فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها
الإجابة: فصــل:
فهذان المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنها قديمة وليس لها مبتدأ، وشكلها ونقطها محدث.
وقال الآخر: إنها ليست بكلام الله، وأنها مخلوقة بشكلها ونقطها، وأن القديم هو الله، وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها. وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقاداً، يقال لهما:
يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل، فإن كثيراً من نزاع العقلاء لكونهم لا يتصورون مورد النزاع تصوراً بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنياً على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع.
فأول ما في هذا السؤال قولهما: الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في [المعارف]، وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن مُنَبِّه وكعب الأحبار، ومالك بن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين، إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين، وأيضا فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو .
فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه أن إدريس أول من خاط الثياب، وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرءون كتباً.
والذي في حديث أبي ذر المعروف، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه أنه أنزل عليه شيئاً مكتوباً، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتابا، ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له، ولو كان هذا معروفاً عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن،ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح .
والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها، وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع، ولكن لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض، فيعلم [أبجد هوز]، وليس هذا وحده كلاماً.
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل.
ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير أ، ب، ت، ث، وتفسير [أبجد، هوز، حطي]، ويروونه عن المسيح أنه قاله لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب، كالشريف المزيدي، والشيخ أبي الفرج، وابنه عبد الوهاب وغيرهم.
وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين.
وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين، وعن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره، فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل.
فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير [أبجد، هوز، حطي]، وذكر حديثاً رواه من طريق محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية ابن قُرَّة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذكر تمام الحديث من هذا الجنس.
وذكر حديثاً ثانياً من حديث عبد الرحيم بن واقد، حدثني الفرات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: (ليس شيء إلا وله سبب، وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثاً عجيباً، أما أبو جاد: فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز: فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي: فحطت عنه خطيئته. وأما كلمن: فأكله من الشجرة ومَنَّ عليه بالتوبة) وساق تمام الحديث من هذا الجنس.
وذكر حديثاً ثالثا من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عمن حدثه عن ابن مسعود ومِسعر بن كُدَام، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
أبو جاد: ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز: هاء الهاوية، وذكر حديثاً من هذا الجنس، وذكره عن الربيع بن أنس موقوفاً عليه.
وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثاً، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير:أ، ب، ت، ث من هذا الجنس.
ثم قال ابن جرير: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد، لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها؛ وذلك أن محمد بن زياد الجزري الذي حدث حديث معاوية بن قُرَّة عن فُرات عنه غير موثوق بنقله، وإن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مُلَيْكَة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره.
قلت: إسماعيل بن يحيى هذا يقال له: التيمي، كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق، بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين؛ فإنه حافظ لحديث أهل بلده، كثير الغلط في حديث أولئك، وهـذا متفـق عليـه بين أهـل العـلم بالرجال.
وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم وفرات بن السائب ضعيف أيضاً لا يحتج به، فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً.
وقد تنازع الناس في [أبجد، هوز، حطي]، فقال طائفة: هي أسماء قوم، قيل: أسماء ملوك مدين، أو أسماء قوم كانوا ملوكاً جبابرة.
وقيل : هي أسماء الستة الأيام التي خلق الله فيها الدنيا.
والأول اختيار الطبري.
وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد.
وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب.
والصواب: أن هذه ليست أسماء لمسميات، وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم.
ولفظها: [أبجد، هوز، حطي]، ليس لفظها أبو جاد، هواز.
ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحداً.
والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون : الكاف عشرون... وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون: كل ألف ب، وكل ب ج، فكل ألف ج.
ومثلوا بهذه لكونها ألفاظاً تدل على صورة الشكل، والقياس لا يختص بمادة دون مادة .
كما جعل أهل التصريف لفظ [فعل] تقابل الحروف الأصلية، والزائدة ينطقون بها.
ويقولون: وزن استخرج [استفعل]، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك؛ لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل، والزائد؛ ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن [نَكْتَل] فقال: نفعل، وضحك منه أهل التصريف.
ووزنه عندهم: نفتل، فإن أصله : نكتال، وأصل نكتال : نكتيل.
تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في [نعتد] و [نقتد] من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده. ونحو ذلك في نقتيل، فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها...وجعلت [ثمانية] تكون متحركة؛ وهي الهمزة، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول، وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة؛ ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم، ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء، فجعلوا اللام قبلها فقالوا: [لا] والتي في الأول هي الهمزة المتحركة، فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها [لام ألف]، والصواب أن ينطق بها [لا]، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة، والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها.
الثاني: أن يقال: هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف، مثل قوله: {الم} وقوله: {المص} وقوله: {الم ـ طس ـ حم ـ كهيعص ـ حم ـ عسق ـ ن ـ ق} فهذا كله كلام الله غير مخلوق.
الثالث: أن هذه الحروف إذا وجدت في كلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم، ونوح، ومحمد، وإبراهيم وغير ذلك، فيقال: هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها، لكن لم يتكلم بها مفردة؛ فإن الاسم وحده ليس بكلام، ولكن تكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [الفتح:29]، وقوله :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} إلى قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم :35 ـ 40]، وقوله:{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران :33] ونحو ذلك، ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء، فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل :ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال : أليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك مخلوقاً؟ قال : بلى، قال : فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق.
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق، وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد؛ فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا صفاته، ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة، والصوت الذي سمعه منه موسى، ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو سبحانه قد علم العباد من علمه ما شاء، كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}[البقرة: 255] وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه، فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقاً، ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقاً، فلا يقال : إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به، وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقاً.
وأصل هذا :أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد، يوصف الله به على ما يليق به، ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك؛ مثل الحياة والعلم والقدرة،والسمع والبصر والكلام؛ فإن الله له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر و كلام.
فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه.
فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب، وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب ولا بالعبد.
فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق، ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال: علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق، ولا يماثل صفات الرب.
