فصل وأما قول القائل: "أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه"
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: فصل وأما قول القائل: "أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه"
الإجابة: فصــل:
وأما قول القائل: أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة، وتقولون: إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة، فما الفرق بين ذلك؟
فيقال له: بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق.
فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس.
وكل من السامعين سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أوغيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا، وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره، والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة، وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه.
فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه، فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله؟ وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب، فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء، وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم، فهذا لا يقوله ذو حس سليم، بل ما بين لوحي المصحف كلام الله، وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره، فهو ملحد مارق.
ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف، أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضاً ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى؟! والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة: أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد.
مثال ذلك: أن الإنسان يقول: رأيت الشمس والقمر والهلال، إذا رآه بغير واسطة، وهذه [الرؤية المطلقة].
وقد يراه في ماء أو مرآة، فهذه [رؤية مقيدة]، فإذا أطلق قوله: رأيته، أو ما رأيته، حمل على مفهوم اللفظ المطلق، وإذا قال: لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة، فهو كلام صحيح مع التقييد، واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد، فإذا وصـل بالكـلام ما يغير معنـاه كالشـرط والاستثناء ونحوهمـا من التخصيصـات المتصلـة كقوله:{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس.
ومن قال: إن هذا مجاز فقد غلط؛ فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام؛ ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، مع أن قول القائل:هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد، فإنه قال فيما كتبه من [الرد على الزنادقة والجهمية] هذا من مجاز القرآن.
وأول من قال ذلك مطلقاً أبو عبيدة معمر بن المثني في كتابه الذي صنفه في [مجاز القرآن]، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يَجُوز في اللغة ويَسُوغ، فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء: عقد لازم وجائز، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة.
والمقصود أن القائل إذا قال: رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة، فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة، وإذا قال قائل: ما رأى ذلك، بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة، وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم" ، هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقاً، فمن قال: ما رآه في المنام حقاً فقد أخطأ، ومن قال: إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ؛ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك.
وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام، وليس هذا كالسماع منه في اليقظة، وقد يرى الرائي في المنام أشخاصاً ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك، وإنما رأى مثالهم، ولكن يقال: رآهم في المنام حقيقة، فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس.
فإن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من اللّه،ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام.
وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الـرؤيا يظهـر لكـل أحـد من الفـرق بينهـا وبين اليقظـة مـا لا يظهـر فـي غيرهـا، فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك، حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا كانت كبيرة مستديرة رؤى كذلك، وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رؤى كذلك، فكذلك في [السماع] يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ، ففي الموضعين المقصود سماع كلامه، كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي، لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين، كما يختلف المرئي باختلاف المرايا، قال تعالى{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }[الشورى:51].
فجعل التكليم ثلاثة أنواع: الوحي المجرد، والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة، وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن، ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن، وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن، فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول، فهذا تكليم مقيد بالإرسال، وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلِّغ لا منه، وهذا القرآن كلام الله مبلغاً عنه مؤدىً عنه، وموسى سمع كلامه مسموعاً منه لا مبلغاً عنه ولا مؤدا عنه، وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه، ويخبر عن ربه، ويحكى عن ربه، فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكياً عنه.
فلو قال من قال: إن القرآن [حكاية]: أن محمداً حكاه عن الله، كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله، لكان قد قصد معنى صحيحاً، لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله: فلانا يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل، قال الله تعالى:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[الإسراء:88].
ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة، لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرآة حصل مقصوده وقال: رأيت الوجه، وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يختلف باختلاف الصائتين.
والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود،كما في [الاسم والمسمى] فإن القائل إذا قال: جاء زيد، وذهب عمرو لم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن [المسمى]، ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك.
فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل: هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو، وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته، فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا؛ ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] وسأله:هل هذا كلام الله، وهل هو مخلوق؟ فأجابه بأنه كلام الله، وأنه غير مخلوق، فنقل عنه أبو طالب خطأ منه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فاستدعاه وغضب عليه، وقال: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ قال: لا، ولكن قرأت عليك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }وقلت لك: هذا غير مخلوق، فقلت: نعم، قال: فلم تحكي عني ما لم أقل؟ لا تقل هذا؛ فإن هذا لم يقله عالم وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروزي وفوران، وبسطها الخلال في كتاب [السنة] وصنف المروزي في [مسألة اللفظ] مصنفاً ذكر فيه أقوال الأئمة.
وهذا الذي ذكره أحمد من أحسن الكلام وأدقه؛ فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به، لا إلى ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم.
فإذا قيل: لفظي، جعل نفس الوسائط غير مخلوقة، وهذا باطل، كما أن من رأى وجهاً في مرآة فقال: أكرم الله هذا الوجه وحياه، أو قبحه، كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال: قد أبدر أو لم يبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله، وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال: هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق.
فلو قال: هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى.
وكان بعضهم يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة، فأوجعه بالضرب، فقال له: لا تضربني، فقال: أنا ما أضربك، وإنما أضرب الفروة، فقال: إنما يقع الضرب علي، فقال: هكذا إذا قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فالخلق إنما يقع على القرآن.
يقول: كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة، فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة، فإذا قلت: مخلوق، وقع ذلك على المقصود، كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت: أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا، انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر؛ ولهذا قال الأئمة: القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف، بخلاف أفعال العباد وأصواتهم، فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعاً ضالاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
وأما قول القائل: أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة، وتقولون: إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة، فما الفرق بين ذلك؟
فيقال له: بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق.
فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه بغير واسطة كسماع الصحابة منه وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس.
وكل من السامعين سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أوغيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا، وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره، والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة، وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه.
فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه، فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله؟ وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب، فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء، وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم، فهذا لا يقوله ذو حس سليم، بل ما بين لوحي المصحف كلام الله، وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره، فهو ملحد مارق.
ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف، أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضاً ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى؟! والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة: أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد.
مثال ذلك: أن الإنسان يقول: رأيت الشمس والقمر والهلال، إذا رآه بغير واسطة، وهذه [الرؤية المطلقة].
وقد يراه في ماء أو مرآة، فهذه [رؤية مقيدة]، فإذا أطلق قوله: رأيته، أو ما رأيته، حمل على مفهوم اللفظ المطلق، وإذا قال: لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة، فهو كلام صحيح مع التقييد، واللفظ يختلف معناه بالإطلاق والتقييد، فإذا وصـل بالكـلام ما يغير معنـاه كالشـرط والاستثناء ونحوهمـا من التخصيصـات المتصلـة كقوله:{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس.
ومن قال: إن هذا مجاز فقد غلط؛ فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام؛ ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، مع أن قول القائل:هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد، فإنه قال فيما كتبه من [الرد على الزنادقة والجهمية] هذا من مجاز القرآن.
وأول من قال ذلك مطلقاً أبو عبيدة معمر بن المثني في كتابه الذي صنفه في [مجاز القرآن]، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يَجُوز في اللغة ويَسُوغ، فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء: عقد لازم وجائز، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة.
والمقصود أن القائل إذا قال: رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة، فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة، وإذا قال قائل: ما رأى ذلك، بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة، وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم" ، هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقاً، فمن قال: ما رآه في المنام حقاً فقد أخطأ، ومن قال: إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ؛ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك.
وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام، وليس هذا كالسماع منه في اليقظة، وقد يرى الرائي في المنام أشخاصاً ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك، وإنما رأى مثالهم، ولكن يقال: رآهم في المنام حقيقة، فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس.
فإن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من اللّه،ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام.
وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الـرؤيا يظهـر لكـل أحـد من الفـرق بينهـا وبين اليقظـة مـا لا يظهـر فـي غيرهـا، فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك، حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا كانت كبيرة مستديرة رؤى كذلك، وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رؤى كذلك، فكذلك في [السماع] يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ، ففي الموضعين المقصود سماع كلامه، كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي، لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين، كما يختلف المرئي باختلاف المرايا، قال تعالى{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }[الشورى:51].
فجعل التكليم ثلاثة أنواع: الوحي المجرد، والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة، وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن، ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن، وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن، فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول، فهذا تكليم مقيد بالإرسال، وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلِّغ لا منه، وهذا القرآن كلام الله مبلغاً عنه مؤدىً عنه، وموسى سمع كلامه مسموعاً منه لا مبلغاً عنه ولا مؤدا عنه، وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه، ويخبر عن ربه، ويحكى عن ربه، فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكياً عنه.
فلو قال من قال: إن القرآن [حكاية]: أن محمداً حكاه عن الله، كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله، لكان قد قصد معنى صحيحاً، لكن يقصدون ما يقصده القائل بقوله: فلانا يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل، قال الله تعالى:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[الإسراء:88].
ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة، لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرآة حصل مقصوده وقال: رأيت الوجه، وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يختلف باختلاف الصائتين.
والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود،كما في [الاسم والمسمى] فإن القائل إذا قال: جاء زيد، وذهب عمرو لم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن [المسمى]، ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك.
فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل: هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو، وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته، فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا؛ ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] وسأله:هل هذا كلام الله، وهل هو مخلوق؟ فأجابه بأنه كلام الله، وأنه غير مخلوق، فنقل عنه أبو طالب خطأ منه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فاستدعاه وغضب عليه، وقال: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ قال: لا، ولكن قرأت عليك: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }وقلت لك: هذا غير مخلوق، فقلت: نعم، قال: فلم تحكي عني ما لم أقل؟ لا تقل هذا؛ فإن هذا لم يقله عالم وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروزي وفوران، وبسطها الخلال في كتاب [السنة] وصنف المروزي في [مسألة اللفظ] مصنفاً ذكر فيه أقوال الأئمة.
وهذا الذي ذكره أحمد من أحسن الكلام وأدقه؛ فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به، لا إلى ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم.
فإذا قيل: لفظي، جعل نفس الوسائط غير مخلوقة، وهذا باطل، كما أن من رأى وجهاً في مرآة فقال: أكرم الله هذا الوجه وحياه، أو قبحه، كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال: قد أبدر أو لم يبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله، وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال: هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق.
فلو قال: هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى.
وكان بعضهم يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة، فأوجعه بالضرب، فقال له: لا تضربني، فقال: أنا ما أضربك، وإنما أضرب الفروة، فقال: إنما يقع الضرب علي، فقال: هكذا إذا قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فالخلق إنما يقع على القرآن.
يقول: كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة، فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة، فإذا قلت: مخلوق، وقع ذلك على المقصود، كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت: أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا، انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر؛ ولهذا قال الأئمة: القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف، بخلاف أفعال العباد وأصواتهم، فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعاً ضالاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.