فصل ملخص [المنطق] المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصل ملخص [المنطق] المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين
الإجابة: فَصـــل:
قد كتبت فيما تقدم ملخص [المنطق] المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين، وعربته لفظًا ومعنى، فإنها أحسنت ألفاظه وحررت معانيه، وهو المنسوب إلى أرسطو اليوناني الذي يسميه أتباعه من الصابئين الفلاسفة المبتدعين [المعلم الأول]؛ لأنه وضع التعاليم التي يتعلمونها من المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة.
فإن هذه التعاليم لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبى العباس الملقب بالمأمون، أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى، لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير.
فمنهم من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم صابئة المسلمين المسمون بالفلاسفة، فصاروا مؤمنين ببعض الكتاب دون بعض، بمنزلة المبتدعة من اليهود والنصارى قبل النسخ، لما بدلوا بعض الكتب التي بأيديهم.
ومنهم من لم يقصد إتباعها لكن تلقى عنهم أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره، وكثير منها تخالفه وتخذله، وهذه حال كثير من أهل الكلام المعتزلة؛ ولهذا قيل: هم مخانيث الفلاسفة.
ومنهم من أعرض عنها إعراضًا مجملا، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع، وهذه حال كثير من أهل الحديث والفقه وغير ذلك، وقد كتبت فيما تقدم بعض ما يتعلق بذلك في مواضع من القواعد، وذكرت في تلخيص جمل المنطق ما وقع من الجهل والضلال بسببه وبعض ما وقع فيه من الخلل.
وهنا تلخيص ذلك فأقول: مقصود الكلام في طرق العلم بالتصورات والتصديقات، فالأول كالحد والرسم، والثاني كالقياس بأنواعه من البرهان وغيره، وكالتمثيل والاستقراء.
وقد يزعمون أن المطلوب من التصورات لا ينال إلا بجنس الحد، والمطلوب من التصديقات لا ينال إلا بجنس القياس، وقد يسمى جنس القياس بالنسبة، كما يسمى جنس القول الشارح حدًا، وأما البديهي من النوعين فمستغن عن الحـد والبرهان، فتضمن هذا الكلام أن الحدود تفيد تصوير الحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيرها، وأن القياس يفيد التصديق بالحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيره، وفي كلا الأمرين وقع الخطأ.
أما في الحد ففي كلا القضيتين السلب والإيجاب، فيما أثبتوه وفيما نفوه.
أما الأول، فإن الحد لا يفيد تصور الحقائق، وإنما يفيد التمييز بين المحدود وغيره، وتصور الحقائق لا يحصل بمجرد الحد الذي هو كلام الحاد، بل لابد من إدراكها بالباطن والظاهر، وإذا لم تدرك ضرب المثل لها، فيحصل بالمثال الذي هو قياس التصوير لا قياس التصديق نوع من الإدراك كإدراكنا لما وعد الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، والأمثال المضروبة في القرآن تارة تكون للتصوير، وتارة تكون للتصديق، وهذا الوجه مقرر بوجوه متعددة، وإنما الغرض هنا تلخيص المقصود.
وأما الثاني، وهو النفي فإن إدراك الحقائق المتصورة المطلقة ليس موقوفًا على الحد لو فرض أنها تعرف بالحد، بل تحصل بأسباب الإدراك المعروفة وقد تحصل من الكلام بالأسماء المفردة كما تحصل بالحد، وربما كان الاسم فيها أنفع من الحد، وهذا أيضًا مقرر.
وأما القياس فلا ريب أنه يفيد التصديق إذا صحت مقدماته وتأليفها، لكن الخطأ فيه من النفي من وجهين أيضًا:
أحدهما: أن حصول العلم التصديقي في النفس ليس موقوفًا على القياس، بل يحصل بغير القياس.
