فصل في ذكر الله ودعائه
ابن تيمية
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
السؤال: فصل في ذكر الله ودعائه
الإجابة: فَصْـــل:
قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة على جنس المشروع المستحب في ذكر اللّه ودعائه كسائر العبادات، وبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الأذكار، كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب وفي صحيحه عن أبي ذر قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل ؟ قال .
وفي [كتاب الذكر] لابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد اللّه بن كريز عن النبي صلى الله عليه وسلم ،، وفي السنن حديث الذي قال .
ولهذا قال الفقهاء: إن من عجز عن القراءة في الصلاة انتقل إلى هذه الكلمات الباقيات الصالحات.
وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه.
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته.
كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فلا يدعي إلا بأسمائه الحسنى.
ومن المنهي عنه: ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
ومثل قول بعض الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل ما كانوا يقولون في أول الإسلام: السلام على اللّه قبل عباده.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
أشار بذلك إلى أن [السلام] إنما يطلب لمن يحتاج إليه، واللّه هو [السلام]، فالسلام يطلب منه لا يطلب له.
بل يثنى عليه، فإنه له فيقال: التحيات للّه والصلوات والطيبات.
فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه، وأما المخلوق فيطلب له.
فيقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57]، والرزق يعم كل ما ينتفع به المرتزق؛ فالإنسان يرزق الطعام والشراب واللباس، وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه، ويرزق ما ينتفع به باطنه من علم وإيمان، وفرح وسرور، وقوة ونور، وتأييد وغير ذلك، واللّه سبحانه ما يريد من الخلق من رزق، فإنهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هو الغني وهم الفقراء.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
وكذلك الدعاء المكروه، مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل الأنبياء أو دعاء الأعرابي الذي قال: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا وقد قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وقال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه.
وإنما نبهنا على جنس المكروه.
وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلامًا تامًا مفيدًا مثل: [لا إله إلا اللّه]، ومثل: [اللّه أكبر]، ومثل [سبحان اللّه والحمد للّه]، ومثل [لا حول ولا قوة إلا باللّه]، ومثل {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1].
فأما( الاسم المفرد) مظهرًا مثل: [اللّه، اللّه] أو [مضمرًا] مثل: [هو، هو].
فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضًا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول: [اللّه، اللّه].
فقيل له: لم لا تقول: لا إله إلا اللّه؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات.
وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان، و يحلق لحيته.
وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا، فإن العبد لو أراد أن يقول: [لا إله إلا اللّه] ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئًا؛ إذ الأعمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه.
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم: [لا إله إلا اللّه] للمؤمنين، و[اللّه] للعارفين، و[هو] للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على [اللّه، اللّه، اللّه].
أو على [هو] أو [يا هو] أو [لا هو إلا هو].
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك.
واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب، كما يروي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول: [اللّه، اللّه، اللّه].
فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا.
ثم أمر عليًا فقالها ثلاثا.
وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
وإنما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر ، وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب حين الموت.
وقال ،، وقال ، وقال ، وقال ، وقال والأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
وقد كتبت فيما تقدم من [القواعد] بعض ما يتعلق بهاتين [الكلمتين] العظيمتين الجامعتين الفارقتين: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فأما ذكر [الاسم المفرد] فلم يشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه.
وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]، ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية، فإنه سبحانه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: قل: اللّه أنزل الكتاب الذي جاء به موسى. فهذا كلام تام، وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب.
وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلام العرب كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} الآية [الزمر: 38]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60]، وكذلك ما بعدها وقوله:{قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون اللّه}على قراءة أبي عمرو، وتقول في الكلام: من جاء؟ فتقول: زيد. ومن أكرمت ؟ فتقول: زيدًا. وبمن مررت؟ فتقول: بزيد. فيذكرون الاسم الذي هو جواب من، ويحذفون المتصل به، لأنه قد ذكر في السؤال مرة، فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان، لما في ذلك من التطويل والتكرير.
وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قال المعنى: وما يعلم تأويل (هو) أي اسم [هو] الذي يقال فيه: [هو، هو].
وصنف ابن عربي كتابًا في [الهو] فقلت له وأنا إذ ذاك صغير جدًا: لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة(تأويل هو) ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار.
وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة.
وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا، لكن لا يدل عليه الكلام وليس هو مراد المتكلم، وقد لا يكون صحيحًا.
فيقع الغلط تارة في الحكم، و تارة في الدليل كقول بعضهم: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 7] أي: إن رأى ربه استغنى، والمعني أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى، وكقول بعضهم: (فإن لم تكن تراه): يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك.
وليس هذا معنى الحديث، فإنه لو أريد هذا لقيل: فإن لم تكن تره.
وقد قيل: [تراه] ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله: فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة.
فالتقدير: فإن لم تكن: أي لم تقع، ولم تحصل.
وهذا تقدير محال فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم.
ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للأغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا محال.
ومتى كان المعنى صحيحًا والدلالة ليست مرادة فقد يسمى ذلك [إشارة].
وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي [حقائق التفسير] من هذا قطعة.
وليس المقصود الآن الكلام في هذا فإنه باب آخر، وإنما الغرض بيان حكم ذكر الاسم وحده من غير كلام تام، وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب.
وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية؛ فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانًا ولا كفرًا، ولا هدى ولا ضلالًا، ولا علمًا ولا جهلًا، وقد يذكر الذاكر اسم نبي من الأنبياء، أو فرعون من الفراعنة، أو صنم من الأصنام، ولا يتعلق بمجرد اسمه حكم إلا أن يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات، أو حب أو بغض، وقد يذكر الموجود والمعدوم.
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملة تامة، ولا كلامًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول: أشهد أن محمدًا رسول اللّه.
قال: فعل ماذا؟! فإنه لما نصب الاسم صار صفة، والصفة من تمام الاسم الموصوف، فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن.
ولو كرر الإنسان اسم [اللّه] ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا، ولم يستحق ثواب اللّه ولا جنته؛ فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم مفردًا، سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وقوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [ الأعلى: 1]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74- 96، الحاقة: 52] ونحو ذلك: كان ذكر اسمه بكلام تام مثل أن يقول: بسم اللّه، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك.
ولم يشرع ذكر الاسم المجرد قط، ولا يحصل بذلك امتثال أمر، ولا [حل صيد] ولا ذبيحة ولا غير ذلك.
فإن قيل: فالذاكر أو السامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة، وتعظيم للّه، ونحو ذلك.
قلت: نعم، ويثاب على ذلك الوجد المشروع، والحال الإيماني، لا لأن مجرد الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك باللّه، أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة للّه بقوة نفرته وبغضه لما سمعه، وقد قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية: قال .
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له، فكان ذلك صريح الإيمان، ولا يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به.
والعبد أيضًا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيماناِ وتقوى، وليس السبب مأمورًا به؛ وقد قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية [آل عمران: 173- 174]، فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه اللّه بها، ولا يكون الذنب مأمورًا به، وهذا باب واسع جدًا.
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا، وبين ألا يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل.
فالمأمور به من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات، هي موجبة للخير والرحمة والثواب.
وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده من حلاوة الإيمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة، وما ليس مأمورًا به.
إما من فعل العبد: محرمه ومكروهه ومباحه.
وإما من فعل غيره معه: من الإنس والجن، وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها الرب، إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك الإيمان واليقين، وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن تحب تلك الأسباب، أو تحمد أو يؤمر بها، إذا لم يكن كذلك، فإنها ليست مقتضية لذلك الخير، وإنما مقتضاها تحريك الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر.
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق، والوجل المطلق، وما يتضمن ذلك من نظم ونثر، فإن هذا من المجمل أيضًا: يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فلذلك لم يشرعها اللّه ورسوله، ولم يأمر بها فإن اللّه إنما يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب، فإن شعر المحبين مشترك بين محب الإيمان ومحب الأوثان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الأخدان.
فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبًا، فضلًا عن أن يكون هو ذكر الخاصة.
وأبعد من ذلك ذكر[الاسم المضمر] وهو: [هو]. فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق.
وقد يقول: [لا هو إلا هو] ويسرى قلبه في [وحدة الوجود] ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين بحيث يكون قوله: [هو] كقوله: [وجوده].
وقد يعني بقوله: [لا هو إلا هو] أي: أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلًا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد.
كما بينته من مذهب( الاتحادية) في غير هذا الموضع.
ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم. فإن البدع هي: مبادئ الكفر ومظان الكفر.
كما أن السنن المشروعة هي: مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
كما أخبر اللّه عن زيادته في مثل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [ آل عمران: 173]، وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وغير ذلك.
فإن قيل: إذا لم يكن هذا الذكر مشروعًا.
فهل هو مكروه؟
قلت: أما في حق المغلوب فلا يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلاء القلب بأحوال الإيمان، وربما تيسر عليه ذكر الاسم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلاء يأتون على ما في قلوبهم من أحوال الإيمان وما قدروا عليه من نطق اللسان، فإن الناس في الذكر أربع طبقات.
إحداها: الذكر بالقلب واللسان، وهو المأمور به.
الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للأفضل.
الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون لسانه رطبًا بذكر اللّه، وفيه حكاية التي لم تجد الملائكة فيه خيرًا إلا حركة لسانه بذكر اللّه.
ويقول اللّه تعالى .
الرابع: عدم الأمرين وهو حال الخاسرين.
وأما مع تيسر الكلمة التامة فالاقتصار على مجرد الاسم مكررًا بدعة، والأصل في البدع الكراهة.
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم: من ذكر الاسم المجرد، فمحمول على أنهم مغلوبون، فإن أحوالهم تشهد بذلك، مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة التامة، وعند التنازع يجب الرد إلى اللّه والرسول، وليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة على جنس المشروع المستحب في ذكر اللّه ودعائه كسائر العبادات، وبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الأذكار، كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب وفي صحيحه عن أبي ذر قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل ؟ قال .
وفي [كتاب الذكر] لابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد اللّه بن كريز عن النبي صلى الله عليه وسلم ،، وفي السنن حديث الذي قال .
ولهذا قال الفقهاء: إن من عجز عن القراءة في الصلاة انتقل إلى هذه الكلمات الباقيات الصالحات.
وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه.
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته.
كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فلا يدعي إلا بأسمائه الحسنى.
ومن المنهي عنه: ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
ومثل قول بعض الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل ما كانوا يقولون في أول الإسلام: السلام على اللّه قبل عباده.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
أشار بذلك إلى أن [السلام] إنما يطلب لمن يحتاج إليه، واللّه هو [السلام]، فالسلام يطلب منه لا يطلب له.
بل يثنى عليه، فإنه له فيقال: التحيات للّه والصلوات والطيبات.
فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه، وأما المخلوق فيطلب له.
فيقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57]، والرزق يعم كل ما ينتفع به المرتزق؛ فالإنسان يرزق الطعام والشراب واللباس، وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه، ويرزق ما ينتفع به باطنه من علم وإيمان، وفرح وسرور، وقوة ونور، وتأييد وغير ذلك، واللّه سبحانه ما يريد من الخلق من رزق، فإنهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هو الغني وهم الفقراء.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
وكذلك الدعاء المكروه، مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل الأنبياء أو دعاء الأعرابي الذي قال: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا وقد قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وقال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه.
وإنما نبهنا على جنس المكروه.
وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلامًا تامًا مفيدًا مثل: [لا إله إلا اللّه]، ومثل: [اللّه أكبر]، ومثل [سبحان اللّه والحمد للّه]، ومثل [لا حول ولا قوة إلا باللّه]، ومثل {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان: 1].
