أو كان فاللازم من كونه *** حدوثه والقول مهجور
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: أو كان فاللازم من كونه *** حدوثه والقول مهجور
الإجابة: فصــل:
وقوله:
أو كان فاللازم من كونه ** حدوثه والقول مهجور
كأنه يريد والله أعلم لو كان الله مقدراً لها عالما بها، فيلزم من كونه عالما بها مقدراً لها، بعد أن تكون حدوث العلم بها بعد أن كانت، ويلزم ألا يكون الرب عالما بأفعال العباد، ولا مقدراً لها حتى فعلت، وهذا القول مهجور باطل، مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده.
فإن الله قد أخبر عما يكون من أفعال العباد قبل أن تكون، بل أعلم بذلك من شاء من ملائكته وغير ملائكته، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فالملائكة حكموا بأن الآدميين يفسدون، ويسفكون الدماء قبل أن يخلق الإنس ولا علم لهم إلا ما علمهم الله، كما قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، ثم قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وتضمن هذا ما يكون فيما بعد من آدم، وإبليس وذريتهما، وما يترتب على ذلك.
ودلت هذه الآية على أنه يعلم أن آدم يخرج من الجنة فإنه لولا خروجه من الجنة لم يصر خليفة في الأرض فإنه أمره أن يسكن الجنة، ولا يأكل من الشجرة، بقوله: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]، وقال تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117-119]، نهاه أن يخرجها من الجنة، وهو نهي عن طاعة إبليس التي هي سبب الخروج، وقد علم قبل ذلك أنه يخرج من الجنة، وأنه إنما يخرج منها بسبب طاعته إبليس، وأكله من الشجرة؛ لأنه قال قبل ذلك: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
ولهذا قال من قال من السلف: إنه قدر خروجه من الجنة قبل أن يأمره بدخولها بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وقال بعد هذا: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24- 25]، وهذا خبر عما سيكون من عداوة بعضهم بعضاً وغير ذلك، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96- 97]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وهذا خبر عن المستقبل، وأنهم لا يؤمنون.
وقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وهذا قسم منه على ذلك، وهو الصادق البار في قسمه، وصدقه مستلزم لعلمه بما أقسم عليه، وهو دليل على أنه قادر على ذلك.
وقد يستدل به على أنه خالق أفعال العباد؛ إذ لو كانت أفعالهم غير مقدورة له لم يمكنه أن يملأ جهنم، بل كان ذلك إليهم إن شاؤوا عصوه فملأها، وإن شاءوا أطاعوه فلم يملأها.
لكن قد يقال: إنه علم أنهم يعصونه، فأقسم على جزائهم على ذلك، وقد يجاب عن ذلك بأن علمه بالمستقبل قبل أن يكون مستلزم لخلقه له، فإنه سبحانه لا يستفيد العلم من غيره، كالملائكة والبشر، ولكن علمه من لوازم نفسه، فلو كانت أفعاله خارجة عن مقدوره ومراده لم يجب أن يعلمها كما يعلم مخلوقاته. وبسط هذا له موضع آخر.
وقال تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]، وهذا خبر عما سيكون منهم من الذنوب قبل أن يفعلوها. وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وهذا خبر عن دعاء من يدعوهم إلى جهاد هؤلاء؛ ودعاؤه لهم من جملة أفعال العباد، ومثل هذا في القرآن كثير.
بل العلم بالمستقبل من أفعال العباد يحصل لآحاد المخلوقين من الملائكة، والأنبياء وغيرهم، فكيف لا يكون حاصلا لرب العالمين؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما سيكون من الأفعال المستقبلة من أمته، وغير أمته مما يطول ذكره، كإخباره بأن ابنه الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإخباره بأنه تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وإخباره بأن قوماً يرتدون بعده على أعقابهم، وإخباره بأن خلافة النبوة تكون ثلاثين سنة ثم تصير ملكاً، وإخباره بأن الجبل ليس عليه إلا نبي وصديق وشهيد، وكان أكثرهم شهداء وإخباره يوم بدر بقتل صناديد قريش قبل أن يقتلوا، وإخباره بخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقتل عيسى عليه السلام له على باب لد.
وإخباره بخروج يأجوج ومأجوج، وإخباره بخروج الخوارج الذين قال فيهم ، وكان الأمر كما أخبر به لما قاتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، ووجد هذا الشخص كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم. وإخباره بقتال الترك وصفتهم حيث قال .
وقد قاتل المسلمون هؤلاء الترك، وغيرهم لما ظهروا، ومثل هذا من أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم أكثرمن أن تذكر وهو إنما يعلم ما علمه الله وإذا كان هو يعلم كثيراً مما يكون من أعمال العباد، فكيف الذي خلقه وعلمه ما لم يكن يعلم.
