كان كل كلام موجود كلامه، وهذا قول الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله، ولهذا يقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
وقد علم بصريح المعقول: أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل كان هو المريد المحب المبغض.
وإذا خلق فعلا لعبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً وظلماً وكفراً كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج.
والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون: إن خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض، بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله؛ فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية والقدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل: إن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه، فقالوا: إذا قلتم إن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالي، فإنه يسمي عادلا يعدل خلقه في غيره، محسناً بإحسان خلقه في غيره، فكذا يسمي متكلماً بكلام خلقه في غيره.
والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل، ويقولون: إنما كان عادلاً بالعدل الذي قام بنفسه، ومحسناً بالإحسان الذي قام بنفسه. وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك، كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته، وأما ما يخلقه من الرحمة فهو أثر تلك الرحمة، واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي مسمي المصدر، ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمي المفعول؛ كلفظ [الخلق] يقع تارة على الفعل وعلي المخلوق أخري، والرحمة تقع على هذا وهذا، وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمراً، ويقع على المفعول تارة كقوله تعالي: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] وكذلك لفظ [العلم] يقع على المعلوم و [القدرة ] تقع على المقدور ونظائر هذا متعددة.
وقد استدل الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله عليه السلام ونحو ذلك وقالوا: الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبر هذا الباب ونحوه وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق من المنتسبين إلى السنة والهدي إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخري وضلال آخر، لا سيما إذا وافقوهم على ذلك، فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك، ويطلبون لوازمه، حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين، كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين.
والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم في أن كلام الله غير مخلوق، وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واستطالوا عليهم بذلك في [مسألة القدر]، واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلا لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له، فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل؛ ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا، ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طَفْرَة النَظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسْب الأشعري.
واضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي، والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثراً في هذا بأولي من العكس، ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا تتجاوز محلها، ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول، وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول، وأبو المعالي الجويني إلى قول؛ لما رأوا ما في هذا القول من التناقض، والكلام على هذا مبسوط في موضعه، والمقصود هنا التنبيه.
ومن النكت في هذا الباب أن لفظ [التأثير] ولفظ [الجبر] ولفظ [الرزق] ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل: هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا؟ قيل له أولا: لفظ القدرة يتناول نوعين:
أحدهما: القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي.
والثاني: القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولي هي المذكورة في قوله تعالي:{وَلِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل، لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصياً بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين" ، وكذا قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله صلى الله عليه وسلم لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لكان قد قال: فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئاً عاصياً له، وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا هذه، ويقولون: الاستطاعة لابد أن تكون قبل الفعل، ومنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل، وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون، فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر: إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه، أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي.
وعلي هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة، وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها، فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل، فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين.
وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم؟ فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى :{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فكل من أمره الله ونهاه، فهو مستطيع بهذا الاعتبار، وإن علم أنه لا يطيعه، وإن أريد بالقدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول، فمن علم أنه لا يفعل الفعل، لم تكن هذه القدرة ثابتة له.
ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر، والإرادة، هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد؟ فإن الإرادة لفظ فيه إجمال.
يراد بالإرادة: الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث، كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكقوله تعالي: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وقول نوح عليه السلام : {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، ولا ريب أن الله يأمر العباد بما لا يريده بهذا التفسير والمعني، كما قال تعالي: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه قد أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إن شاء الله، أو ليردن وديعته أو غصبه، أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله، ونحو ذلك مما أمره الله به، فإنه إذا لم يفعل المحلوف عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله: إن شاء الله، فعلم أن الله لم يشأه مع أمره به.
وأما الإرادة الدينية، فهي بمعني المحبة والرضا، وهي ملازمة للأمر كقوله تعالي: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئاً لا يريده الله إذا كان يفعل بعض الفواحش أي أنه لا يحبه ولا يرضاه، بل ينهي عنه ويكرهه.
وكذلك لفظ [الجبر] فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه، كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضا، والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتبار، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات؛ كقول محمد بن كعب القُرَظِيّ: الجبار: الذي جبر العباد على ما أراد.
وكما في الدعاء المأثور عن على رضي الله عنه: جبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، والجبر ثابت بهذا التفسير.
فلما كان لفظ الجبر مجملاً، نهي الأئمة الأعلام عن إطلاق إثباته أو نفيه.
وكذلك لفظ [الرزق] فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمي هذا الرزق، كما في قوله تعالى :{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]، وقوله: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} [النحل:75]، وأمثال ذلك.
وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقوله عليه السلام في الصحيح " .
ولما كان لفظ الجبر والرزق ونحوهما فيها إجمال، منع الأئمة من إطلاق ذلك نفياً أو إثباتاً كما تقدم عن الأوزاعي وأبي إسحاق الفَزَاريّ وغيرهما من الأئمة.
