فصل في معرفة مسألة الأحكام
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: فصل في معرفة مسألة الأحكام
الإجابة: فصل:
فهذا أصل مختصر في [مسألة الأسماء]، وأما [مسألة الأحكام] وحكمه في الدار الآخرة، فالذى عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة، أو مثقال ذرة من إيمان.
وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم: من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب، وأهل السنة والجماعة، وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين، في حق خلق كثير، كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره، وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه، وإما لغير ذلك.
والوعيدية من الخوارج والمعتزلة يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد لهم، مثل قوله:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]، وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد [الأصول الخمسة] التى يكفرون من خالفها، ويخالفون أهل السنة والجماعة في وجوب نفوذ الوعيد فيهم، وفي تخليدهم؛ ولهذا منعت الخوارج والمعتزلة أن يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر في إخراج أهل الكبائر من النار، وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم ، وأحاديثه في إخراجه من النار من قد دخلها.
وليس الغرض هنا تحرير هذه الأصول، وإنما الغرض التنبيه عليها، وكان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة.
فقالوا: يجب أن يدخل فيها كل من شملته، وهو خبر، وخبر الله صدق، فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده، والكذب على الله محال، فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد.
فقال الأولون: نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمناً، وهؤلاء ليسوا مؤمنين.
وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافراً، وكل من القولين خطأ؛ فإن النصوص مثل قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] لم يشترط فيها الكفر، بل هى في حق المتدين بالإسلام.
وقوله ، لم يشترط فيه فعل الواجبات بل قد ثبت في الصحاح .
فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم. وقالوا: ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة، وبعض الأشعرية والشيعية، وإنما التزموا ذلك لئلا /يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد.
وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح، والصيغ صيغ عموم؛ لكن العام يقبل التخصيص، وهذا مذهب جميع الخلائق، من الأولين والآخرين، إلا هذه الشرذمة قالوا: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم.
وقال قوم آخرون: بل إخلاف الوعيد ليس بكذب، وأن العرب لا تعد عاراً أو شَنَاراً أن يوعد الرجل شراً ثم لا ينجزه، كما تعد عاراً أو شَناراً أن يعد خيرا ثم لا ينجزه، وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
نبئت أن رسول الله أوعدنى** والعفو عند رسول الله مأمول
قالوا: فهذا وعيد خاص، وقد رجا فيه العفو، مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلم أن العفو عن المتوعد جائز، وإن لم يكن من باب تخصيص العام.
والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهى، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فكذلك في موارد النزاع.
فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أى في ذلك العمل ونحو ذلك.
فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة.
وبهذا تبين أنا نشهد بأن :{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه، وفائدة الوعيد: بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب،والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتقاء مانعه.
يبين هذا: أنه قد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر: أن رجلا كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
فنهى عن لعن هذا المعيَّن، وهو مُدْمِن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
فهذا أصل مختصر في [مسألة الأسماء]، وأما [مسألة الأحكام] وحكمه في الدار الآخرة، فالذى عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة، أو مثقال ذرة من إيمان.
وأما الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة فيوجبون خلود من دخل النار وعندهم: من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب، وأهل السنة والجماعة، وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين، في حق خلق كثير، كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً، فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره، وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه، وإما لغير ذلك.
والوعيدية من الخوارج والمعتزلة يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد لهم، مثل قوله:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]، وتجعل المعتزلة إنفاذ الوعيد أحد [الأصول الخمسة] التى يكفرون من خالفها، ويخالفون أهل السنة والجماعة في وجوب نفوذ الوعيد فيهم، وفي تخليدهم؛ ولهذا منعت الخوارج والمعتزلة أن يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر في إخراج أهل الكبائر من النار، وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم ، وأحاديثه في إخراجه من النار من قد دخلها.
وليس الغرض هنا تحرير هذه الأصول، وإنما الغرض التنبيه عليها، وكان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة.
فقالوا: يجب أن يدخل فيها كل من شملته، وهو خبر، وخبر الله صدق، فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده، والكذب على الله محال، فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيراً من أهل الكبائر فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد.
فقال الأولون: نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمناً، وهؤلاء ليسوا مؤمنين.
وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافراً، وكل من القولين خطأ؛ فإن النصوص مثل قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] لم يشترط فيها الكفر، بل هى في حق المتدين بالإسلام.
وقوله ، لم يشترط فيه فعل الواجبات بل قد ثبت في الصحاح .
فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم. وقالوا: ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة، وبعض الأشعرية والشيعية، وإنما التزموا ذلك لئلا /يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد.
وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح، والصيغ صيغ عموم؛ لكن العام يقبل التخصيص، وهذا مذهب جميع الخلائق، من الأولين والآخرين، إلا هذه الشرذمة قالوا: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم.
وقال قوم آخرون: بل إخلاف الوعيد ليس بكذب، وأن العرب لا تعد عاراً أو شَنَاراً أن يوعد الرجل شراً ثم لا ينجزه، كما تعد عاراً أو شَناراً أن يعد خيرا ثم لا ينجزه، وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
نبئت أن رسول الله أوعدنى** والعفو عند رسول الله مأمول
قالوا: فهذا وعيد خاص، وقد رجا فيه العفو، مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلم أن العفو عن المتوعد جائز، وإن لم يكن من باب تخصيص العام.
والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهى، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فكذلك في موارد النزاع.
فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أى في ذلك العمل ونحو ذلك.
فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة.
وبهذا تبين أنا نشهد بأن :{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه، وفائدة الوعيد: بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب،والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتقاء مانعه.
يبين هذا: أنه قد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها.
وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر: أن رجلا كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
فنهى عن لعن هذا المعيَّن، وهو مُدْمِن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.