سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة
الإجابة: سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن قوم قد خصوا بالسعادة، وقوم قد خصوا
بالشقاوة، والسعيد لا يشقى والشقي لا يسعد، وفي الأعمال لا تراد
لذاتها، بل لجلب السعادة، ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال، فلا
وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا كفها عن ملذوذ، فإن المكتوب في القدم
واقع لا محالة بينوا ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله، هذه المسألة قد أجاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قيل ،، وفي رواية البخاري: قلت .
رواه مسلم في صحيحه عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم قال:فقال: أفلا يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: يرحمك الله ! إني لم أرد بما سألتك إلا لأجود عقلك، إن رجلين من مُزَيْنَة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا ،، وتصديق ذلك في كتاب الله:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7- 8]).
وروى مسلم في صحيحه عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: جاء سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم فقال ، وفي لفظ آخر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال" : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5ـ10]، وفي رواية البخاري الحديث .
وفي رواية في الصحيحين عن علي قال : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وغيرها بما دل عليه القرآن أيضاً من أن الله سبحانه وتعالى تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة، كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال ، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال .
وهذا المعنى في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أيضاً.
والنصوص والآثار في تقدم علم الله وكتابته وقضائه وتقديره الأشياء قبل خلقها، وأنواعها كثيرة جداً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافى وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وإن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة، وقد نهى أن يتكل الإنسان على القدر السابق ويدع العمل؛ ولهذا كان من اتكل على القدر السابق وترك ما أمر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة، فإن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظور، فمن ترك العمل الواجب الذي أمر به وفعل المحظور متكلاً على القدر، كان من جملة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة.
وهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية السداد والاستقامة، وهو نظير ما أجاب به في الحديث الذي رواه الترمذي أنه قيل ؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو يعلم الأشياء على ما هي عليه وكذلك يكتبها، فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً، وهذا عام في جميع الحوادث.
مثال ذلك: إذا علم الله وكتب أنه سيولد لهذين ولد، وجعل الله سبحانه ذلك معلقا باجتماع الأبوين على النكاح وإنزال الماء المهين الذي ينعقد منه الولد، فلا يجوز أن يكون وجود الولد بدون السبب الذي علق به وجود الولد، والأسباب وإن كانت نوعين معتادة، وغريبة.
فالمعتادة: كولادة الآدمي من أبوين، والغريبة: كولادة الإنسان من أم فقط كما ولد عيسى، أو من أب فقط كما ولدت حواء، أو من غير أبوين كما خلق آدم أبو البشر من طين.
فجميع الأسباب قد تقدم علم الله بها وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، كذلك أيضاً الأسباب التي بها يخلق النبات من إنزال المطر وغيره من هذا الباب، كما قال تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]، وقال:{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] وأمثال ذلك، فجميع ذلك مقدر معلوم، مقضى مكتوب قبل تكوينه، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده ولا يحتاج إلى مابه يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب، فهو جاهل ضال ضلالاً مبيناً؛ من وجهين:
أحدهما: من جهة كونه جعل العلم جهلا، فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب؛ لأن ذلك هو الواقع، فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب، فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء، فكما أن من أخبر عن الماضي بعلم الله بوقوعه بدون الأسباب يكون مبطلاً، فكذلك من أخبر عن المستقبل كقول القائل: إن الله علم أنه خلق آدم من غير طين، وعلم أنه يتناسل الناس من غير تناكح، وأنه أنبت الزروع من غير ماء ولا تراب فهو باطل ظاهر بطلانه لكل أحد، وكذلك إخباره عن المستقبل.
وكذلك الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب، فلو قال قائل: إن الله أخرج آدم من الجنة بلا ذنب، وإنه قدر ذلك، أو قال: إنه غفر لآدم بلا توبة، وإنه علم ذلك، كان هذا كذباً وبهتاناً بخلاف ما إذا قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]،فإنه يكون صادقاً في ذلك، والله سبحانه علم ما يكون من آدم قبل أن يكون وهو عالم به بعد أن كان.
وكذلك كل ما أخبر به من قصص الأنبياء، فإنه علم أنه أهلك قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم بذنوبهم، وأنه نجى الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم، كما قال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:65]، وقال:{فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}الآية [العنكبوت: 40]، وقال:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:146]، وقال: {فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21]، وقال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6]، وقال:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:52- 53]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود:102]، وقال:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] وقال:{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ . نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:34-35]، وقال: {كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137] وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك خبره عما يكون من السعادة والشقاوة بالأعمال كقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، وقوله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] وقوله{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} الآيات [الإنسان:12]، وقوله: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36]، وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين . حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ . فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48]، وأمثال هذا في القرآن كثير جداً.