وكذا لفظ [التأثير] فيه إجمال، فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصححة للفعل المتقدمة عليه، فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه، وعلة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له، فتلك علة للفعل وسبب تام، و معلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعني أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لابد من أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء.
وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك، فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين: أحدهما: فاعل؛ كالنار.
والثاني: قابل؛ كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس، فإن شعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة، كالوجود المجرد عن الصفات، وكالعقول المجردة، وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها، وكالمادة والصورة العقليين، وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج، بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام، فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج، وكذلك الجوهر كما قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا: أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع وكل ذلك بخلق الله تعالى فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون، ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [ فاطر:2]، {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ :22- 23]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
فإذا عرف ما في لفظ [التأثير] من الإجمال والاشتراك، ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين، فمن قال: إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية للإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وأن العبد إذا فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل، فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء: فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلاً بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث، فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل إثبات الصانع.
ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر، سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسألة إحداث العالم: إن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضي الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح، أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه، وأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام .
والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة، وتجويز هذا يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب، والترجيح بلا مرجح، و ذلك يسد باب إثبات الصانع.
ثم إن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر، وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لابد له من محدث مرجح تام غير العبد، فإن ما كان من العبد فهو محدث أيضاً، وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد، وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية والمعتزلة، لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالي، وادعوا هناك أن البديهة فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات، فإن كان هذا الفرق صحيحاً، بطلت حجتهم على المعتزلة ولم يبطل قول القدرية، وإن كان باطلاً، بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم، وهذا هو الباطل في نفس الأمر، فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه، وهو عام لا تخصيص فيه، فالفرق المذكور باطل، وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم، وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث.
ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز.
قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوي والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم.
ثم إن هؤلاء يقولون: لا ينبغي للإنسان أن يقول: إنه شبع بالخبز، وروي بالماء، يقول: شبعت عنده ورويت عنده؛ فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة، لا بها، وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية [الأعراف: 57]، وقال تعالي: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقال تعالي: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، وقال: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]، وقال تعالي: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:99]، وقال تعالى :{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر:27]، وقال تعالي: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:10- 11]، وقال تعالي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً}إلي قوله:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26]، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة:15- 16] ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله" ، وقال صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذا كثير.
ونظير هؤلاء، الذين أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله، من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله، كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات، إن كان مقدراً حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدراً لم يحصل بذلك، وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال .
وفي السنن أنه قيل ؛ ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.
والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان هذا مقدراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل، جوابه أنه مقدر بالسبب وليس مقدراً بدون السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق .
فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به، وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به، كما قال صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة، وجميع السيئات تغفر بالتوبة، ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب، أو صلى وأحدث عمداً قبل كمال الصلاة بطل عمله.
وبالجملة، فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه، فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية، كما قال في الآية الأولي: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وقال نوح عليه السلام: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، وقال تعالى في الإرادة الدينية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6].
وهم مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه خلق الأشياء بقدرته ومشيئته، يقرون بأنه لا إله إلا هو، لا يستحق العبادة غيره، ويطيعونه ويطيعون رسله، ويحبونه ويرجونه ويخشونه، ويتكلون عليه، وينيبون إليه، ويوالون أولياءه، ويعادون أعداءه، ويقرون بمحبته لما أمر به ولعباده المؤمنين ورضاه بذلك، وبغضه لما نهي عنه، وللكافرين وسخطه لذلك ومقته له، ويقرون بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من .
فهو إلههم الذي يعبدونه وربهم الذي يسألونه كما قال تعالي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5]، فهو المعبود المستعان، والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب محبوبه كما قال تعالي: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، وكل ما يحبونه سواه، فإنما يحبونه لأجله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ، وفي الترمذي وغيره .
وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال ، وقال ، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ.
وأنكرت الجهمية ومن اتبعهم محبته، وأول من أنكر ذلك الجَعْد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان فضحي به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسي تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً.
ثم نزل فذبحه.
وهذا أصل ملة إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس؛ قال تعالي: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124]، وقال:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125].
ومن قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه، فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته، فمن أحب الله نفسه، أحب التقرب إليه، ومن كان لا يحبه نفسه، امتنع أن يحب التقرب إليه، وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر، فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله، وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " .
فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به، ومحبة النظر إليه تبع لمحبته، فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله، وطمأنينة بذكره وتنعماً بمعرفته، ولذة وسروراً بذكره ومناجاته، وذلك يقوي ويضعف، ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق، فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول .
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم سبحانه وتعالى وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فقد بين: أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله، وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعاً لحب نفسه.
فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه، فهم لا يحصون ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال .
وقال له الأسود بن سَرِيع: إني حمدت ربي بمحامد فقال ، فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له، ويحب ثناءهم عليه، وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه، وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه، فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد، وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ} [الزمر:67]، قال ، وفي رواية ، فهو يحمد نفسه ويثني عليها، ويمجد نفسه سبحانه وتعالي، وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره، بل كل ما سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين ونحو ذلك، لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهو الذي هداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به.
فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته و خلقه، فله الملك لا شريك له، وله الحمد في الأولي والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها.
قالوا: وقول القائل: إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره، فيكون ناقصاً قبل ذلك، عنه أجوبة: أحدها: أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله.
الثاني: أنهم قالوا: كماله أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة، فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً.
الثالث: قول القائل: إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك .
فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل: كمل بصفاته أو كمل بذاته.
الرابع: قول القائل: كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم أن عدمه قبل الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع، بل يقال: عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده فيه كمال، فليس عدم كل شيء نقصاً، بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص، لا أن عدمها هو النقص؛ ولهذا كان الرب تعالى موصوفاً بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله، وموصوفاً بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضاً، فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال، وإذا عقل مثل هذا في الصفات، فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصاً في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات، والإنسان قد يكون وجود أشياء في حقه في وقت نقصاً وعيباً، وفي وقت آخر كمالاً ومدحاً في حقه، كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له.
الخامس: أنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة، ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل. أن القادر على ذلك أكمل، مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل، وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال، وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال، إذ عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال من الكمال.
ثم هم هنا ثلاث فرق: فرقة تقول: إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم، ولم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمنا،ولم يزل ساخطاً على من علم أنه يموت كافراً، كما يقول ذلك من يقوله من الكلاَّبيَّةِ وأهل الحديث والفقهاء والصوفية، فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث؛ لكن يعارضهم الأكثرون الذي ينازعونهم في الحكمة المحبوبة، كما ينازعونهم في الإرادة، فإنهم قالوا لهم: إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء، فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول، تخصيص بلا مخصص.
قال أولئك: الإرادة من شأنها أن تخصص، قال لهم المعارضون: من شأنها جنس التخصيص، وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة، بل لابد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر.
والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته، ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص، وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه، امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله، فإن هذا ترجيح بلا مرجح، ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع، قالوا: ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة، وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته.
وهكذا يقول لهم الجمهور: إذا كان الله تعالى راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه، فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل؟ فإن قلتم: لم يحصل إلا ما كان في الأزل، قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات، فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك، فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تعالى يتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها، قالوا: فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها.
والفرقة الثانية قالوا: إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته. قالوا: وإن قام ذلك بذاته، فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله بذاته.
والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضاً والأفعال حوادث، ويقولون: لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث، فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله تعالى عن النقائص والعيوب والآفات، ولا ريب أن الله يجب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته، منزه عن كل نقص تنزيهاً لا يدرك الخلق كماله، وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص، فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه.
روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي جعفر الطبري، وأبي بكر البيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{الصَّمَدٍُ} قال: السيد الذي قد كمل في سُؤْدَده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد،وهو الله عز وجل ،هذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار.
وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال: إنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف، وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: الصمد: الكامل في صفاته وأفعاله.
وثبت عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة أنه قال: الصمد: السيد الذي انتهى سؤدده.
وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف، كسعيد بن المسيب وسعيد ابن جُبَيْر ومجاهد والحسن والسُّدِّي والضحاك وغيرهم، من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه موقوفاً أو مرفوعاً، فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
ولفظ الأعراض في اللغة، قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات، قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور؟ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم: هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله، فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجىء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله.
وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك، ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال، ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في الفعل القديم ويقول: إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثاً، كما يقول في نظير ذلك من يقوله في الإرادة، وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكور في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور.
وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس: إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل، قالوا: القول في حدوث هذه الحكمة كالقول في حدوث سائر ما أحدثه من المفعولات، ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه أحدث المحدثات بعد أن لم تكن، فإذا قلنا: إنه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له: القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول المستعقب للحكمة، فما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا.
فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث من أئمة الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام : هذه حجة جدلية إلزامية ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب، وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفي هذا التسلسل، بل التسلسل نوعان، والدور نوعان:
أحدهما: التسلسل في العلل والمعلولات، فهذا ممتنع وفاقاً.
والثاني: التسلسل في الشروط والآثار، فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم.
وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا، ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها.
وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي أدلة ضعيفة، كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة إحداهما، وكدليل الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل، وبعقود الأعداد، وبمعلومات الله مع مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه.
والدور نوعان: فالدور القبلي السبقي ممتنع: وهو ألا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا يوجد هذا إلا بعد هذا وهذا دور العلل، وأما الدور المعي الاقتراني: وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذا، فهذا هو الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايفات و المتلازمات، ومثل هذا جائز.
فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال. وهي عدة أقوال: الأول: قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه.
والثاني: قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاته.
والثالث: قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به قديمة.
والرابع: قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته، لكن يقول: جنسها حادث.
والخامس: قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته.
فإن كان الفعل المقتضى للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً وإن كانت آحاده حادثة.
ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر، بأن يقال: لا ريب أن الله عز وجل يحدث مفعولات لم تكن، فأما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في الانتهاء، فإن وجب أن يكون لها ابتداء، أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها، فإذا قال القائل: لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل، كان جوابه على هذا التقدير: أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين، ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة، إلا إذا جاز ألا يكون للحوادث ابتداء، فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال، فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء؟!
وإن قيل: يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء، كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الملل وجمهور الخلق، ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان، أو بفناء حركات أهل الجنة، كما يقوله أبو الهذيل، فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجب أن يكون لها عندهم ابتداء، وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا: لها ابتداء وليس لها انتهاء.
والطائفة الثالثة قالت: ليس لها ابتداء ولا انتهاء.
والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين.
والمقصود هنا: أن الجواب يحصل على التقديرين، فمن جوز ألا يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث، وقال: هذا تسلسل في الآثار والشروط، لا تسلسل في العلل والمؤثرات، والممتنع إنما هو الثاني دون الأول، وقال: إنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، ومتقدمي أهل الحديث ومتأخريهم، ومن أوجب أن يكون لها ابتداء، قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول؛ إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى.
ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال: خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا، فإن لم يجز تعليله، كان هذا هو التقرير الأول. وعلى هذا التقدير فلا يسمى هذا عبثاً، وإذا سماه المسمى عبثاً؛ لم تكن تسميته عبثاً قدحاً فيما تحقق، فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل، وإذا كان التعليل ممتنعاً وجب القول به، ولو سماه المسمى بأي شيء سماه، وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما ألا يجوز، فإن قيل: لا يجوز ذلك، لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول؛ فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة، وإن قيل: يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك.
ثم إما أن يقال: يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة، وإن كانت مقدورة مرادة له.
فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه، ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن لعلة حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث، ولا قيام حادث بالمحدث.
وإن قيل: بل لا يجوز أن يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه، بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك.
ثم إما أن يقال: هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه، فإن قيل: لا يستلزمه لم يكن التسلسل لازماً فاندفع المحذور، وإن قيل: إن التسلسل لازم لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذوراً؛ لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة، وإن ذلك يستلزم التسلسل.
ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعاً، فإنه لو استلزم ممتنعاً لكان ممتنعاً بغيره، وإن كان جائزاً بنفسه، والتقدير أنه جائز جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه، وما كان جائزاً جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته، فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع
. فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه، بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور، ولكن السؤال مبني على ست مقدمات: لزوم العبث، وأنه منتف، ولزوم قدم المفعول، وأنه منتف، ولزوم التسلسل، وأنه منتف.
فصاحب القول الأول يقول: لا أسلم أنه يلزم العبث، وصاحب القول الثاني يقول: لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول، وصاحب القول الثالث يقول: لا أسلم أنه يلزم التسلسل، أو يقول: لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع، فهذه أربع ممانعات لابد منها.
ويمتنع أن تكون كلها فاسدة، بل لابد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع به السؤال وهو المقصود؛ وذلك لأن القسمة العقلية تحصر الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به، ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسألة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين، فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم، وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم.
ومن جملة أجوبتهم أن يقال: هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم، بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث، والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء، فكل ما يورده المورد على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة.
وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام، لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق، ولا يحتمله هذا المقام.
ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها؛ فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله سبحانه أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.
وأما من قال: خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل :إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد وعلي هذا تزول الشبهة؛ فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة.
ومعني قبحها: كونها ضارة لفاعلها، وسبباً لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره.
ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون: له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة، كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم، ومن يقول: لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا.
يوضح ذلك أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمي ومرضاً وجوعاً وعطشاً ووصباً ونصباً و نحو ذلك، كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم.
فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذي والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك.
فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك، هي أمور ضارة مكروهة مؤذية.
وهذا معني كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسوء أيضاً غيره وتضره، كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره.
يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء، كما في قوله تعالى :{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 50] ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزي عليها ويستحق الذم عليها والعقاب، وهي مخلوقة لله تعالى فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه، وإن افترقا من وجه آخر، وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلا لله دون هذا، وهذا فعلا للعبد دون هذا، ولكن يقولون: إن هذا يحسن من الله تعالى لكونه جزاء للعبد، وذلك لا يحسن منه لكونه ابتداء للعبد بما يضره وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق، أو عوض لاحق.