فأما( الاسم المفرد) مظهرًا مثل: [اللّه، اللّه] أو [مضمرًا] مثل: [هو، هو].
فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضًا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول: [اللّه، اللّه].
فقيل له: لم لا تقول: لا إله إلا اللّه؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات.
وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان، و يحلق لحيته.
وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا، فإن العبد لو أراد أن يقول: [لا إله إلا اللّه] ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئًا؛ إذ الأعمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه.
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم: [لا إله إلا اللّه] للمؤمنين، و[اللّه] للعارفين، و[هو] للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على [اللّه، اللّه، اللّه].
أو على [هو] أو [يا هو] أو [لا هو إلا هو].
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك.
واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب، كما يروي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول: [اللّه، اللّه، اللّه].
فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا.
ثم أمر عليًا فقالها ثلاثا.
وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
وإنما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر ، وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب حين الموت.
وقال ،، وقال ، وقال ، وقال ، وقال والأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
وقد كتبت فيما تقدم من [القواعد] بعض ما يتعلق بهاتين [الكلمتين] العظيمتين الجامعتين الفارقتين: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فأما ذكر [الاسم المفرد] فلم يشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه.
وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]، ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية، فإنه سبحانه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: قل: اللّه أنزل الكتاب الذي جاء به موسى. فهذا كلام تام، وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب.
وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلام العرب كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} الآية [الزمر: 38]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60]، وكذلك ما بعدها وقوله:{قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون اللّه}على قراءة أبي عمرو، وتقول في الكلام: من جاء؟ فتقول: زيد. ومن أكرمت ؟ فتقول: زيدًا. وبمن مررت؟ فتقول: بزيد. فيذكرون الاسم الذي هو جواب من، ويحذفون المتصل به، لأنه قد ذكر في السؤال مرة، فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان، لما في ذلك من التطويل والتكرير.
وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قال المعنى: وما يعلم تأويل (هو) أي اسم [هو] الذي يقال فيه: [هو، هو].
وصنف ابن عربي كتابًا في [الهو] فقلت له وأنا إذ ذاك صغير جدًا: لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة(تأويل هو) ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار.
وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة.
وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا، لكن لا يدل عليه الكلام وليس هو مراد المتكلم، وقد لا يكون صحيحًا.
فيقع الغلط تارة في الحكم، و تارة في الدليل كقول بعضهم: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 7] أي: إن رأى ربه استغنى، والمعني أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى، وكقول بعضهم: (فإن لم تكن تراه): يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك.
وليس هذا معنى الحديث، فإنه لو أريد هذا لقيل: فإن لم تكن تره.
وقد قيل: [تراه] ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله: فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة.
فالتقدير: فإن لم تكن: أي لم تقع، ولم تحصل.
وهذا تقدير محال فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم.
ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للأغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا محال.
ومتى كان المعنى صحيحًا والدلالة ليست مرادة فقد يسمى ذلك [إشارة].
وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي [حقائق التفسير] من هذا قطعة.
وليس المقصود الآن الكلام في هذا فإنه باب آخر، وإنما الغرض بيان حكم ذكر الاسم وحده من غير كلام تام، وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب.
وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية؛ فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانًا ولا كفرًا، ولا هدى ولا ضلالًا، ولا علمًا ولا جهلًا، وقد يذكر الذاكر اسم نبي من الأنبياء، أو فرعون من الفراعنة، أو صنم من الأصنام، ولا يتعلق بمجرد اسمه حكم إلا أن يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات، أو حب أو بغض، وقد يذكر الموجود والمعدوم.
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملة تامة، ولا كلامًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول: أشهد أن محمدًا رسول اللّه.
قال: فعل ماذا؟! فإنه لما نصب الاسم صار صفة، والصفة من تمام الاسم الموصوف، فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن.