وإذا قال : العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله: إنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف، فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة.
ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله، فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الُجنُب:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة :2] ينوي به القرآن مُنِع من ذلك، وكان قرآنا، ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئاً، وجاز له ذلك.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه.
فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال: هي من القرآن .
فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] و مقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب: يا يحيي خذ الكتاب لكان هذا مخلوقاً؛ لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص، وبالكتاب ذلك الكتاب ليس مراداً به ما أراده الله بقوله:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ}، والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه.
وقد تنازع الناس في [مسمى الكلام] في الأصل، فقيل: هو اسم اللفظ الدال على المعنى.
وقيل: المعنى المدلول عليه باللفظ.
وقيل : لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي.
وقيل : بل هو اسم عام لهما جميعاً يتناولهما عند الإطلاق، وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة.
هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب.
وهذا كما تنازع الناس في مسمى [الإنسان]: هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعاً،وإن كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق.
فمن سمى شخصاً محمداً وإبراهيم، وقال: جاء محمد وجاء إبراهيم، لم يكن هذا محمداً وإبراهيم المذكورين في القرآن.
ولو قال : محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن، لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن، لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلاما، فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به.
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في [آداب الخلاء] : إنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله، واحتجوا بالحديث الذي في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه.
وكان خاتمه مكتوباً عليه: [محمد رسول الله] محمد سطر، رسول سطر، الله سطر.
ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب، ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك.
وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة، أتاه سعد فقال له: أهذا شيء أمر الله به فَسَمْعاً وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي، بل فعله باجتهاده، فقال: لقد كنا في الجاهلية وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بِقِرًى [أي : بضيافة الضيف].
أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلوا تمرنا! لا يأكلون تمرة واحدة، وبَصَق سعد في الصحيفة وقطعها.
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها، وأيضاً، فقد كره السلف مَحْوَ القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين.
وأما قول القائل: إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ؛ فإن له مبدأ ومنتهى، وهو مسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثاً.
وأيضا، فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاما إلا بالحروف باتفاق الناس، وأما الحروف فهل تكون كلاما بدون الصوت؟ فيه نزاع .
والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة، وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة، والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق.
ومن كلام الله الحروف التي تكلم الله بها.
فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقاً، وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم.
والخط العربي قد قيل: إن مبدأه كان من الأنبار، ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته؛ العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير بعض صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها.
فإن قيل: فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق؟ فإن قلتم: هو من حيث هو غير مخلوق، لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم: مخلوق لزم أن يكون مخلوقاً في كلام الله؟ قيل: قول القائل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو، والعلم من حيث هو هو، والقدرة من حيث هي هي، والوجود من حيث هو هو، ونحو ذلك.
والجواب عن ذلك: أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص به و إن كان اسم الوجود عاما يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك، وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحروف و ليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين.
وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين.
فإذا قيل: إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة، لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة.
وأيضاً، فلفظ [الحرف] يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل: إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله:{الم ـ وحم ـ وطسم ـ وطس ـ ويس ـ وق ـ ون} ونحو ذلك، فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقاً.
وأيضا، فإذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً أمراً يأمر به، أو خبراً يخبره، ليس هو كلام المبلغ له عن غيره؛ إذ ليس علي الرسول إلا البلاغ المبين.
وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال: هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبداً.
وإذا قال القائل: القاف في قوله: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] كالقاف في قوله: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل**
قيل: ما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق.
وفي هذا جواب للطائفتين؛ لمن قاس صفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة، فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود، والحلولية الممثلة أشباه النصارى، دخلوا في هذا وهذا، أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائص التي تختص بالمخلوق؛ كالفقر والبخل، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، والمسلمون يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال، وينزهونه عن الأكفاء والأمثال، فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات؛ فإن المعطل يعبد عَدَماً، والممثل يعبد صَنَماً، والله تعالى{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير }[الشورى:11].
ومما ينبغي أن يعرف: أن كلام المتكلم في نفسه واحد، وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد المنشد قول لَبِيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل كان هذا الكلام كلام لبيد، لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد، وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه، كقوله كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه : أدى الحديث بلفظه، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم.
ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال: اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جَهْمِيٌّ، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع. وفي بعض الروايات عنه: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً، ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق، ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ،وذلك كلام الله لا كلام القارئ، فمن قال: إنه مخلوق فقد قال: إن الله لم يتكلم بهذا القرآن،وأن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله،ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول.
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل أحمد قط: من قال: إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال: لفظي بالقرآن، والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلِّغ له فرق واضح، فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير، و نفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات، الذي يقتضى جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق.
وقال أحمد: نقول: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، أي حيث تلى وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله، فهو كلامه، وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرءون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق، ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار؛ فإنه معلوم أن القرآن واحدٌ ويقرؤه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة قراءة القراء، وإنما يكثر ما يقرءون به القرآن، فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، وبلغه محمد إلى الناس، وأنذر به الأمم؛ لقوله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19] قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق.
وليس هذا من باب ما هو واحد بالنوع متعدد الأعيان، كالإنسانية الموجودة في زيد وعمرو، ولا من باب ما يقول الإنسان مثل قول غيره، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118]، فإن القرآن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، كما قال تعالى:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، فالإنس والجن إذا اجتمعوا لم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع قدرة كل قارئ على أن يقرأه ويبلغه.
فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس هو مثل القرآن، وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره، فليس هذا هو ذاك بعينه، بل هو نظيره، وإذا تكلم الله باسم من الأسماء؛ كآدم ونوح وإبراهيم، وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها، فإذا قرأت في كلامه فقد بلغ كلامه، فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلاماً لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال: إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة؛ فإن بعض من قال : إن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات، وقائل هذا يلزمه أن يكون أيضاً النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وإن أراد بذلك شخصاً اسمه يحيى وكتاباً بحضرته.
