فصل: التفاضل في حقيقة الإيمان
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصل: التفاضل في حقيقة الإيمان
الإجابة: فَصْــل:
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة.
وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه ، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]، فرضاهم لغير اللّه وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبـد حـر مـا قنـع ** والحر عبد ما طمع وقال القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حراً
ويقال: الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيراً إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك.
قال الخليل صلى الله عليه وسلم: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت17].
فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من اللّه صار عبداً للّه، فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة.
وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد.
كقوله صلى الله عليه وسلم: )، هذا المعنى في الصحيح.
وفيه أيضاً: فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: .. وفي صحيح مسلم وغيره، عن عوف ابن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية: ، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد: ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع.
كقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} [الشرح: 7- 8]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ، ومنه قول الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند اللّه؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند اللّه. وقد قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه للّه، فله أن يسأل اللّه، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86].
واللّه تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل.
وقد قيل: إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى.
والصفح الجميل صفح بلا معاتبة.
والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوساً كان يكره أنين المريض، ويقول: إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات .
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83]، وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه}، وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقرأ في الفجر بسورة يونس، و يوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى: (اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: .
وكلما قوى طمع العبد في فضل اللّه ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه.
كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير اللّه، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية للّه، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت.
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58].
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها.
وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير اللّه فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق اللّه وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبداً لغير اللّه، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه.
وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقاً بها، مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه، ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين.
كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ** ومتى إفاقة من بـــه سكران
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبــه ** وإنما يصرع المجنون في الحـين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراض القلب عن اللّه، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة اللّه، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال تعالى في حق يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 42].
فاللّه يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للّه.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية للّه والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعـم الإخـلاص وقوى في قلبه انقهر له هـواه بلا علاج.
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر اللّه، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر اللّه عبادة للّه، وعبادة القلب للّه مقصودة لذاتها.
وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه. فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21]، فجعل سبحانه غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة اللّه، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر.
وهكذا أيضاً طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
منها: ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك.
فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
ومنها: ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار معتمداً على غير اللّه، فلا يبقى معه حقيقة العبادة للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه تعالى وهذا هو الذي استكمل الإيمان. كما في الحديث وقال .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه فكان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق للّه لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه للّه، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء اللّه، وأولياء اللّه؛ لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم للّه لا لغيره، وقد قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فإن الرسول يأمر بما يحب اللّه، وينهى عما يبغضه اللّه، ويفعل ما يحبه اللّه، ويخبر بما يحب اللّه التصديق به، فمن كان محباً للّه لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه اللّه.
فيحبه اللّه، فجعل اللّه لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله.
وذلك؛ لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه اللّه من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، فتوعد من كان أهله وماله، أحب إليه من اللّه ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد.
بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال ، وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له .
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، واللّه يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان.
ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات.
فإذا كان العبد قادراً عليها حصلها.
وإن كان عاجزاً عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال .
والجهاد، هو بذل الوسع، وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلاً على ضعف محبة اللّه ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب للّه ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير اللّه مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم للّه إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل.
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً للّه.
كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}[البقرة: 165]، نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضرراً، ولا تحصل لهم مطلوباً، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه.
وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حباً للّه إزداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى اللّه من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة اللّه له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا اللّه، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته للّه بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا اللّه، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة، لا إله إلا اللّه، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً باللّه متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى اللّه من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته للّه إلا بهذين، فمتى كان يحب غير اللّه، لذاته، أو يلتفت إلى غير اللّه أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه.
وإذا لم يحب لذاته إلا اللّه، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا اللّّه، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهداً أن اللّه هو الذي خلقها وقدرها، وأن كل ما في السموات والأرض فاللّه ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته للّه بحسب ما قسم له من ذلك.
والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها إلا اللّه.
فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى اللّه، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية للّه من هذا الوجه.
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد للّه لا لغيـره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام لـه مستكبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل الكبر مقابلاً للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فالعظمة، والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار.
ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد، هو التكبير، وكان مستحباً في الأمكنة العالية، كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان.
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وكل من استكبر عن عبادة اللّه لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة، فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبـد من مـراد محـبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن اللّه معبوده ومنتهى حبه، وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير اللّه، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون اللّه، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة، والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عبد من دون اللّّه.
وإذا كان عبداً لغير اللّه يكون مشركاً، وكل مستكبر، فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة اللّه، وكان مشركاً .
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} إلى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 23ـ35]، وقال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39]، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127].
بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة اللّه كان أعظم إشراكا باللّه؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة اللّه، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود، مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون اللّه هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه اللّه، ولا يعادي إلا من عاداه اللّه، ولا يحب إلا اللّه، ولا يبغض شيئاً إلا للّه، ولا يعطي إلا للّه، ولا يمنع إلا للّه. فكلما قوى إخلاص دينه للّه كملت عبوديته، واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للّه يبرئه من الكبر والشرك.