بين سبحانه فيما يذكره من سعادة الآخرة، وشقاوتها: أن ذلك كان بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها، كما يذكر نحو ذلك فيما يقضيه من العقوبات والمثوبات في الدنيا أيضاً.
والوجه الثاني: أن العلم بأن الشيء سيكون والخبر عنه بذلك وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها؛ كالفاعل وقدرته ومشيئته، فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل، إذ هذا العلم ليس موجباً بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء، بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا كالموجودات التي كانت قبل وجودنا؛ مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته، فإن هذا العلم ليس مؤثراً في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل ويعرفنا صفته وقدره، فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم؛ إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلى له تأثير في المعلوم، وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم، هو فصل الخطاب في العلم.
فإن من الناس من يقول: العلم: صفة انفعالية لا تأثير له في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الكلام، ومنهم من يقول: بل هو صفة فعلية له تأثير في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام.
والصواب أنه نوعان، كما بيناه، وهكذا علم الرب تبارك وتعالى فإن علمه بنفسه سبحانه لا تأثير له في وجود المعلوم، وأما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإرادته مما له تأثير في وجود معلوماته، والقول في الكلام والكتاب كالقول في العلم، فإنه سبحانه وتعالى إذا خلق الشيء خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته، ولذلك كان الخلق مستلزماً للعلم ودليلاً عليه، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده لعلمه وخبره به بعد وجوده لثلاثة أوجه:
أحدها: أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي.
الثاني: أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بينا الفرق بين العلم العملي والعلم الخبري.
الثالث: أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة، فلا يكون مجرد العلم موجباً له بدون القدرة والإرادة، فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد، مما يدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم ويخبر بما سيكون من مفعولات الرب، كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك، فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً له.
إذا تبين ذلك فقول السائل: السعيد لا يشقى، والشقي لا يسعد، كلام صحيح، أي من قدر الله أن يكون سعيداً يكون سعيدا، لكن بالأعمال التي جعله يسعد بها، والشقي لا يكون شقياً إلا بالأعمال التي جعله يشقى بها، التي من جملتها الاتكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.
وأما قوله: والأعمال لا تراد لذاتها بل لجلب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال، فيقال له: السابق نفس السعادة والشقاوة، أو تقدير السعادة والشقاوة علما وقضاء وكتاباً، هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثير من الناس حيث لا يميزون بين ثبوت الشيء في العلم والتقدير، وبين ثبوته في الوجود والتحقيق.
فإن الأول هو العلم به والخبر عنه، وكتابته، وليس شيء من ذلك داخلاً في ذاته ولا في صفاته القائمة به.
ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال وفي رواية: .
فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ، وهذا جهل، فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره، وقد قال له: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] وقال: {ووَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} [الضحى:7] وفي الصحيحين: أن الملك قال له حين جاءه ثلاث مرات.
ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبياً قبل أن يوحى إليه، فهو كافر باتفاق المسلمين، وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم، وقبل نفخ الروح فيه، كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه، كما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي رواية .
وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه ، ويجعلون ذلك وجوده بعينه، وآدم لم يكن بين الماء والطين، بل الماء بعض الطين لا مقابله.
وإذا كان كذلك، فإن قال: السابق نفس السعادة والشقاوة، فقد كذب، فإن السعادة إنما تكون بعد وجود الشخص الذي هو السعيد، وكذلك الشقاوة لا تكون إلا بعد وجود الشقي، كما أن العمل والرزق لا يكون إلا بعد وجود العامل ولا يصير رزقاً إلا بعد وجود المرتزق، وإنما السابق هو العلم بذلك وتقديره لا نفسه وعينه، وإذا كان كذلك فالعمل أيضاً سابق كسبق السعادة والشقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما متأخران في الوجود، والله سبحانه علم وقدر أن هذا يعمل كذا فيسعد به، وهذا يعمل كذا فيشقى به، وهو يعلم أن هذا العمل الصالح يجلب السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أن هذا يأكل السم فيموت، وأن هذا يأكل الطعام فيشبع، ويشرب الشراب فيروى، وظهر فساد قول السائل: فلا وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا لكفها عن ملذوذات، والمكتوب في القدم واقع لا محالة.
وذلك أن المكتوب في القدم هو سعادة السعيد لما يسر له من العمل الصالح، وشقاوة الشقي لما يسر له من العمل السيئ، ليس المكتوب أحدهما دون الآخر، فما أمر به العبد من عمل فيه تعب أو امتناع عن شهوة هو من الأسباب التي تنال بها السعادة، والمقدر المكتوب هو السعادة والعمل الذي به ينال السعادة، وإذا ترك العبد ما أمر به متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقياً، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول: لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضي لي بولد فإنه يكون.
وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظاناً أن ذلك من مقامات الخاصة ناظراً إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك وكما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه.
وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث الآخر .
رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن شدّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
ومن الناس من يصحفه فيقول: الفاجر، وإنما هو العاجز في مقابلة الكيس، كما في الحديث الآخر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله، هذه المسألة قد أجاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قيل ،، وفي رواية البخاري: قلت .
رواه مسلم في صحيحه عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم قال:فقال: أفلا يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: يرحمك الله ! إني لم أرد بما سألتك إلا لأجود عقلك، إن رجلين من مُزَيْنَة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا ،، وتصديق ذلك في كتاب الله:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7- 8]).
وروى مسلم في صحيحه عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: جاء سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم فقال ، وفي لفظ آخر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال" : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5ـ10]، وفي رواية البخاري الحديث .
وفي رواية في الصحيحين عن علي قال : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وغيرها بما دل عليه القرآن أيضاً من أن الله سبحانه وتعالى تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة، كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال ، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال .
وهذا المعنى في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أيضاً.
والنصوص والآثار في تقدم علم الله وكتابته وقضائه وتقديره الأشياء قبل خلقها، وأنواعها كثيرة جداً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافى وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وإن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة، وقد نهى أن يتكل الإنسان على القدر السابق ويدع العمل؛ ولهذا كان من اتكل على القدر السابق وترك ما أمر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة، فإن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظور، فمن ترك العمل الواجب الذي أمر به وفعل المحظور متكلاً على القدر، كان من جملة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة.
وهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية السداد والاستقامة، وهو نظير ما أجاب به في الحديث الذي رواه الترمذي أنه قيل ؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو يعلم الأشياء على ما هي عليه وكذلك يكتبها، فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً، وهذا عام في جميع الحوادث.
مثال ذلك: إذا علم الله وكتب أنه سيولد لهذين ولد، وجعل الله سبحانه ذلك معلقا باجتماع الأبوين على النكاح وإنزال الماء المهين الذي ينعقد منه الولد، فلا يجوز أن يكون وجود الولد بدون السبب الذي علق به وجود الولد، والأسباب وإن كانت نوعين معتادة، وغريبة.
فالمعتادة: كولادة الآدمي من أبوين، والغريبة: كولادة الإنسان من أم فقط كما ولد عيسى، أو من أب فقط كما ولدت حواء، أو من غير أبوين كما خلق آدم أبو البشر من طين.
فجميع الأسباب قد تقدم علم الله بها وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، كذلك أيضاً الأسباب التي بها يخلق النبات من إنزال المطر وغيره من هذا الباب، كما قال تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]، وقال:{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] وأمثال ذلك، فجميع ذلك مقدر معلوم، مقضى مكتوب قبل تكوينه، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده ولا يحتاج إلى مابه يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب، فهو جاهل ضال ضلالاً مبيناً؛ من وجهين:
أحدهما: من جهة كونه جعل العلم جهلا، فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب؛ لأن ذلك هو الواقع، فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب، فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء، فكما أن من أخبر عن الماضي بعلم الله بوقوعه بدون الأسباب يكون مبطلاً، فكذلك من أخبر عن المستقبل كقول القائل: إن الله علم أنه خلق آدم من غير طين، وعلم أنه يتناسل الناس من غير تناكح، وأنه أنبت الزروع من غير ماء ولا تراب فهو باطل ظاهر بطلانه لكل أحد، وكذلك إخباره عن المستقبل.
وكذلك الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب، فلو قال قائل: إن الله أخرج آدم من الجنة بلا ذنب، وإنه قدر ذلك، أو قال: إنه غفر لآدم بلا توبة، وإنه علم ذلك، كان هذا كذباً وبهتاناً بخلاف ما إذا قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]،فإنه يكون صادقاً في ذلك، والله سبحانه علم ما يكون من آدم قبل أن يكون وهو عالم به بعد أن كان.
وكذلك كل ما أخبر به من قصص الأنبياء، فإنه علم أنه أهلك قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم بذنوبهم، وأنه نجى الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم، كما قال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:65]، وقال:{فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}الآية [العنكبوت: 40]، وقال:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:146]، وقال: {فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21]، وقال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6]، وقال:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:52- 53]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود:102]، وقال:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] وقال:{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ . نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:34-35]، وقال: {كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137] وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك خبره عما يكون من السعادة والشقاوة بالأعمال كقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، وقوله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111] وقوله{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} الآيات [الإنسان:12]، وقوله: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36]، وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين . حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ . فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48]، وأمثال هذا في القرآن كثير جداً.
بين سبحانه فيما يذكره من سعادة الآخرة، وشقاوتها: أن ذلك كان بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها، كما يذكر نحو ذلك فيما يقضيه من العقوبات والمثوبات في الدنيا أيضاً.