فإن قيل: يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن، وإن كان اللفظ نظير اللفظ .
قيل : كذلك سائر الأسماء والحروف إنما يوجد نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله، وقولنا: [يوجد نظيرها في كلام الله] تقريب، أي يوجد فيما نقرؤه ونتلوه؛ فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم في القرآن هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن، وكلا الصوتين مخلوق.
وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين، وكلام الله هو كلامه بنظمه ونثره ومعانيه، وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فإذا قلنا:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه، لا يماثل لفظ المخلوقين و معناهم، وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداء من غير أن نقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكراً ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا، وننطق بلفظه بألسنتنا، وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن، وإن كان نظيره في القرآن.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن .
فجعل درجتها دون درجة القرآن، وهذا يقتضي أنها ليست من القرآن.
ثم قال ، وكلا قوليه حق وصواب؛ ولهذا منع أحمد أن يقال: الإيمان مخلوق.
وقال : لا إله إلا الله من القرآن.
وهذا الكلام لا يجوز أن يقال: إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن، ولا يقال في التوراة والإنجيل : إنهما مخلوقان، ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه: إنها مخلوقة، كقوله ، فكلام الله قد يكون قرآنا وقد لا يكون قرآناً، والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن، وكلام الله كله غير مخلوق.
فإذا فهم هذا في مثل هذا، فليفهم في نظائره، وأن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال: إنه من كلام الله باعتبار، ويقال: ليس من كلام الله باعتبار، كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار، لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق، وكلام المخلوقين كله مخلوق، فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق، وما كان من كلام غيره فهو مخلوق.
وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته، بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد.
مثال ذلك: أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، قرؤوه بحركاتهم وأصواتهم.
فقال الجهمي: أصوات العباد ومدادهم مخلوقة، وهذا هو المسمى بكلام الله، أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله، فيكون كلام الله مخلوقاً.
وقال الحلولي الاتحادي الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق الذي نسمعه من القراء هو كلام الله، وإنما نسمع أصوات العباد، فأصوات العباد بالقرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة، ثم قالوا: الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة، وزاد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة، كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق، والأعمال غير مخلوقة.
وزاد بعضهم أعمال الخير والشر، وقال: هي القدر والشرع المشروع، وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال الحركات، بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة، كما ورد في الحديث الصحيح ، فيقال له : و هذا الثواب مخلوق.
وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق، وبذلك أجابوا من احتج على خلق القرآن بمثل هذا الحديث، فقالوا له: الذي يجيء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن، وثواب القرآن مخلوق، إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف، والبدع تنشأ شيئاً فشيئاً، وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع أخر.
وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول، ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية، وطلب منهم تعطيل الصفات، وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق،وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة؛ فدفع حجج المعارضين النفاة، وأظهر دلالة الكتاب والسنة، وأن السلف كانوا على الإثبات، فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:42].
ولهذا قيل فيه رحمه الله : عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره، فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه.
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح،ولكن كثيراً من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ؛ ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل، قال: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إليَّ من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه.
والفقه فيه: معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية، أحب إلىَّ من أن يحفظ من غير معرفة وفقه.
وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أتي من نفسه.
وكذلك العقليات الصريحة، إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد.
ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذَّاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها، قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33]، وقال:{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [الروم:58]، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:12].
وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة، وحجج الجهمية مُعَطِّلَة الصفات، وحجج الدهرية وأمثالها؛ كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر.
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين، أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه السلف، ومعرفة المعقول الصريح؛ فإن هذا هو الكتاب، وهذا هو الميزان، وقد قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد:25].
وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور؛ إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق،ثم قال هؤلاء: وصفة المخلوق مخلوقة، فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء: صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة.
ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله، فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد؛ خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن، ولا بشيء من الكتب الإلهية، لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى، ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديماً أزلياً، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائماً بهم حالا فيهم، بل يكون ظاهراً عنهم من غير قيام بهم.
ولما تكلموا في [حروف المعجم] صاروا بين قولين: طائفة فرقت بين المتماثلين، فقالت: الحرف حرفان، هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا: هذا مخالفة للحس والعقل؛ فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا: الحرف حرف واحد.
وصنف في ذلك القاضي يعقوب البَرْزَبَيْني [وهو يعقوب بن إبراهيم البرزبيني، من فقهاء الحنابلة، من أهل [برزبين] من قرى بغداد، تفقه ببغداد، وولى بها قضاء باب الأزج، له كتب في الأصول والفروع منها [التعليقة] في الفقه والخلاف، ولد سنة 904هـ، وتوفى سنة 486هـ] .
مصنفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه: وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتا منه، ولا أكثر اجتهاداً منه، ولا تشاغلا بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئاً من نفر من الدنيا.
وذكر القاضي يعقوب في مصنفه: أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبه قاضي حَرَّان يقول: هو مذهب العلوي الحراني، وجماعة من أهل حران.
وذكره أبو عبد الله ابن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا ؛ كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكَلْواذاني في خلق من أتباعهم يقولون: إنها قديمة، قال القاضي أبو يعلى: وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا.
وذكروه عن الشريف أبي علي ابن أبي موسى، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه، وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله.
وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين.
وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له: إن سريا السقطي قال: لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أومر.
فقال أحمد: هذا كفر.
وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله: كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله: لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن، كما لا تتم بغيره من كلام الناس.
وبقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي: ألست مخلوقاً ؟ قال: بلى، قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً ؟ قال : بلى، قال: فكلامك منك وهو مخلوق.
قلت: الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال: إن الله خلق الحروف؛ فإن من قال: إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله: إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئاً منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خُنَيْس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما ، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط، ليست هي مضطجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر.
