التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه
الإجابة: إنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لمم يتصوروا حقائقه ولوازمه،
ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه، واتفق أن فيه أموراً
ظاهرة مثل الشكل الأول، ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم
فيه، بل طولوا فيه الطريق، وسلكوا الوعر والضيق، ولم يهتدوا فيه إلى
ما يفيد التحقيق، وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطئوا في
إثباته، بل ما أخطئوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا
ببرهانهم وهو من القياس.
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة: القياس، والاستقراء، والتمثيل، وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين، وإنما يفيد القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان، وأن ما حصل بأحدهما عن علم أو ظن، حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة، والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية، بل إذا كانت المادة يقينية، سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول، فهي واحدة، وسواء كانت صورة القياس اقترانياً أو استثنائياً بعبارتهم أو بأي عبارة شئت، لاسيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل، وأوجز في اللفظ والمعنى واحد.
وجد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت: هذا إنسان، وكل إنسان مخلوق، أو حيوان، أو حساس، أو متحرك بالإرادة، أو ناطق، أو ما شئت من لوازم الإنسان، فإن شئت صورت الدليل على هذه الصورة، وإن شئت قلت: هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس، لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات، وإن شئت قلت: هذا إنسان، والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام، فهي لازمة له، وإن شئت قلت: إن كان إنساناً فهو متصف بهذه الصفات اللازمة للإنسان، وإن شئت قلت: إما أن يتصف بهذه الصفات وإما ألا يتصف، والثاني باطل، فتعين الأول؛ لأن هذه لازمة للإنسان لا يصور وجوده بدونها.
وأما الاستقراء، فإنما يكون يقينيا؛ إذا كان استقراء تاما.
وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد، وهذا ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام، بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام، يوجب أن يكون لازماً لذلك الكلي العام.
فقولهم: إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق، وكيف ذلك، والدليل لابد أن يكون ملزوما للمدلول؟ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه، ولم يكن المدلول لازماً له، لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل، نعلم ثبوت المدلول معه، إذا علمنا أنه تارة يكون معه، وتارة لا يكون معه، فإنا إذا علمنا ذلك، ثم قلنا: إنه معه دائماً كنا قد جمعنا بين النقيضين.
وهذا اللزوم الذي نذكره هاهنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم، وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر، كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر، كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه، بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكل مخلوق دال على ذلك كله.
وإذا كان المدلول لازماً للدليل، فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساوياً للملزوم، وإما أن يكون أعم منه، فالدليل لا يكون إلا أعم منه، وإذا قالوا في القياس: يستدل بالكلي على الجزئي، فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه، وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم، فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له، بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا، وحكمه الذي أخبر به عنه، فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له، فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل، والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف.
فإذا قيل: النبيذ حرام لأنه خمر، فكونه خمراً هو الدليل، وهو لازم للنبيذ، والتحريم لازم للخمر، والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت: كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر، وكل خمر حرام، فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ، فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي، بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ، فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجاً في تحريم كل مسكر قال: من قال أنه استدلال بالكلي على الجزئي؟
والتحقيق أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته، والتحريم هو أعم من الخمر، وهو ثابت لها، فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها، فهو استدلال بكلى على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي.
وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي، وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات، وهذا مما ما لا ينازعون فيه، فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له، والأكبر أعم منه أو مساو له، والأكبر هو الحكم والصفة والخبر، وهو محمول النتيجة، والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ، وهو موضوع النتيجة.
وأما قولهم في التمثيل: أنه استدلال بجزئي على جزئي، فإن أطلق ذلك وقيل: إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي، فهذا غلط، فإن [قياس التمثيل] إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم، أو دليل الحكم مع العلة فإنه قياس علة أو قياس دلالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة: القياس، والاستقراء، والتمثيل، وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين، وإنما يفيد القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان، وأن ما حصل بأحدهما عن علم أو ظن، حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة، والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية، بل إذا كانت المادة يقينية، سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول، فهي واحدة، وسواء كانت صورة القياس اقترانياً أو استثنائياً بعبارتهم أو بأي عبارة شئت، لاسيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل، وأوجز في اللفظ والمعنى واحد.
وجد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت: هذا إنسان، وكل إنسان مخلوق، أو حيوان، أو حساس، أو متحرك بالإرادة، أو ناطق، أو ما شئت من لوازم الإنسان، فإن شئت صورت الدليل على هذه الصورة، وإن شئت قلت: هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس، لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات، وإن شئت قلت: هذا إنسان، والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام، فهي لازمة له، وإن شئت قلت: إن كان إنساناً فهو متصف بهذه الصفات اللازمة للإنسان، وإن شئت قلت: إما أن يتصف بهذه الصفات وإما ألا يتصف، والثاني باطل، فتعين الأول؛ لأن هذه لازمة للإنسان لا يصور وجوده بدونها.
وأما الاستقراء، فإنما يكون يقينيا؛ إذا كان استقراء تاما.
وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد، وهذا ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام، بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام، يوجب أن يكون لازماً لذلك الكلي العام.
فقولهم: إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق، وكيف ذلك، والدليل لابد أن يكون ملزوما للمدلول؟ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه، ولم يكن المدلول لازماً له، لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل، نعلم ثبوت المدلول معه، إذا علمنا أنه تارة يكون معه، وتارة لا يكون معه، فإنا إذا علمنا ذلك، ثم قلنا: إنه معه دائماً كنا قد جمعنا بين النقيضين.
وهذا اللزوم الذي نذكره هاهنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم، وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر، كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر، كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه، بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكل مخلوق دال على ذلك كله.
وإذا كان المدلول لازماً للدليل، فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساوياً للملزوم، وإما أن يكون أعم منه، فالدليل لا يكون إلا أعم منه، وإذا قالوا في القياس: يستدل بالكلي على الجزئي، فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه، وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم، فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له، بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا، وحكمه الذي أخبر به عنه، فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له، فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل، والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف.
فإذا قيل: النبيذ حرام لأنه خمر، فكونه خمراً هو الدليل، وهو لازم للنبيذ، والتحريم لازم للخمر، والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت: كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر، وكل خمر حرام، فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ، فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي، بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ، فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجاً في تحريم كل مسكر قال: من قال أنه استدلال بالكلي على الجزئي؟
والتحقيق أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته، والتحريم هو أعم من الخمر، وهو ثابت لها، فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها، فهو استدلال بكلى على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي.
وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي، وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات، وهذا مما ما لا ينازعون فيه، فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له، والأكبر أعم منه أو مساو له، والأكبر هو الحكم والصفة والخبر، وهو محمول النتيجة، والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ، وهو موضوع النتيجة.
وأما قولهم في التمثيل: أنه استدلال بجزئي على جزئي، فإن أطلق ذلك وقيل: إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي، فهذا غلط، فإن [قياس التمثيل] إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم، أو دليل الحكم مع العلة فإنه قياس علة أو قياس دلالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.