وأما أهل الإثبات للقدر، فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق.
وأما القائلون بالحكمة وهم الجمهور فيقولون: لله تعالى فيما يخلقه من أذي الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا، ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض، فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس، وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله.
والمعتزلة مُشَبِّهَة في الأفعال مُعَطِّلَة في الصفات، ومن أصولهم الفاسدة: أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم؛ إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به فيسمونه به، ويصفونه بما يخلقه في العالم، مثل قولهم: هو متكلم بكلام يخلقه في غيره، ومريد بإرادة يحدثها لا في محل.
وقولهم: إن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب، وقولهم: إنه لو كان خالقاً لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب، وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة، ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة عليهم، لاسيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله تعالى وأنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلاماً له، فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة، وإنطاقه للجبال والحصي بالتسبيح، وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلاماً له، وإذا كان خالقاً لكل شيء كان كل كلام موجود كلامه، وهذا قول الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله، ولهذا يقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
وقد علم بصريح المعقول: أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل كان هو المريد المحب المبغض.
وإذا خلق فعلا لعبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً وظلماً وكفراً كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج.
والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون: إن خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض، بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله؛ فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية والقدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل: إن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه، فقالوا: إذا قلتم إن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالي، فإنه يسمي عادلا يعدل خلقه في غيره، محسناً بإحسان خلقه في غيره، فكذا يسمي متكلماً بكلام خلقه في غيره.
والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل، ويقولون: إنما كان عادلاً بالعدل الذي قام بنفسه، ومحسناً بالإحسان الذي قام بنفسه. وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك، كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته، وأما ما يخلقه من الرحمة فهو أثر تلك الرحمة، واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي مسمي المصدر، ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمي المفعول؛ كلفظ [الخلق] يقع تارة على الفعل وعلي المخلوق أخري، والرحمة تقع على هذا وهذا، وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمراً، ويقع على المفعول تارة كقوله تعالي: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] وكذلك لفظ [العلم] يقع على المعلوم و [القدرة ] تقع على المقدور ونظائر هذا متعددة.
وقد استدل الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله عليه السلام ونحو ذلك وقالوا: الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبر هذا الباب ونحوه وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق من المنتسبين إلى السنة والهدي إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخري وضلال آخر، لا سيما إذا وافقوهم على ذلك، فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك، ويطلبون لوازمه، حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين، كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين.
والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم في أن كلام الله غير مخلوق، وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واستطالوا عليهم بذلك في [مسألة القدر]، واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلا لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له، فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل؛ ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا، ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طَفْرَة النَظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسْب الأشعري.
واضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي، والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثراً في هذا بأولي من العكس، ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا تتجاوز محلها، ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول، وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول، وأبو المعالي الجويني إلى قول؛ لما رأوا ما في هذا القول من التناقض، والكلام على هذا مبسوط في موضعه، والمقصود هنا التنبيه.
ومن النكت في هذا الباب أن لفظ [التأثير] ولفظ [الجبر] ولفظ [الرزق] ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل: هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا؟ قيل له أولا: لفظ القدرة يتناول نوعين:
أحدهما: القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي.
والثاني: القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولي هي المذكورة في قوله تعالي:{وَلِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل، لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصياً بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين" ، وكذا قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله صلى الله عليه وسلم لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لكان قد قال: فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئاً عاصياً له، وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا هذه، ويقولون: الاستطاعة لابد أن تكون قبل الفعل، ومنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل، وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون، فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر: إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه، أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي.
وعلي هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة، وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها، فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل، فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين.
وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم؟ فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى :{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فكل من أمره الله ونهاه، فهو مستطيع بهذا الاعتبار، وإن علم أنه لا يطيعه، وإن أريد بالقدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول، فمن علم أنه لا يفعل الفعل، لم تكن هذه القدرة ثابتة له.
ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر، والإرادة، هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد؟ فإن الإرادة لفظ فيه إجمال.
يراد بالإرادة: الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث، كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكقوله تعالي: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وقول نوح عليه السلام : {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، ولا ريب أن الله يأمر العباد بما لا يريده بهذا التفسير والمعني، كما قال تعالي: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه قد أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إن شاء الله، أو ليردن وديعته أو غصبه، أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله، ونحو ذلك مما أمره الله به، فإنه إذا لم يفعل المحلوف عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله: إن شاء الله، فعلم أن الله لم يشأه مع أمره به.
وأما الإرادة الدينية، فهي بمعني المحبة والرضا، وهي ملازمة للأمر كقوله تعالي: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئاً لا يريده الله إذا كان يفعل بعض الفواحش أي أنه لا يحبه ولا يرضاه، بل ينهي عنه ويكرهه.