ولو كرر الإنسان اسم [اللّه] ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا، ولم يستحق ثواب اللّه ولا جنته؛ فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم مفردًا، سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وقوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [ الأعلى: 1]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74- 96، الحاقة: 52] ونحو ذلك: كان ذكر اسمه بكلام تام مثل أن يقول: بسم اللّه، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك.
ولم يشرع ذكر الاسم المجرد قط، ولا يحصل بذلك امتثال أمر، ولا [حل صيد] ولا ذبيحة ولا غير ذلك.
فإن قيل: فالذاكر أو السامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة، وتعظيم للّه، ونحو ذلك.
قلت: نعم، ويثاب على ذلك الوجد المشروع، والحال الإيماني، لا لأن مجرد الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك باللّه، أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة للّه بقوة نفرته وبغضه لما سمعه، وقد قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية: قال .
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له، فكان ذلك صريح الإيمان، ولا يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به.
والعبد أيضًا قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيماناِ وتقوى، وليس السبب مأمورًا به؛ وقد قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية [آل عمران: 173- 174]، فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه اللّه بها، ولا يكون الذنب مأمورًا به، وهذا باب واسع جدًا.
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا، وبين ألا يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل.
فالمأمور به من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات، هي موجبة للخير والرحمة والثواب.
وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده من حلاوة الإيمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة، وما ليس مأمورًا به.
إما من فعل العبد: محرمه ومكروهه ومباحه.
وإما من فعل غيره معه: من الإنس والجن، وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها الرب، إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك الإيمان واليقين، وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن تحب تلك الأسباب، أو تحمد أو يؤمر بها، إذا لم يكن كذلك، فإنها ليست مقتضية لذلك الخير، وإنما مقتضاها تحريك الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر.
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق، والوجل المطلق، وما يتضمن ذلك من نظم ونثر، فإن هذا من المجمل أيضًا: يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فلذلك لم يشرعها اللّه ورسوله، ولم يأمر بها فإن اللّه إنما يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب، فإن شعر المحبين مشترك بين محب الإيمان ومحب الأوثان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الأخدان.
فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبًا، فضلًا عن أن يكون هو ذكر الخاصة.
وأبعد من ذلك ذكر[الاسم المضمر] وهو: [هو]. فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق.
وقد يقول: [لا هو إلا هو] ويسرى قلبه في [وحدة الوجود] ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين بحيث يكون قوله: [هو] كقوله: [وجوده].
وقد يعني بقوله: [لا هو إلا هو] أي: أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلًا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد.
كما بينته من مذهب( الاتحادية) في غير هذا الموضع.
ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم. فإن البدع هي: مبادئ الكفر ومظان الكفر.
كما أن السنن المشروعة هي: مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
كما أخبر اللّه عن زيادته في مثل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [ آل عمران: 173]، وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وغير ذلك.
فإن قيل: إذا لم يكن هذا الذكر مشروعًا.
فهل هو مكروه؟
قلت: أما في حق المغلوب فلا يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلاء القلب بأحوال الإيمان، وربما تيسر عليه ذكر الاسم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلاء يأتون على ما في قلوبهم من أحوال الإيمان وما قدروا عليه من نطق اللسان، فإن الناس في الذكر أربع طبقات.
إحداها: الذكر بالقلب واللسان، وهو المأمور به.
الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للأفضل.
الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون لسانه رطبًا بذكر اللّه، وفيه حكاية التي لم تجد الملائكة فيه خيرًا إلا حركة لسانه بذكر اللّه.
ويقول اللّه تعالى .
الرابع: عدم الأمرين وهو حال الخاسرين.
وأما مع تيسر الكلمة التامة فالاقتصار على مجرد الاسم مكررًا بدعة، والأصل في البدع الكراهة.
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم: من ذكر الاسم المجرد، فمحمول على أنهم مغلوبون، فإن أحوالهم تشهد بذلك، مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة التامة، وعند التنازع يجب الرد إلى اللّه والرسول، وليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.