الثاني: أن القياس البرهاني ليست مواده منحصرة فيما ذكروه في الحسيات و الوجديات والبديهيات والنظريات والمتواترات والتجريبيات والحدسيات، كما بينت هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
قد كتبت فيما تقدم ملخص [المنطق] المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين، وعربته لفظًا ومعنى، فإنها أحسنت ألفاظه وحررت معانيه، وهو المنسوب إلى أرسطو اليوناني الذي يسميه أتباعه من الصابئين الفلاسفة المبتدعين [المعلم الأول]؛ لأنه وضع التعاليم التي يتعلمونها من المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة.
فإن هذه التعاليم لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبى العباس الملقب بالمأمون، أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى، لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير.
فمنهم من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم صابئة المسلمين المسمون بالفلاسفة، فصاروا مؤمنين ببعض الكتاب دون بعض، بمنزلة المبتدعة من اليهود والنصارى قبل النسخ، لما بدلوا بعض الكتب التي بأيديهم.
ومنهم من لم يقصد إتباعها لكن تلقى عنهم أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره، وكثير منها تخالفه وتخذله، وهذه حال كثير من أهل الكلام المعتزلة؛ ولهذا قيل: هم مخانيث الفلاسفة.
ومنهم من أعرض عنها إعراضًا مجملا، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع، وهذه حال كثير من أهل الحديث والفقه وغير ذلك، وقد كتبت فيما تقدم بعض ما يتعلق بذلك في مواضع من القواعد، وذكرت في تلخيص جمل المنطق ما وقع من الجهل والضلال بسببه وبعض ما وقع فيه من الخلل.
وهنا تلخيص ذلك فأقول: مقصود الكلام في طرق العلم بالتصورات والتصديقات، فالأول كالحد والرسم، والثاني كالقياس بأنواعه من البرهان وغيره، وكالتمثيل والاستقراء.
وقد يزعمون أن المطلوب من التصورات لا ينال إلا بجنس الحد، والمطلوب من التصديقات لا ينال إلا بجنس القياس، وقد يسمى جنس القياس بالنسبة، كما يسمى جنس القول الشارح حدًا، وأما البديهي من النوعين فمستغن عن الحـد والبرهان، فتضمن هذا الكلام أن الحدود تفيد تصوير الحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيرها، وأن القياس يفيد التصديق بالحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيره، وفي كلا الأمرين وقع الخطأ.
أما في الحد ففي كلا القضيتين السلب والإيجاب، فيما أثبتوه وفيما نفوه.
أما الأول، فإن الحد لا يفيد تصور الحقائق، وإنما يفيد التمييز بين المحدود وغيره، وتصور الحقائق لا يحصل بمجرد الحد الذي هو كلام الحاد، بل لابد من إدراكها بالباطن والظاهر، وإذا لم تدرك ضرب المثل لها، فيحصل بالمثال الذي هو قياس التصوير لا قياس التصديق نوع من الإدراك كإدراكنا لما وعد الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، والأمثال المضروبة في القرآن تارة تكون للتصوير، وتارة تكون للتصديق، وهذا الوجه مقرر بوجوه متعددة، وإنما الغرض هنا تلخيص المقصود.
وأما الثاني، وهو النفي فإن إدراك الحقائق المتصورة المطلقة ليس موقوفًا على الحد لو فرض أنها تعرف بالحد، بل تحصل بأسباب الإدراك المعروفة وقد تحصل من الكلام بالأسماء المفردة كما تحصل بالحد، وربما كان الاسم فيها أنفع من الحد، وهذا أيضًا مقرر.
وأما القياس فلا ريب أنه يفيد التصديق إذا صحت مقدماته وتأليفها، لكن الخطأ فيه من النفي من وجهين أيضًا:
أحدهما: أن حصول العلم التصديقي في النفس ليس موقوفًا على القياس، بل يحصل بغير القياس.
الثاني: أن القياس البرهاني ليست مواده منحصرة فيما ذكروه في الحسيات و الوجديات والبديهيات والنظريات والمتواترات والتجريبيات والحدسيات، كما بينت هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.