وكذلك لفظ [الجبر] فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه، كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضا، والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتبار، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات؛ كقول محمد بن كعب القُرَظِيّ: الجبار: الذي جبر العباد على ما أراد.
وكما في الدعاء المأثور عن على رضي الله عنه: جبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، والجبر ثابت بهذا التفسير.
فلما كان لفظ الجبر مجملاً، نهي الأئمة الأعلام عن إطلاق إثباته أو نفيه.
وكذلك لفظ [الرزق] فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه، فلا يدخل الحرام في مسمي هذا الرزق، كما في قوله تعالى :{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]، وقوله: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} [النحل:75]، وأمثال ذلك.
وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقوله عليه السلام في الصحيح " .
ولما كان لفظ الجبر والرزق ونحوهما فيها إجمال، منع الأئمة من إطلاق ذلك نفياً أو إثباتاً كما تقدم عن الأوزاعي وأبي إسحاق الفَزَاريّ وغيرهما من الأئمة.
وكذا لفظ [التأثير] فيه إجمال، فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصححة للفعل المتقدمة عليه، فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه، وعلة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له، فتلك علة للفعل وسبب تام، و معلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعني أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء ونحو ذلك، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لابد من أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء.
وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك، فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين: أحدهما: فاعل؛ كالنار.
والثاني: قابل؛ كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس، فإن شعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة، كالوجود المجرد عن الصفات، وكالعقول المجردة، وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها، وكالمادة والصورة العقليين، وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج، بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام، فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج، وكذلك الجوهر كما قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا: أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع وكل ذلك بخلق الله تعالى فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون، ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [ فاطر:2]، {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ :22- 23]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
فإذا عرف ما في لفظ [التأثير] من الإجمال والاشتراك، ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين، فمن قال: إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية للإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وأن العبد إذا فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل، فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء: فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلاً بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث، فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل إثبات الصانع.
ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر، سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسألة إحداث العالم: إن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضي الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح، أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه، وأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام .
والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة، وتجويز هذا يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب، والترجيح بلا مرجح، و ذلك يسد باب إثبات الصانع.
ثم إن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر، وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لابد له من محدث مرجح تام غير العبد، فإن ما كان من العبد فهو محدث أيضاً، وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد، وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية والمعتزلة، لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالي، وادعوا هناك أن البديهة فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات، فإن كان هذا الفرق صحيحاً، بطلت حجتهم على المعتزلة ولم يبطل قول القدرية، وإن كان باطلاً، بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم، وهذا هو الباطل في نفس الأمر، فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه، وهو عام لا تخصيص فيه، فالفرق المذكور باطل، وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم، وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث.
ومن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز.
قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوي والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم.
ثم إن هؤلاء يقولون: لا ينبغي للإنسان أن يقول: إنه شبع بالخبز، وروي بالماء، يقول: شبعت عنده ورويت عنده؛ فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة، لا بها، وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية [الأعراف: 57]، وقال تعالي: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقال تعالي: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، وقال: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]، وقال تعالي: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:99]، وقال تعالى :{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر:27]، وقال تعالي: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:10- 11]، وقال تعالي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً}إلي قوله:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26]، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة:15- 16] ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله" ، وقال صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذا كثير.
ونظير هؤلاء، الذين أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله، من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله، كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات، إن كان مقدراً حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدراً لم يحصل بذلك، وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال .
وفي السنن أنه قيل ؛ ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.
والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان هذا مقدراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل، جوابه أنه مقدر بالسبب وليس مقدراً بدون السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق .
فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به، وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به، كما قال صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة، وجميع السيئات تغفر بالتوبة، ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب، أو صلى وأحدث عمداً قبل كمال الصلاة بطل عمله.
وبالجملة، فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه، فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية، كما قال في الآية الأولي: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وقال نوح عليه السلام: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، وقال تعالى في الإرادة الدينية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6].
وهم مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه خلق الأشياء بقدرته ومشيئته، يقرون بأنه لا إله إلا هو، لا يستحق العبادة غيره، ويطيعونه ويطيعون رسله، ويحبونه ويرجونه ويخشونه، ويتكلون عليه، وينيبون إليه، ويوالون أولياءه، ويعادون أعداءه، ويقرون بمحبته لما أمر به ولعباده المؤمنين ورضاه بذلك، وبغضه لما نهي عنه، وللكافرين وسخطه لذلك ومقته له، ويقرون بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من .
فهو إلههم الذي يعبدونه وربهم الذي يسألونه كما قال تعالي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5]، فهو المعبود المستعان، والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب محبوبه كما قال تعالي: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، وكل ما يحبونه سواه، فإنما يحبونه لأجله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ، وفي الترمذي وغيره .
وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال ، وقال ، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ.
