[الرسالة الثالثة: في حكم التعبد بالأوراد البدعية والشركية]
عبد العزيز بن باز
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: [الرسالة الثالثة: في حكم التعبد بالأوراد البدعية والشركية]
الإجابة: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم (......) وفقه
الله لكل خير آمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
. أما بعد: فقد وصل إلي كتابكم الكريم وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنه يوجد في بلادكم أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي ، وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرؤون تلك الأوراد في مجالس الذكر، أو في المساجد بعد صلاة المغرب، زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله، رجال الله، أعينونا بعون الله، وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب، ويا أسياد، أجيبوا يا ذوي الأمداد فينا، واشفعوا لله، هذا عبدكم واقف، وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله وما لي غيركم أذهب، ومنكم يحصل المطلب، وأنتم أهل الله، بحمزة سيد الشهداء، ومن منكم لنا مددا، أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائبا عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية، ورغبتكم في بيان ما هو بدعة، وما هو شرك، وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعوا بهذا الدعاء، كل ذلك كان معلوما؟.
والجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فاعلم وفقك الله، أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعبد وحده لا شريك له، دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة: هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله وعن إيمان بالله ورسوله، وإخلاص لله في العمل، مع غاية الحب لله.
وكمال الذل له وحده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أبان سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ويستعان به وحده.
وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على: وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه، ولا يستعين ولا يستغيث إلا به، عملا بهذه الآيات الكريمة، وما جاء في معناها وهذا فيما عدا الأمور العادية، والأسباب الحسية، التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر، فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر، في الأمور العادية التي يقدر عليها، كأن يستعين به، أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر، أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته، أو إصلاح سيارته، أو ما أشبه ذلك.
ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: فَاسْتَغَاثَهُ {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب، ونحو ذلك، فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة، والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى، وهداية القلوب، ودخول الجنة، والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور، وإخلاص العبادة لله وحده.
لأن العباد خلقوا لذلك، وبه أمروا كما سبق في الآيات، وكما في قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: " " متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " " رواه البخاري.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له " " وفي لفظ " " وفي رواية للبخاري : " " وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " عز وجل والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام، وهو أساس الملة، وهو رأس الأمر، وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك.
ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وهذه دعوة الرسل جميعا، كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان، وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة، وخلع الآلهة المعبودة من دونه، كما قال عز وجل في قصة عاد، أنهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلي إفراد الله بالعبادة، وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة، والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال عنهم سبحانه وتعالى في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث، يتضح لك- وفقني الله وإياك للفقه في الدين، والبصيرة بحق رب العالمين- أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك، كلها من أنواع الشرك الأكبر لأنها عبادة لغير الله، وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه، من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء.
وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}.
فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك يفيدون بأنفسهم، ويشفون مرضانا بأنفسهم، أو ينفعونا بأنفسهم، أو يضرونا بأنفسهم، وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك؟ فالجواب: أن يقال له: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فرد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
فأبان سبحانه أن العبادة له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر، كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فرد الله بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة، وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء، والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه، كما تشفع الوزراء عند الملوك فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء.
وقالوا: كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه ووزرائه، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه. لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم ما يقدرون على شيء فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحاكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه.
ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}, {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وسبق ذكر الآيات الدالة، على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورةالبقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} وقال في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ".
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده، وإنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك لله عز وجل، كما قال سبحانه: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا الآية، ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع فيه، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق.
وأما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة، كما قال تعالي: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية ، وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائبا عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية .. إلخ.
والجواب: أن يقال: إن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع، الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " ، قال إلامام الخطابي رحمه الله: المتنطع: المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات ابن الأثير : هم المتعمقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا. وبما ذكره هذان الإمامان من أئمة اللغة، يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة، أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة والسلام عليه، وفي ذلك غنية عن غيره.
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: " ".
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال " " وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال بشير بن سعد : " " والسلام كما علمتم.
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يستعملها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة، والألفاظ المحتملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال، فإنه لا ينبغي استعمالها.
لما فيها من التكلف، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة، مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون، والمشركون المتأخرون في هذا الباب وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله علي كفاية ومقنع لطالب الحق أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه، قال الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما: مستجيب لله ولرسوله، والثاني: تابع لهواه، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والمعظمين لشرعه، والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز. المجلد الأول.