وأحمد أنكر قول القائل: [إن الله لما خلق الحروف]، وروي عنه أنه قال: من قال: إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال: إن ذلك مخلوق فقد قال: إن القرآن مخلوق.
وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع؛ لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته.
وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف : إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم : إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل و لايزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته،وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في [كتاب السنة] وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه؛ كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، وأبي داود السجستاني صاحب [السنن] والأثرم، والمروزي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري صاحب الصحيح، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره؛ كعبد الرحمن ابن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصبهاني، وأمثال هؤلاء، ومن كانـ أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع، كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر.
وقد ذكرنا في [المسائل الطبرستانية] و [الكيلانية] بسط مذاهب الناس، وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل.
والمقصود هنا أن كثيراً من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول: إنه متبع لهم، مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية، وذلك لجهله بعلمهم، بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعا فاسدة يلتزمونها، كما صرحوا في تكلم الله تعالى بالقرآن العربي، وبالتوراة العبرية، وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفاً أو مفرداً، لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع الجمع والفرق، فقال هؤلاء: هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق.
وقال هؤلاء: هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق.
كما ذكر ابن عقيل في [كتاب الإرشاد] عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق، فقال: شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم.
فقال : أقل ما في القرآن من أمارات الحدث كونه مشبهاً لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك؛ لأن قول القائل لغلامه يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسدّه، مع أنه إن جاز دعوى قدم الكلام مع كونه مشاهداً للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفاً من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما: إن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد : إنه قديم محدث.
قلت : وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البَرْزَبَيْنِيّ ذكره في مصنفه فقال: (دليل عاشر) وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم؛ وكذلك هاهنا.
قال: فإن قيل: لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل : لا نسلم، بل لها حرمة.
فإن قيل: لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل: قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها، كما يقال في الصبي: يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه.
فإن قيل: فيجب إذا حلف بها حالف أن تنعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا.
فإن قيل: أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى مثل قوله: يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك؛ فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله، وإن كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة؟.
قيل: كل ما كان موافقاً لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي.
فإن قيل: فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدمياً وهو في الصلاة ألا تبطل صلاته.
قيل له: كذلك نقول، وقد ورد مثل ذلك عن علي وغيره، إذ ناداه رجل من الخوارج:{ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [الزمر:56] قال: فأجابه على وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال:{ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ }[يوسف:99].
قال: فإن قيل: أليس إذا قال:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً؟ وإن نوى به القرآن يكون قديماً، قيل له: في كلا الحالين يكون قديماً؛ لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديماً ولا القديم محدثاً، قال: ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ.
وقال أيضاً: كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض، ولا يشبهه من جميع أحواله؛ لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها.
ا هـ. قلت: هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله، مع أنه أجَلّ من تكلم في هذه المسألة، ولما كان جوابه مشتملا على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به.
وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا : هذا مثل هذا، بأن قال: الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالما هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يتبينه الواحد منا، وليس مماثلا لنا في كوننا عالمين.
وكذلك كونه قادراً هو صحة الفعل منه سبحانه وتعالى وليست قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلا، والافتراق في القدم والحدوث حاصل.
قال:وجواب آخر:لا نقول: إن الله يتكلم بكلامه على الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى: أنه يقول: يا يحيى، فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله: خذ الكتاب بقوة، وترتب في الوجود كذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل: يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه يشابه الكلام القائم بذاته فلا.
قال ابن عقيل: قالوا: فهذا لا يجيء على مذهبكم؛ فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء.
قيل : ليس معنى قولنا: هي المتلو، أنها هذه الأصوات المقطعة، وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لابد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس، وإدارة اللهوات؛ لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع، والابتداء، والانتهاء، والتكرار، والبعدية، والقبلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
فهذان المتنازعان اللذان تنازعا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فقال أحدهما: إنها قديمة وليس لها مبتدأ، وشكلها ونقطها محدث.
وقال الآخر: إنها ليست بكلام الله، وأنها مخلوقة بشكلها ونقطها، وأن القديم هو الله، وكلامه منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، ولكنه كتب بها. وسؤالهما أن نبين لهما الصواب وأيهما أصح اعتقاداً، يقال لهما:
يحتاج بيان الصواب إلى بيان ما في السؤال من الكلام المجمل، فإن كثيراً من نزاع العقلاء لكونهم لا يتصورون مورد النزاع تصوراً بينا، وكثير من النزاع قد يكون الصواب فيه في قول آخر غير القولين اللذين قالاهما، وكثير من النزاع قد يكون مبنياً على أصل ضعيف إذا بين فساده ارتفع النزاع.
فأول ما في هذا السؤال قولهما: الأحرف التي أنزلها الله على آدم، فإنه قد ذكر بعضهم أن الله أنزل عليه حروف المعجم مفرقة مكتوبة، وهذا ذكره ابن قتيبة في [المعارف]، وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبري ونحوه، وهذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن مُنَبِّه وكعب الأحبار، ومالك بن دينار، ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين، إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين، وأيضا فهذا النقل قد عارضه نقل آخر وهو .
فهذا منقول عن بعض السلف وهو مثل ذلك وأقوى، فقد ذكروا فيه أن إدريس أول من خاط الثياب، وخط بالقلم، وعلى هذا فبنو آدم من قبل إدريس لم يكونوا يكتبون بالقلم ولا يقرءون كتباً.
والذي في حديث أبي ذر المعروف، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه أنه أنزل عليه شيئاً مكتوباً، فليس فيه أن الله أنزل على آدم صحيفة ولا كتابا، ولا هذا معروف عند أهل الكتاب، فهذا يدل على أن هذا لا أصل له، ولو كان هذا معروفاً عند أهل الكتاب لكان هذا النقل ليس هو في القرآن،ولا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من جنس الأحاديث الإسرائيلية التي لا يجب الإيمان بها، بل ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح .
والله سبحانه علم آدم الأسماء كلها، وأنطقه بالكلام المنظوم، وأما تعليم حروف مقطعة لا سيما إذا كانت مكتوبة فهو تعليم لا ينفع، ولكن لما أرادوا تعليم المبتدئ بالخط صاروا يعلمونه الحروف المفردة حروف الهجاء، ثم يعلمونه تركيب بعضها إلى بعض، فيعلم [أبجد هوز]، وليس هذا وحده كلاماً.
فهذا المنقول عن آدم من نزول حروف الهجاء عليه لم يثبت به نقل.
ولم يدل عليه عقل، بل الأظهر في كليهما نفيه، وهو من جنس ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير أ، ب، ت، ث، وتفسير [أبجد، هوز، حطي]، ويروونه عن المسيح أنه قاله لمعلمه في الكتاب، وهذا كله من الأحاديث الواهية بل المكذوبة، ولا يجوز باتفاق أهل العلم بالنقل أن يحتج بشيء من هذه، وإن كان قد ذكرها طائفة من المصنفين في هذا الباب، كالشريف المزيدي، والشيخ أبي الفرج، وابنه عبد الوهاب وغيرهم.
وقد يذكر ذلك طائفة من المفسرين والمؤرخين، فهذا كله عند أهل العلم بهذا الباب باطل لا يعتمد عليه في شيء من الدين.
وهذا وإن كان قد ذكره أبو بكر النقاش وغيره من المفسرين، وعن النقاش ونحوه نقله الشريف المزيدي الحراني وغيره، فأجل من ذكر ذلك من المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وقد بين في تفسيره أن كل ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل.
فذكر في آخر تفسيره اختلاف الناس في تفسير [أبجد، هوز، حطي]، وذكر حديثاً رواه من طريق محمد بن زياد الجزري، عن فرات بن أبي الفرات، عن معاوية ابن قُرَّة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذكر تمام الحديث من هذا الجنس.
وذكر حديثاً ثانياً من حديث عبد الرحيم بن واقد، حدثني الفرات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: (ليس شيء إلا وله سبب، وليس كل أحد يفطن له ولا بلغه ذلك، إن لأبي جاد حديثاً عجيباً، أما أبو جاد: فأبى آدم الطاعة وجد في أكل الشجرة، وأما هوز: فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما حطي: فحطت عنه خطيئته. وأما كلمن: فأكله من الشجرة ومَنَّ عليه بالتوبة) وساق تمام الحديث من هذا الجنس.
وذكر حديثاً ثالثا من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عمن حدثه عن ابن مسعود ومِسعر بن كُدَام، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
أبو جاد: ألف آلاء الله، وباء بهاء الله، وجيم جمال الله، ودال الله الدائم، وهوز: هاء الهاوية، وذكر حديثاً من هذا الجنس، وذكره عن الربيع بن أنس موقوفاً عليه.
وروى أبو الفرج المقدسي عن الشريف المزيدي حديثاً، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير:أ، ب، ت، ث من هذا الجنس.
ثم قال ابن جرير: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد، لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها؛ وذلك أن محمد بن زياد الجزري الذي حدث حديث معاوية بن قُرَّة عن فُرات عنه غير موثوق بنقله، وإن عبد الرحيم بن واقد الذي خالفه في رواية ذلك عن الفرات مجهول غير معروف عند أهل النقل، وإن إسماعيل بن يحيى الذي حدث عن ابن أبي مُلَيْكَة غير موثوق بروايته ولا جائز عند أهل النقل الاحتجاج بأخباره.
قلت: إسماعيل بن يحيى هذا يقال له: التيمي، كوفي معروف بالكذب، ورواية إسماعيل بن عياش في غير الشاميين لا يحتج بها، بل هو ضعيف فيما ينقله عن أهل الحجاز وأهل العراق، بخلاف ما ينقله عن شيوخه الشاميين؛ فإنه حافظ لحديث أهل بلده، كثير الغلط في حديث أولئك، وهـذا متفـق عليـه بين أهـل العـلم بالرجال.
وعبد الرحمن بن واقد لا يحتج به باتفاق أهل العلم وفرات بن السائب ضعيف أيضاً لا يحتج به، فهو فرات بن أبي الفرات، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً.
وقد تنازع الناس في [أبجد، هوز، حطي]، فقال طائفة: هي أسماء قوم، قيل: أسماء ملوك مدين، أو أسماء قوم كانوا ملوكاً جبابرة.
وقيل : هي أسماء الستة الأيام التي خلق الله فيها الدنيا.
والأول اختيار الطبري.
وزعم هؤلاء أن أصلها أبو جاد مثل أبي عاد.
وهواز مثل رواد وجواب، وأنها لم تعرب لعدم العقد والتركيب.
والصواب: أن هذه ليست أسماء لمسميات، وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم.
ولفظها: [أبجد، هوز، حطي]، ليس لفظها أبو جاد، هواز.
ثم كثير من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحداً.
والباء اثنين، والجيم ثلاثة، إلى الياء، ثم يقولون : الكاف عشرون... وآخرون من أهل الهندسة والمنطق يجعلونها علامات على الخطوط المكتوبة، أو على ألفاظ الأقيسة المؤلفة كما يقولون: كل ألف ب، وكل ب ج، فكل ألف ج.
ومثلوا بهذه لكونها ألفاظاً تدل على صورة الشكل، والقياس لا يختص بمادة دون مادة .
كما جعل أهل التصريف لفظ [فعل] تقابل الحروف الأصلية، والزائدة ينطقون بها.
ويقولون: وزن استخرج [استفعل]، وأهل العروض يزنون بألفاظ مؤلفة من ذلك؛ لكن يراعون الوزن من غير اعتبار بالأصل، والزائد؛ ولهذا سئل بعض هؤلاء عن وزن [نَكْتَل] فقال: نفعل، وضحك منه أهل التصريف.
ووزنه عندهم: نفتل، فإن أصله : نكتال، وأصل نكتال : نكتيل.
تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم لما جزم الفعل سقطت، كما نقول مثل ذلك في [نعتد] و [نقتد] من اعتاد يعتاد واقتاد البعير يقتاده. ونحو ذلك في نقتيل، فلما حذفوا الألف التي تسمى لام الكلمة صار وزنها...وجعلت [ثمانية] تكون متحركة؛ وهي الهمزة، وتكون ساكنة وهي حرفان على الاصطلاح الأول، وحرف واحد على الثاني، والألف تقرن بالواو والياء لأنهن حروف العلة؛ ولهذا ذكرت في آخر حروف المعجم، ونطقوا بأول لفظ كل حرف منها إلا الألف فلم يمكنهم أن ينطقوا بها ابتداء، فجعلوا اللام قبلها فقالوا: [لا] والتي في الأول هي الهمزة المتحركة، فإن الهمزة في أولها، وبعض الناس ينطق بها [لام ألف]، والصواب أن ينطق بها [لا]، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن العلم لا بد فيه من نقل مصدق ونظر محقق، وأما النقول الضعيفة لا سيما المكذوبة فلا يعتمد عليها، وكذلك النظريات الفاسدة، والعقليات الجهلية الباطلة لا يحتج بها.
الثاني: أن يقال: هذه الحروف الموجودة في القرآن العربي قد تكلم الله بها بأسماء حروف، مثل قوله: {الم} وقوله: {المص} وقوله: {الم ـ طس ـ حم ـ كهيعص ـ حم ـ عسق ـ ن ـ ق} فهذا كله كلام الله غير مخلوق.
الثالث: أن هذه الحروف إذا وجدت في كلام العباد، وكذلك الأسماء الموجودة في القرآن إذا وجدت في كلام العباد مثل آدم، ونوح، ومحمد، وإبراهيم وغير ذلك، فيقال: هذه الأسماء وهذه الحروف قد تكلم الله بها، لكن لم يتكلم بها مفردة؛ فإن الاسم وحده ليس بكلام، ولكن تكلم بها في كلامه الذي أنزله في مثل قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [الفتح:29]، وقوله :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} إلى قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم :35 ـ 40]، وقوله:{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران :33] ونحو ذلك، ونحن إذا تكلمنا بكلام ذكرنا فيه هذه الأسماء، فكلامنا مخلوق وحروف كلامنا مخلوقة، كما قال أحمد بن حنبل لرجل :ألست مخلوقاً؟ قال: بلى، قال : أليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: أليس كلامك مخلوقاً؟ قال : بلى، قال : فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه منه ليس بمخلوق.
فقد نص أحمد وغيره على أن كلام العباد مخلوق، وهم إنما يتكلمون بالأسماء والحروف التي يوجد نظيرها في كلام الله تعالى لكن الله تعالى تكلم بها بصوت نفسه وحروف نفسه وذلك غير مخلوق، وصفات الله تعالى لا تماثل صفات العباد؛ فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا صفاته، ولا أفعاله، والصوت الذي ينادي به عباده يوم القيامة، والصوت الذي سمعه منه موسى، ليس كأصوات شيء من المخلوقات، والصوت المسموع هو حروف مؤلفة وتلك لا يماثلها شيء من صفات المخلوقين، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من الصفات، وهو سبحانه قد علم العباد من علمه ما شاء، كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}[البقرة: 255] وهم إذا علمهم الله ما علمهم من علمه، فنفس علمه الذي اتصف به ليس مخلوقاً، ونفس العباد وصفاتهم مخلوقة، لكن قد ينظر الناظر إلى مسمى العلم مطلقاً، فلا يقال : إن ذلك العلم مخلوق لاتصاف الرب به، وإن كان ما يتصف به العبد مخلوقاً.
وأصل هذا :أن ما يوصف الله به ويوصف به العباد، يوصف الله به على ما يليق به، ويوصف به العباد بما يليق بهم من ذلك؛ مثل الحياة والعلم والقدرة،والسمع والبصر والكلام؛ فإن الله له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر و كلام.
فكلامه يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه، والعبد له حياة وعلم وقدرة، وسمع وبصر وكلام، وكلام العبد يشتمل على حروف وهو يتكلم بصوت نفسه.
فهذه الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب، وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب ولا بالعبد.
فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك، فهذا كله غير مخلوق، ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال: علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد، فهذا كله مخلوق، ولا يماثل صفات الرب.
وإذا قال : العلم والقدرة والكلام، فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله: إنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق، بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق، فالصفة تتبع الموصوف، فإن كان الموصوف هو الخالق فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق فصفاته مخلوقة.
ثم إذا قرأ بأم القرآن وغيرها من كلام الله، فالقرآن في نفسه كلام الله غير مخلوق، وإن كان حركات العباد وأصواتهم مخلوقة، ولو قال الُجنُب:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة :2] ينوي به القرآن مُنِع من ذلك، وكان قرآنا، ولو قاله ينوي به حمد الله لا يقصد به القراءة لم يكن قارئاً، وجاز له ذلك.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه.
فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن وقال: هي من القرآن .
فهي من القرآن باعتبار، وليست من القرآن باعتبار، ولو قال القائل:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] و مقصوده القرآن كان قد تكلم بكلام الله ولم تبطل صلاته باتفاق العلماء، وإن قصد مع ذلك تنبيه غيره لم تبطل صلاته عند جمهور العلماء، ولو قال لرجل اسمه يحيى وبحضرته كتاب: يا يحيي خذ الكتاب لكان هذا مخلوقاً؛ لأن لفظ يحيى هنا مراد به ذلك الشخص، وبالكتاب ذلك الكتاب ليس مراداً به ما أراده الله بقوله:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ}، والكلام كلام المخلوق بلفظه ومعناه.
وقد تنازع الناس في [مسمى الكلام] في الأصل، فقيل: هو اسم اللفظ الدال على المعنى.
وقيل: المعنى المدلول عليه باللفظ.
وقيل : لكل منهما بطريق الاشتراك اللفظي.