وأنكرت الجهمية ومن اتبعهم محبته، وأول من أنكر ذلك الجَعْد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان فضحي به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسي تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً.
ثم نزل فذبحه.
وهذا أصل ملة إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس؛ قال تعالي: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124]، وقال:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125].
ومن قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه، فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته، فمن أحب الله نفسه، أحب التقرب إليه، ومن كان لا يحبه نفسه، امتنع أن يحب التقرب إليه، وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر، فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله، وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " .
فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به، ومحبة النظر إليه تبع لمحبته، فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله، وطمأنينة بذكره وتنعماً بمعرفته، ولذة وسروراً بذكره ومناجاته، وذلك يقوي ويضعف، ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق، فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول .
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم سبحانه وتعالى وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فقد بين: أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله، وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعاً لحب نفسه.
فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه، فهم لا يحصون ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال .
وقال له الأسود بن سَرِيع: إني حمدت ربي بمحامد فقال ، فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له، ويحب ثناءهم عليه، وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه، وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه، فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد، وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ} [الزمر:67]، قال ، وفي رواية ، فهو يحمد نفسه ويثني عليها، ويمجد نفسه سبحانه وتعالي، وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره، بل كل ما سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين ونحو ذلك، لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهو الذي هداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به.
فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته و خلقه، فله الملك لا شريك له، وله الحمد في الأولي والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها.
قالوا: وقول القائل: إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره، فيكون ناقصاً قبل ذلك، عنه أجوبة: أحدها: أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله.
الثاني: أنهم قالوا: كماله أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة، فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً.
الثالث: قول القائل: إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك .
فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل: كمل بصفاته أو كمل بذاته.
الرابع: قول القائل: كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم أن عدمه قبل الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع، بل يقال: عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده فيه كمال، فليس عدم كل شيء نقصاً، بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص، لا أن عدمها هو النقص؛ ولهذا كان الرب تعالى موصوفاً بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله، وموصوفاً بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضاً، فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال، وإذا عقل مثل هذا في الصفات، فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصاً في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات، والإنسان قد يكون وجود أشياء في حقه في وقت نقصاً وعيباً، وفي وقت آخر كمالاً ومدحاً في حقه، كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له.
الخامس: أنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة، ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل. أن القادر على ذلك أكمل، مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل، وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال، وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال، إذ عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال من الكمال.
ثم هم هنا ثلاث فرق: فرقة تقول: إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم، ولم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمنا،ولم يزل ساخطاً على من علم أنه يموت كافراً، كما يقول ذلك من يقوله من الكلاَّبيَّةِ وأهل الحديث والفقهاء والصوفية، فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث؛ لكن يعارضهم الأكثرون الذي ينازعونهم في الحكمة المحبوبة، كما ينازعونهم في الإرادة، فإنهم قالوا لهم: إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء، فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول، تخصيص بلا مخصص.
قال أولئك: الإرادة من شأنها أن تخصص، قال لهم المعارضون: من شأنها جنس التخصيص، وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة، بل لابد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر.
والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته، ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص، وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه، امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله، فإن هذا ترجيح بلا مرجح، ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع، قالوا: ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة، وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته.
وهكذا يقول لهم الجمهور: إذا كان الله تعالى راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه، فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل؟ فإن قلتم: لم يحصل إلا ما كان في الأزل، قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات، فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك، فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تعالى يتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها، قالوا: فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها.
والفرقة الثانية قالوا: إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته. قالوا: وإن قام ذلك بذاته، فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله بذاته.
والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضاً والأفعال حوادث، ويقولون: لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث، فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله تعالى عن النقائص والعيوب والآفات، ولا ريب أن الله يجب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته، منزه عن كل نقص تنزيهاً لا يدرك الخلق كماله، وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص، فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه.
روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي جعفر الطبري، وأبي بكر البيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{الصَّمَدٍُ} قال: السيد الذي قد كمل في سُؤْدَده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد،وهو الله عز وجل ،هذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار.
وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال: إنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف، وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: الصمد: الكامل في صفاته وأفعاله.
وثبت عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة أنه قال: الصمد: السيد الذي انتهى سؤدده.
وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف، كسعيد بن المسيب وسعيد ابن جُبَيْر ومجاهد والحسن والسُّدِّي والضحاك وغيرهم، من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه موقوفاً أو مرفوعاً، فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
ولفظ الأعراض في اللغة، قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات، قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور؟ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم: هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله، فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجىء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله.
وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك، ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال، ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في الفعل القديم ويقول: إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثاً، كما يقول في نظير ذلك من يقوله في الإرادة، وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكور في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور.
وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس: إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن، لزمكم التسلسل، قالوا: القول في حدوث هذه الحكمة كالقول في حدوث سائر ما أحدثه من المفعولات، ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه أحدث المحدثات بعد أن لم تكن، فإذا قلنا: إنه أحدثها بحكمة حادثة، لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له: القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول المستعقب للحكمة، فما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا.
فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث من أئمة الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام : هذه حجة جدلية إلزامية ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب، وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفي هذا التسلسل، بل التسلسل نوعان، والدور نوعان:
أحدهما: التسلسل في العلل والمعلولات، فهذا ممتنع وفاقاً.
والثاني: التسلسل في الشروط والآثار، فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم.
وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا، ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها.
وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي أدلة ضعيفة، كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة إحداهما، وكدليل الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل، وبعقود الأعداد، وبمعلومات الله مع مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه.
والدور نوعان: فالدور القبلي السبقي ممتنع: وهو ألا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا يوجد هذا إلا بعد هذا وهذا دور العلل، وأما الدور المعي الاقتراني: وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذا، فهذا هو الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايفات و المتلازمات، ومثل هذا جائز.
فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال. وهي عدة أقوال: الأول: قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه.
والثاني: قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاته.
والثالث: قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به قديمة.
والرابع: قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته، لكن يقول: جنسها حادث.
والخامس: قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته.
فإن كان الفعل المقتضى للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً وإن كانت آحاده حادثة.
ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر، بأن يقال: لا ريب أن الله عز وجل يحدث مفعولات لم تكن، فأما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في الانتهاء، فإن وجب أن يكون لها ابتداء، أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها، فإذا قال القائل: لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل، كان جوابه على هذا التقدير: أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين، ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة، إلا إذا جاز ألا يكون للحوادث ابتداء، فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال، فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء؟!
وإن قيل: يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء، كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الملل وجمهور الخلق، ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان، أو بفناء حركات أهل الجنة، كما يقوله أبو الهذيل، فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجب أن يكون لها عندهم ابتداء، وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا: لها ابتداء وليس لها انتهاء.
والطائفة الثالثة قالت: ليس لها ابتداء ولا انتهاء.
والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين.
والمقصود هنا: أن الجواب يحصل على التقديرين، فمن جوز ألا يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث، وقال: هذا تسلسل في الآثار والشروط، لا تسلسل في العلل والمؤثرات، والممتنع إنما هو الثاني دون الأول، وقال: إنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم، ومتقدمي أهل الحديث ومتأخريهم، ومن أوجب أن يكون لها ابتداء، قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول؛ إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى.
ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال: خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا، فإن لم يجز تعليله، كان هذا هو التقرير الأول. وعلى هذا التقدير فلا يسمى هذا عبثاً، وإذا سماه المسمى عبثاً؛ لم تكن تسميته عبثاً قدحاً فيما تحقق، فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل، وإذا كان التعليل ممتنعاً وجب القول به، ولو سماه المسمى بأي شيء سماه، وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما ألا يجوز، فإن قيل: لا يجوز ذلك، لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول؛ فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة، وإن قيل: يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك.
ثم إما أن يقال: يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة، وإن كانت مقدورة مرادة له.
فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه، ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن لعلة حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث، ولا قيام حادث بالمحدث.
وإن قيل: بل لا يجوز أن يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه، بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك.
ثم إما أن يقال: هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه، فإن قيل: لا يستلزمه لم يكن التسلسل لازماً فاندفع المحذور، وإن قيل: إن التسلسل لازم لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذوراً؛ لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة، وإن ذلك يستلزم التسلسل.
ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعاً، فإنه لو استلزم ممتنعاً لكان ممتنعاً بغيره، وإن كان جائزاً بنفسه، والتقدير أنه جائز جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه، وما كان جائزاً جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته، فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع
. فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه، بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور، ولكن السؤال مبني على ست مقدمات: لزوم العبث، وأنه منتف، ولزوم قدم المفعول، وأنه منتف، ولزوم التسلسل، وأنه منتف.
فصاحب القول الأول يقول: لا أسلم أنه يلزم العبث، وصاحب القول الثاني يقول: لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول، وصاحب القول الثالث يقول: لا أسلم أنه يلزم التسلسل، أو يقول: لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع، فهذه أربع ممانعات لابد منها.
ويمتنع أن تكون كلها فاسدة، بل لابد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع به السؤال وهو المقصود؛ وذلك لأن القسمة العقلية تحصر الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به، ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسألة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين، فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم، وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم.
ومن جملة أجوبتهم أن يقال: هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم، بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث، والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء، فكل ما يورده المورد على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة.
وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام، لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق، ولا يحتمله هذا المقام.
ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب، وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها؛ فلهذا يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر دليل كل قول، ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله سبحانه أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.