والوجه الثاني: أن العلم بأن الشيء سيكون والخبر عنه بذلك وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها؛ كالفاعل وقدرته ومشيئته، فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل، إذ هذا العلم ليس موجباً بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء، بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا كالموجودات التي كانت قبل وجودنا؛ مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته، فإن هذا العلم ليس مؤثراً في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل ويعرفنا صفته وقدره، فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم؛ إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلى له تأثير في المعلوم، وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم، هو فصل الخطاب في العلم.
فإن من الناس من يقول: العلم: صفة انفعالية لا تأثير له في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الكلام، ومنهم من يقول: بل هو صفة فعلية له تأثير في المعلوم، كما يقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام.
والصواب أنه نوعان، كما بيناه، وهكذا علم الرب تبارك وتعالى فإن علمه بنفسه سبحانه لا تأثير له في وجود المعلوم، وأما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإرادته مما له تأثير في وجود معلوماته، والقول في الكلام والكتاب كالقول في العلم، فإنه سبحانه وتعالى إذا خلق الشيء خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته، ولذلك كان الخلق مستلزماً للعلم ودليلاً عليه، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده لعلمه وخبره به بعد وجوده لثلاثة أوجه:
أحدها: أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي.
الثاني: أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بينا الفرق بين العلم العملي والعلم الخبري.
الثالث: أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة، فلا يكون مجرد العلم موجباً له بدون القدرة والإرادة، فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد، مما يدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم ويخبر بما سيكون من مفعولات الرب، كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك، فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً له.
إذا تبين ذلك فقول السائل: السعيد لا يشقى، والشقي لا يسعد، كلام صحيح، أي من قدر الله أن يكون سعيداً يكون سعيدا، لكن بالأعمال التي جعله يسعد بها، والشقي لا يكون شقياً إلا بالأعمال التي جعله يشقى بها، التي من جملتها الاتكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.
وأما قوله: والأعمال لا تراد لذاتها بل لجلب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال، فيقال له: السابق نفس السعادة والشقاوة، أو تقدير السعادة والشقاوة علما وقضاء وكتاباً، هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثير من الناس حيث لا يميزون بين ثبوت الشيء في العلم والتقدير، وبين ثبوته في الوجود والتحقيق.
فإن الأول هو العلم به والخبر عنه، وكتابته، وليس شيء من ذلك داخلاً في ذاته ولا في صفاته القائمة به.
ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال وفي رواية: .
فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ، وهذا جهل، فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره، وقد قال له: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] وقال: {ووَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} [الضحى:7] وفي الصحيحين: أن الملك قال له حين جاءه ثلاث مرات.
ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبياً قبل أن يوحى إليه، فهو كافر باتفاق المسلمين، وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم، وقبل نفخ الروح فيه، كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه، كما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي رواية .
وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه ، ويجعلون ذلك وجوده بعينه، وآدم لم يكن بين الماء والطين، بل الماء بعض الطين لا مقابله.
وإذا كان كذلك، فإن قال: السابق نفس السعادة والشقاوة، فقد كذب، فإن السعادة إنما تكون بعد وجود الشخص الذي هو السعيد، وكذلك الشقاوة لا تكون إلا بعد وجود الشقي، كما أن العمل والرزق لا يكون إلا بعد وجود العامل ولا يصير رزقاً إلا بعد وجود المرتزق، وإنما السابق هو العلم بذلك وتقديره لا نفسه وعينه، وإذا كان كذلك فالعمل أيضاً سابق كسبق السعادة والشقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما متأخران في الوجود، والله سبحانه علم وقدر أن هذا يعمل كذا فيسعد به، وهذا يعمل كذا فيشقى به، وهو يعلم أن هذا العمل الصالح يجلب السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أن هذا يأكل السم فيموت، وأن هذا يأكل الطعام فيشبع، ويشرب الشراب فيروى، وظهر فساد قول السائل: فلا وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا لكفها عن ملذوذات، والمكتوب في القدم واقع لا محالة.
وذلك أن المكتوب في القدم هو سعادة السعيد لما يسر له من العمل الصالح، وشقاوة الشقي لما يسر له من العمل السيئ، ليس المكتوب أحدهما دون الآخر، فما أمر به العبد من عمل فيه تعب أو امتناع عن شهوة هو من الأسباب التي تنال بها السعادة، والمقدر المكتوب هو السعادة والعمل الذي به ينال السعادة، وإذا ترك العبد ما أمر به متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقياً، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول: لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضي لي بولد فإنه يكون.
وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظاناً أن ذلك من مقامات الخاصة ناظراً إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك وكما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه.
وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث الآخر .
رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن شدّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
ومن الناس من يصحفه فيقول: الفاجر، وإنما هو العاجز في مقابلة الكيس، كما في الحديث الآخر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.