وقيل : بل هو اسم عام لهما جميعاً يتناولهما عند الإطلاق، وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة وهذا تارة.
هذا قول السلف وأئمة الفقهاء وإن كان هذا القول لا يعرف في كثير من الكتب.
وهذا كما تنازع الناس في مسمى [الإنسان]: هل هو الروح فقط أو الجسد فقط؟ والصحيح أنه اسم للروح والجسد جميعاً،وإن كان مع القرينة قد يراد به هذا تارة وهذا تارة، فتنازعهم في مسمى النطق كتنازعهم في مسمى الناطق.
فمن سمى شخصاً محمداً وإبراهيم، وقال: جاء محمد وجاء إبراهيم، لم يكن هذا محمداً وإبراهيم المذكورين في القرآن.
ولو قال : محمد رسول الله، وإبراهيم خليل الله، يعني به خاتم الرسل وخليل الرحمن، لكان قد تكلم بمحمد وإبراهيم الذي في القرآن، لكن قد تكلم بالاسم وألفه كلاما، فهو كلامه لم يتكلم به في القرآن العربي الذي تكلم الله به.
ومما يوضح ذلك أن الفقهاء قالوا في [آداب الخلاء] : إنه لا يستصحب ما فيه ذكر الله، واحتجوا بالحديث الذي في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه.
وكان خاتمه مكتوباً عليه: [محمد رسول الله] محمد سطر، رسول سطر، الله سطر.
ولم يمنع أحد من العلماء أن يستصحب ما يكون فيه كلام العباد وحروف الهجاء مثل ورق الحساب الذي يكتب فيه أهل الديوان الحساب، ومثل الأوراق التي يكتب فيها الباعة ما يبيعونه ونحو ذلك.
وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح غطفان على نصف تمر المدينة، أتاه سعد فقال له: أهذا شيء أمر الله به فَسَمْعاً وطاعة، أم شيء تفعله لمصلحتنا؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك بوحي، بل فعله باجتهاده، فقال: لقد كنا في الجاهلية وما كانوا يأكلون منها تمرة إلا بِقِرًى [أي : بضيافة الضيف].
أو بشراء، فلما أعزنا الله بالإسلام يريدون أن يأكلوا تمرنا! لا يأكلون تمرة واحدة، وبَصَق سعد في الصحيفة وقطعها.
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يقل هذه حروف، فلا يجوز إهانتها والبصاق فيها، وأيضاً، فقد كره السلف مَحْوَ القرآن بالرجل ولم يكرهوا محو ما فيه كلام الآدميين.
وأما قول القائل: إن الحروف قديمة أو حروف المعجم قديمة، فإن أراد جنسها فهذا صحيح، وإن أراد الحرف المعين فقد أخطأ؛ فإن له مبدأ ومنتهى، وهو مسبوق بغيره، وما كان كذلك لم يكن إلا محدثاً.
وأيضا، فلفظ الحروف مجمل، يراد بالحروف الحروف المنطوقة المسموعة التي هي مباني الكلام، ويراد بها الحروف المكتوبة، ويراد بها الحروف المتخيلة في النفس، والصوت لا يكون كلاما إلا بالحروف باتفاق الناس، وأما الحروف فهل تكون كلاما بدون الصوت؟ فيه نزاع .
والحرف قد يراد به الصوت المقطع، وقد يراد به نهاية الصوت وحده، وقد يراد بالحروف المداد، وقد يراد بالحروف شكل المداد، فالحروف التي تكلم الله بها غير مخلوقة، وإذا كتبت في المصحف قيل كلام الله المكتوب في المصحف غير مخلوق، وأما نفس أصوات العباد فمخلوقة، والمداد مخلوق وشكل المداد مخلوق، فالمداد مخلوق بمادته وصورته، وكلام الله المكتوب بالمداد غير مخلوق.
ومن كلام الله الحروف التي تكلم الله بها.
فإذا كتبت بالمداد لم تكن مخلوقة وكان المداد مخلوقاً، وأشكال الحروف المكتوبة مما يختلف فيها اصطلاح الأمم.
والخط العربي قد قيل: إن مبدأه كان من الأنبار، ومنها انتقل إلى مكة وغيرها، والخط العربي تختلف صورته؛ العربي القديم فيه تكوف، وقد اصطلح المتأخرون على تغيير بعض صوره، وأهل المغرب لهم اصطلاح ثالث حتى في نقط الحروف وترتيبها، وكلام الله المكتوب بهذه الخطوط كالقرآن العربي هو في نفسه لا يختلف باختلاف الخطوط التي يكتب بها.
فإن قيل: فالحرف من حيث هو مخلوق أو غير مخلوق مع قطع النظر عن كونه في كلام الخالق أو كلام المخلوق؟ فإن قلتم: هو من حيث هو غير مخلوق، لزم أن يكون غير مخلوق في كلام العباد، وإن قلتم: مخلوق لزم أن يكون مخلوقاً في كلام الله؟ قيل: قول القائل الحرف من حيث هو هو كقوله الكلام من حيث هو هو، والعلم من حيث هو هو، والقدرة من حيث هي هي، والوجود من حيث هو هو، ونحو ذلك.
والجواب عن ذلك: أن هذه الأمور وغيرها إذا أخذت مجردة مطلقة غير مقيدة ولا مشخصة لم يكن لها حقيقة في الخارج عن الأذهان إلا شيء معين، فليس ثم وجود إلا وجود الخالق أو وجود المخلوق، ووجود كل مخلوق مختص به و إن كان اسم الوجود عاما يتناول ذلك كله، وكذلك العلم والقدرة اسم عام يتناول أفراد ذلك، وليس في الخارج إلا علم الخالق وعلم المخلوق، وعلم كل مخلوق مختص به قائم به، واسم الكلام والحروف يعم كل ما يتناوله لفظ الكلام والحروف و ليس في الخارج إلا كلام الخالق وكلام المخلوقين.