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال في اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146].
ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره اللّه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} [النساء: 116]، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل اللّه غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين.
قال نوح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال في حق إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال موسى: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84- 85]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83]، فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار، الخالق البارئ المصور.
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه، ويمانعه.
وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه.
قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، وقال تعالى عن الخليل: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 78-82] .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا" {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر اللّه سبحانه أن يكون الظالم إماماً، وأعظم الظلم الشرك.
وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، والأمة: هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به.
واللّه تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 135- 136].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم خير البرية، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل اللّه تعالى.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال ، وقال يعني نفسه وقال ، وقال وكل هذا في الصحيح.
وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته.
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته للّه، التي أصلها محبة اللّه تعالى للعبد، ومحبة العبد للّه خلافاً للجهمية.
وفي ذلك تحقيق توحيد اللّه، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين.
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر.
والخلة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة للّه، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبداً للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم اللّه عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى:
قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خليلاً بخلاف أصل الحب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة ،، وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال ، وقال لعلى رضي اللّه عنه وأمثال ذلك كثير.
وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، و محبة المؤمنين له، حتى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وأما الخلة فخاصة.
وقول بعض الناس: إن محمداً حبيب اللّه، وإبراهيم خليل اللّه، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمداً أيضاً خليل اللّه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروي وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها.
وقد قدمنا أن من محبة اللّه تعالى محبة ما أحب، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
ومن قال: إن اللذة إدراك الملائم، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطاً بيناً، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلاً يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء؛ بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن. فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان، تتبع كمال محبة العبد للّه، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
فتكميلها: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة اللّه ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم.
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه.
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم اللّه؛ لأنه أكمل الناس محبة للّه، وأحقهم بأن يحب ما يحبه اللّه، ويبغض ما يبغضه اللّه، والخلة ليس لغير اللّه فيها نصيب، بل قال علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.
والمقصود هو أن الخلة والمحبة للّه تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية؛ ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة.
فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها.
وكره من كره من أهل المعرفة، والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا للّه، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من اللّه، ما لا يصلح بكل وجه إلا للّه لا يصلح للأنبياء والمرسلين. وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ.
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قال اللّه تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
فمن كان اللّه يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها، فإن اللّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب ، لا تضره؛ لكون اللّه يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الأحمق ما قص اللّه في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقاماً، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفاً بمصلحته ولا مريداً لها، بل يعمل بمقتضى الحب وإن كان جهلاً وظلماً كان ذلك سبباً لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل لعقوبته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة.
وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه ، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]، فرضاهم لغير اللّه وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبـد حـر مـا قنـع ** والحر عبد ما طمع وقال القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حراً
ويقال: الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيراً إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك.
قال الخليل صلى الله عليه وسلم: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت17].
فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من اللّه صار عبداً للّه، فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة.
وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد.
كقوله صلى الله عليه وسلم: )، هذا المعنى في الصحيح.
وفيه أيضاً: فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: .. وفي صحيح مسلم وغيره، عن عوف ابن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية: ، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد: ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع.
كقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} [الشرح: 7- 8]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ، ومنه قول الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند اللّه؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند اللّه. وقد قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه للّه، فله أن يسأل اللّه، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86].
واللّه تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل.
وقد قيل: إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى.
والصفح الجميل صفح بلا معاتبة.
والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوساً كان يكره أنين المريض، ويقول: إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات .
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83]، وقال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه}، وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقرأ في الفجر بسورة يونس، و يوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى: (اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: .
وكلما قوى طمع العبد في فضل اللّه ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه.
كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير اللّه، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية للّه، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت.
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58].
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها.
وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير اللّه فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق اللّه وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبداً لغير اللّه، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه.
وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقاً بها، مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه، ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين.
كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ** ومتى إفاقة من بـــه سكران
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبــه ** وإنما يصرع المجنون في الحـين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراض القلب عن اللّه، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة اللّه، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال تعالى في حق يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 42].
فاللّه يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للّه.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية للّه والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعـم الإخـلاص وقوى في قلبه انقهر له هـواه بلا علاج.
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر اللّه، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر اللّه عبادة للّه، وعبادة القلب للّه مقصودة لذاتها.
وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه. فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21]، فجعل سبحانه غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة اللّه، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر.
وهكذا أيضاً طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
منها: ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك.
فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
ومنها: ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار معتمداً على غير اللّه، فلا يبقى معه حقيقة العبادة للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه تعالى وهذا هو الذي استكمل الإيمان. كما في الحديث وقال .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه فكان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق للّه لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه للّه، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء اللّه، وأولياء اللّه؛ لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم للّه لا لغيره، وقد قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فإن الرسول يأمر بما يحب اللّه، وينهى عما يبغضه اللّه، ويفعل ما يحبه اللّه، ويخبر بما يحب اللّه التصديق به، فمن كان محباً للّه لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه اللّه.