وهو سبحانه لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء ولا يعلم أحد لا نبي ولا غيره إلا ما علمه الله، وقال الخضر لموسى: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ولما نقر العصفور في البحر قال له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وهو سبحانه القائل في حق موسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
والمقصود أن نفى علم الله بالحوادث أفعال العباد وغيرها قبل أن تكون باطل، وغلاة القدرية ينفون ذلك.
وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12]، ونحو ذلك، فهذا هو العلم الذي يتعلق، بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم، والثواب والعقاب، والأول هو العلم بأنه سيكون، ومجرد ذلك العلم لا يترتب عليه مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فإن هذا إنما يكون بعد وجود الأفعال.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال في هذا: لنرى، وكذلك المفسرون قالوا: لنعلمه موجوداً بعد أن كنا نعلم أنه سيكون، وهذا المتجدد فيه قولان مشهوران للنظار:
منهم من يقول: المتجدد هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم فقط، وتلك نسبة عدمية.
ومنهم من يقول: بل المتجدد علم بكون الشيء ووجوده، وهذا العلم غير العلم بأنه سيكون، وهذا كما في قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، فقد أخبر بتجدد الرؤية، فقيل نسبة عدمية، وقيل المتجدد أمر ثبوتي. والكلام على القولين، ومن قال هذا وهذا، وحجج الفريقين قد بسط في موضع آخر.
وعامة السلف وأئمة السنة والحديث، على أن المتجدد أمر ثبوتي كما دل عليه النص، وهذا مما هجر أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي على نفيه، فإنه كان يقول بقول ابن كلاب فر من تجدد أمر ثبوتي، وقال بلوازم ذلك.
فخالف من نصوص الكتاب والسنة، وآثار السلف ما أوجب ظهور بدعة اقتضت أن يهجره الإمام أحمد، ويحذر منه، وقد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك.
والمتأخرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة على قولين: منهم من سلك طريقة ابن كلاب، وأتباعه، ومنهم من سلك طريقة أئمة السنة والحديث، وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا أن تقدم علم الله وكتابته لأعمال العباد حق، والقول بحدوث ذلك قول مهجور، كما قاله الناظم إن كان قد أراد ذلك، وليس في ذلك ما ينافي أمر الله ونهيه، فإن كونه خالقاً لأفعال العباد لا ينافى الأمر والنهي.
فكيف العلم المتقدم، وليس في ذلك ما يقتضى كون العبد مجبوراً لا قدرة له.
ولا فعل كما تقوله الجهمية المجبرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.
وقوله:
أو كان فاللازم من كونه ** حدوثه والقول مهجور
كأنه يريد والله أعلم لو كان الله مقدراً لها عالما بها، فيلزم من كونه عالما بها مقدراً لها، بعد أن تكون حدوث العلم بها بعد أن كانت، ويلزم ألا يكون الرب عالما بأفعال العباد، ولا مقدراً لها حتى فعلت، وهذا القول مهجور باطل، مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده.
فإن الله قد أخبر عما يكون من أفعال العباد قبل أن تكون، بل أعلم بذلك من شاء من ملائكته وغير ملائكته، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فالملائكة حكموا بأن الآدميين يفسدون، ويسفكون الدماء قبل أن يخلق الإنس ولا علم لهم إلا ما علمهم الله، كما قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، ثم قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وتضمن هذا ما يكون فيما بعد من آدم، وإبليس وذريتهما، وما يترتب على ذلك.
ودلت هذه الآية على أنه يعلم أن آدم يخرج من الجنة فإنه لولا خروجه من الجنة لم يصر خليفة في الأرض فإنه أمره أن يسكن الجنة، ولا يأكل من الشجرة، بقوله: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]، وقال تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117-119]، نهاه أن يخرجها من الجنة، وهو نهي عن طاعة إبليس التي هي سبب الخروج، وقد علم قبل ذلك أنه يخرج من الجنة، وأنه إنما يخرج منها بسبب طاعته إبليس، وأكله من الشجرة؛ لأنه قال قبل ذلك: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
ولهذا قال من قال من السلف: إنه قدر خروجه من الجنة قبل أن يأمره بدخولها بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وقال بعد هذا: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24- 25]، وهذا خبر عما سيكون من عداوة بعضهم بعضاً وغير ذلك، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96- 97]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وهذا خبر عن المستقبل، وأنهم لا يؤمنون.
وقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وهذا قسم منه على ذلك، وهو الصادق البار في قسمه، وصدقه مستلزم لعلمه بما أقسم عليه، وهو دليل على أنه قادر على ذلك.
وقد يستدل به على أنه خالق أفعال العباد؛ إذ لو كانت أفعالهم غير مقدورة له لم يمكنه أن يملأ جهنم، بل كان ذلك إليهم إن شاؤوا عصوه فملأها، وإن شاءوا أطاعوه فلم يملأها.