. أما بعد: فقد وصل إلي كتابكم الكريم وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنه يوجد في بلادكم أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي ، وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرؤون تلك الأوراد في مجالس الذكر، أو في المساجد بعد صلاة المغرب، زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله، رجال الله، أعينونا بعون الله، وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب، ويا أسياد، أجيبوا يا ذوي الأمداد فينا، واشفعوا لله، هذا عبدكم واقف، وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله وما لي غيركم أذهب، ومنكم يحصل المطلب، وأنتم أهل الله، بحمزة سيد الشهداء، ومن منكم لنا مددا، أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائبا عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية، ورغبتكم في بيان ما هو بدعة، وما هو شرك، وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعوا بهذا الدعاء، كل ذلك كان معلوما؟.
والجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فاعلم وفقك الله، أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعبد وحده لا شريك له، دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة: هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله وعن إيمان بالله ورسوله، وإخلاص لله في العمل، مع غاية الحب لله.
وكمال الذل له وحده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أبان سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ويستعان به وحده.
وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على: وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه، ولا يستعين ولا يستغيث إلا به، عملا بهذه الآيات الكريمة، وما جاء في معناها وهذا فيما عدا الأمور العادية، والأسباب الحسية، التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر، فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر، في الأمور العادية التي يقدر عليها، كأن يستعين به، أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر، أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته، أو إصلاح سيارته، أو ما أشبه ذلك.
ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: فَاسْتَغَاثَهُ {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب، ونحو ذلك، فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة، والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى، وهداية القلوب، ودخول الجنة، والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور، وإخلاص العبادة لله وحده.
لأن العباد خلقوا لذلك، وبه أمروا كما سبق في الآيات، وكما في قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: " " متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " " رواه البخاري.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له " " وفي لفظ " " وفي رواية للبخاري : " " وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " عز وجل والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام، وهو أساس الملة، وهو رأس الأمر، وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك.
ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وهذه دعوة الرسل جميعا، كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان، وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة، وخلع الآلهة المعبودة من دونه، كما قال عز وجل في قصة عاد، أنهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلي إفراد الله بالعبادة، وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة، والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال عنهم سبحانه وتعالى في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث، يتضح لك- وفقني الله وإياك للفقه في الدين، والبصيرة بحق رب العالمين- أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك، كلها من أنواع الشرك الأكبر لأنها عبادة لغير الله، وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه، من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء.
وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}.
فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك يفيدون بأنفسهم، ويشفون مرضانا بأنفسهم، أو ينفعونا بأنفسهم، أو يضرونا بأنفسهم، وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك؟ فالجواب: أن يقال له: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فرد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
فأبان سبحانه أن العبادة له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر، كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فرد الله بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة، وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء، والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه، كما تشفع الوزراء عند الملوك فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء.
وقالوا: كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه ووزرائه، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه. لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم ما يقدرون على شيء فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحاكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه.
ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}, {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وسبق ذكر الآيات الدالة، على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورةالبقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} وقال في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ".
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده، وإنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك لله عز وجل، كما قال سبحانه: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا الآية، ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع فيه، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق.
وأما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة، كما قال تعالي: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية ، وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائبا عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية .. إلخ.
والجواب: أن يقال: إن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع، الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " ، قال إلامام الخطابي رحمه الله: المتنطع: المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات ابن الأثير : هم المتعمقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا. وبما ذكره هذان الإمامان من أئمة اللغة، يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة، أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة والسلام عليه، وفي ذلك غنية عن غيره.
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: " ".
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال " " وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال بشير بن سعد : " " والسلام كما علمتم.
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يستعملها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة، والألفاظ المحتملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال، فإنه لا ينبغي استعمالها.
لما فيها من التكلف، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة، مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون، والمشركون المتأخرون في هذا الباب وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله علي كفاية ومقنع لطالب الحق أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه، قال الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما: مستجيب لله ولرسوله، والثاني: تابع لهواه، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والمعظمين لشرعه، والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز. المجلد الأول.