فيحبه اللّه، فجعل اللّه لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله.
وذلك؛ لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه اللّه من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، فتوعد من كان أهله وماله، أحب إليه من اللّه ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد.
بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال ، وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له .
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، واللّه يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان.
ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات.
فإذا كان العبد قادراً عليها حصلها.
وإن كان عاجزاً عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال .
والجهاد، هو بذل الوسع، وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلاً على ضعف محبة اللّه ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب للّه ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير اللّه مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم للّه إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل.
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً للّه.
كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}[البقرة: 165]، نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضرراً، ولا تحصل لهم مطلوباً، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه.
وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حباً للّه إزداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى اللّه من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة اللّه له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا اللّه، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته للّه بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا اللّه، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة، لا إله إلا اللّه، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً باللّه متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى اللّه من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته للّه إلا بهذين، فمتى كان يحب غير اللّه، لذاته، أو يلتفت إلى غير اللّه أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه.
وإذا لم يحب لذاته إلا اللّه، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا اللّّه، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهداً أن اللّه هو الذي خلقها وقدرها، وأن كل ما في السموات والأرض فاللّه ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته للّه بحسب ما قسم له من ذلك.
والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها إلا اللّه.
فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى اللّه، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية للّه من هذا الوجه.
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد للّه لا لغيـره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام لـه مستكبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل الكبر مقابلاً للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فالعظمة، والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار.
ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد، هو التكبير، وكان مستحباً في الأمكنة العالية، كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان.
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وكل من استكبر عن عبادة اللّه لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة، فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبـد من مـراد محـبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن اللّه معبوده ومنتهى حبه، وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير اللّه، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون اللّه، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة، والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عبد من دون اللّّه.
وإذا كان عبداً لغير اللّه يكون مشركاً، وكل مستكبر، فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة اللّه، وكان مشركاً .
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} إلى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 23ـ35]، وقال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39]، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127].
بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة اللّه كان أعظم إشراكا باللّه؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة اللّه، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود، مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون اللّه هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه اللّه، ولا يعادي إلا من عاداه اللّه، ولا يحب إلا اللّه، ولا يبغض شيئاً إلا للّه، ولا يعطي إلا للّه، ولا يمنع إلا للّه. فكلما قوى إخلاص دينه للّه كملت عبوديته، واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للّه يبرئه من الكبر والشرك.
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال في اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146].
ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره اللّه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} [النساء: 116]، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل اللّه غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين.
قال نوح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، وقال في حق إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال موسى: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84- 85]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83]، فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار، الخالق البارئ المصور.
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه، ويمانعه.
وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه.
قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، وقال تعالى عن الخليل: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 78-82] .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا" {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر اللّه سبحانه أن يكون الظالم إماماً، وأعظم الظلم الشرك.
وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، والأمة: هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به.
واللّه تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 135- 136].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم خير البرية، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل اللّه تعالى.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال ، وقال يعني نفسه وقال ، وقال وكل هذا في الصحيح.
وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته.
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته للّه، التي أصلها محبة اللّه تعالى للعبد، ومحبة العبد للّه خلافاً للجهمية.
وفي ذلك تحقيق توحيد اللّه، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين.
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر.
والخلة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة للّه، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبداً للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم اللّه عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى:
قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خليلاً بخلاف أصل الحب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة ،، وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال ، وقال لعلى رضي اللّه عنه وأمثال ذلك كثير.
وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، و محبة المؤمنين له، حتى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وأما الخلة فخاصة.
وقول بعض الناس: إن محمداً حبيب اللّه، وإبراهيم خليل اللّه، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمداً أيضاً خليل اللّه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروي وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها.
وقد قدمنا أن من محبة اللّه تعالى محبة ما أحب، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
ومن قال: إن اللذة إدراك الملائم، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطاً بيناً، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلاً يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء؛ بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن. فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان، تتبع كمال محبة العبد للّه، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
فتكميلها: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة اللّه ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم.
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه.
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم اللّه؛ لأنه أكمل الناس محبة للّه، وأحقهم بأن يحب ما يحبه اللّه، ويبغض ما يبغضه اللّه، والخلة ليس لغير اللّه فيها نصيب، بل قال علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.
والمقصود هو أن الخلة والمحبة للّه تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية؛ ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة.
فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها.
وكره من كره من أهل المعرفة، والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا للّه، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من اللّه، ما لا يصلح بكل وجه إلا للّه لا يصلح للأنبياء والمرسلين. وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ.
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قال اللّه تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
فمن كان اللّه يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها، فإن اللّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب ، لا تضره؛ لكون اللّه يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الأحمق ما قص اللّه في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقاماً، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفاً بمصلحته ولا مريداً لها، بل يعمل بمقتضى الحب وإن كان جهلاً وظلماً كان ذلك سبباً لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل لعقوبته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.