لكن قد يقال: إنه علم أنهم يعصونه، فأقسم على جزائهم على ذلك، وقد يجاب عن ذلك بأن علمه بالمستقبل قبل أن يكون مستلزم لخلقه له، فإنه سبحانه لا يستفيد العلم من غيره، كالملائكة والبشر، ولكن علمه من لوازم نفسه، فلو كانت أفعاله خارجة عن مقدوره ومراده لم يجب أن يعلمها كما يعلم مخلوقاته. وبسط هذا له موضع آخر.
وقال تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]، وهذا خبر عما سيكون منهم من الذنوب قبل أن يفعلوها. وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وهذا خبر عن دعاء من يدعوهم إلى جهاد هؤلاء؛ ودعاؤه لهم من جملة أفعال العباد، ومثل هذا في القرآن كثير.
بل العلم بالمستقبل من أفعال العباد يحصل لآحاد المخلوقين من الملائكة، والأنبياء وغيرهم، فكيف لا يكون حاصلا لرب العالمين؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما سيكون من الأفعال المستقبلة من أمته، وغير أمته مما يطول ذكره، كإخباره بأن ابنه الحسن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وإخباره بأنه تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وإخباره بأن قوماً يرتدون بعده على أعقابهم، وإخباره بأن خلافة النبوة تكون ثلاثين سنة ثم تصير ملكاً، وإخباره بأن الجبل ليس عليه إلا نبي وصديق وشهيد، وكان أكثرهم شهداء وإخباره يوم بدر بقتل صناديد قريش قبل أن يقتلوا، وإخباره بخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وقتل عيسى عليه السلام له على باب لد.
وإخباره بخروج يأجوج ومأجوج، وإخباره بخروج الخوارج الذين قال فيهم ، وكان الأمر كما أخبر به لما قاتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، ووجد هذا الشخص كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم. وإخباره بقتال الترك وصفتهم حيث قال .
وقد قاتل المسلمون هؤلاء الترك، وغيرهم لما ظهروا، ومثل هذا من أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم أكثرمن أن تذكر وهو إنما يعلم ما علمه الله وإذا كان هو يعلم كثيراً مما يكون من أعمال العباد، فكيف الذي خلقه وعلمه ما لم يكن يعلم.
وهو سبحانه لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء ولا يعلم أحد لا نبي ولا غيره إلا ما علمه الله، وقال الخضر لموسى: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، ولما نقر العصفور في البحر قال له: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وهو سبحانه القائل في حق موسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145].
والمقصود أن نفى علم الله بالحوادث أفعال العباد وغيرها قبل أن تكون باطل، وغلاة القدرية ينفون ذلك.
وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12]، ونحو ذلك، فهذا هو العلم الذي يتعلق، بالمعلوم بعد وجوده، وهو العلم الذي يترتب عليه المدح والذم، والثواب والعقاب، والأول هو العلم بأنه سيكون، ومجرد ذلك العلم لا يترتب عليه مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فإن هذا إنما يكون بعد وجود الأفعال.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال في هذا: لنرى، وكذلك المفسرون قالوا: لنعلمه موجوداً بعد أن كنا نعلم أنه سيكون، وهذا المتجدد فيه قولان مشهوران للنظار:
منهم من يقول: المتجدد هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم فقط، وتلك نسبة عدمية.
ومنهم من يقول: بل المتجدد علم بكون الشيء ووجوده، وهذا العلم غير العلم بأنه سيكون، وهذا كما في قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، فقد أخبر بتجدد الرؤية، فقيل نسبة عدمية، وقيل المتجدد أمر ثبوتي. والكلام على القولين، ومن قال هذا وهذا، وحجج الفريقين قد بسط في موضع آخر.
وعامة السلف وأئمة السنة والحديث، على أن المتجدد أمر ثبوتي كما دل عليه النص، وهذا مما هجر أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي على نفيه، فإنه كان يقول بقول ابن كلاب فر من تجدد أمر ثبوتي، وقال بلوازم ذلك.
فخالف من نصوص الكتاب والسنة، وآثار السلف ما أوجب ظهور بدعة اقتضت أن يهجره الإمام أحمد، ويحذر منه، وقد قيل: إن الحارث رجع عن ذلك.
والمتأخرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة على قولين: منهم من سلك طريقة ابن كلاب، وأتباعه، ومنهم من سلك طريقة أئمة السنة والحديث، وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا أن تقدم علم الله وكتابته لأعمال العباد حق، والقول بحدوث ذلك قول مهجور، كما قاله الناظم إن كان قد أراد ذلك، وليس في ذلك ما ينافي أمر الله ونهيه، فإن كونه خالقاً لأفعال العباد لا ينافى الأمر والنهي.
فكيف العلم المتقدم، وليس في ذلك ما يقتضى كون العبد مجبوراً لا قدرة له.
ولا فعل كما تقوله الجهمية المجبرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.