وكلام كل مخلوق مختص به واسم الكلام يعم كل ما يتناوله هذا اللفظ، وليس في الخارج إلا الحروف التي تكلم الله بها الموجودة في كلام الخالق، والحروف الموجودة في كلام المخلوقين.
فإذا قيل: إن علم الرب وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة، لم يلزم من ذلك أن يكون علم العبد وقدرته وكلامه غير مخلوق، وحروف كلامه غير مخلوقة.
وأيضاً، فلفظ [الحرف] يتناول الحرف المنطوق والحرف المكتوب، وإذا قيل: إن الله تكلم بالحروف المنطوقة كما تكلم بالقرآن العربي وبقوله:{الم ـ وحم ـ وطسم ـ وطس ـ ويس ـ وق ـ ون} ونحو ذلك، فهذا كلامه وكلامه غير مخلوق، وإذا كتب في المصاحف كان ما كتب من كلام الرب غير مخلوق وإن كان المداد وشكله مخلوقاً.
وأيضا، فإذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً أمراً يأمر به، أو خبراً يخبره، ليس هو كلام المبلغ له عن غيره؛ إذ ليس علي الرسول إلا البلاغ المبين.
وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال: هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد كحركته وحياته، وقد يشار إليهما، فالمشار إليه الأول غير مخلوق، والمشار إليه الثاني مخلوق، والمشار إليه الثالث فمنه مخلوق ومنه غير مخلوق، وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا هو نظير صفة العبد لا نظير صفة الرب أبداً.
وإذا قال القائل: القاف في قوله: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] كالقاف في قوله: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل**
قيل: ما تكلم الله به وسمع منه لا يماثل صفة المخلوقين، ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما بلغناه بصفاتنا وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق.
وفي هذا جواب للطائفتين؛ لمن قاس صفة المخلوق بصفة الخالق فجعلها غير مخلوقة، فإن الجهمية المعطلة أشباه اليهود، والحلولية الممثلة أشباه النصارى، دخلوا في هذا وهذا، أولئك مثلوا الخالق بالمخلوق فوصفوه بالنقائص التي تختص بالمخلوق؛ كالفقر والبخل، وهؤلاء مثلوا المخلوق بالخالق فوصفوه بخصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله، والمسلمون يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما يستحقه من صفات الكمال، وينزهونه عن الأكفاء والأمثال، فلا يعطلون الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات؛ فإن المعطل يعبد عَدَماً، والممثل يعبد صَنَماً، والله تعالى{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير }[الشورى:11].
ومما ينبغي أن يعرف: أن كلام المتكلم في نفسه واحد، وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد المنشد قول لَبِيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل كان هذا الكلام كلام لبيد، لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد، وكذلك من روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه، كقوله كان هذا الكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه : أدى الحديث بلفظه، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم.
ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة يقولون: من قال: اللفظ بالقرآن أو لفظي بالقرآن مخلوق فهو جَهْمِيٌّ، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع. وفي بعض الروايات عنه: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق يعني به القرآن فهو جهمي؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً، ومسمى هذا فعل العبد وفعل العبد مخلوق، ويراد باللفظ القول الذي يلفظ به اللافظ،وذلك كلام الله لا كلام القارئ، فمن قال: إنه مخلوق فقد قال: إن الله لم يتكلم بهذا القرآن،وأن هذا الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله،ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول.
وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره بأن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل أحمد قط: من قال: إن صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال: لفظي بالقرآن، والفرق بين لفظ الكلام وصوت المبلِّغ له فرق واضح، فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الرجل فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه لا بصوت ذلك الغير، و نفس اللفظ والتلاوة والقراءة والكتابة ونحو ذلك لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي ويتلوه ويلفظ به ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات، الذي يقتضى جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل صفات العباد ومدادهم غير مخلوق.
وقال أحمد: نقول: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، أي حيث تلى وكتب وقرئ مما هو في نفس الأمر كلام الله، فهو كلامه، وكلامه غير مخلوق، وما كان من صفات العباد وأفعالهم التي يقرءون ويكتبون بها كلامه كأصواتهم ومدادهم فهو مخلوق، ولهذا من لم يهتد إلى هذا الفرق يحار؛ فإنه معلوم أن القرآن واحدٌ ويقرؤه خلق كثير، والقرآن لا يكثر في نفسه بكثرة قراءة القراء، وإنما يكثر ما يقرءون به القرآن، فما يكثر ويحدث في العباد فهو مخلوق، والقرآن نفسه لفظه ومعناه الذي تكلم الله به، وسمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، وبلغه محمد إلى الناس، وأنذر به الأمم؛ لقوله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19] قرآن واحد، وهو كلام الله ليس بمخلوق.
وليس هذا من باب ما هو واحد بالنوع متعدد الأعيان، كالإنسانية الموجودة في زيد وعمرو، ولا من باب ما يقول الإنسان مثل قول غيره، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118]، فإن القرآن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، كما قال تعالى:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، فالإنس والجن إذا اجتمعوا لم يقدروا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع قدرة كل قارئ على أن يقرأه ويبلغه.
فعلم أن ما قرأه هو القرآن ليس هو مثل القرآن، وأما الحروف الموجودة في القرآن إذا وجد نظيرها في كلام غيره، فليس هذا هو ذاك بعينه، بل هو نظيره، وإذا تكلم الله باسم من الأسماء؛ كآدم ونوح وإبراهيم، وتكلم بتلك الحروف والأسماء التي تكلم الله بها، فإذا قرأت في كلامه فقد بلغ كلامه، فإذا أنشأ الإنسان لنفسه كلاماً لم يكن عين ما تكلم الله به من الحروف والأسماء هو عين ما تكلم به العبد حتى يقال: إن هذه الأسماء والحروف الموجودة في كلام العباد غير مخلوقة؛ فإن بعض من قال : إن الحروف والأسماء غير مخلوقة في كلام العباد ادعى أن المخلوق إنما هو النظم والتأليف دون المفردات، وقائل هذا يلزمه أن يكون أيضاً النظم والتأليف غير مخلوق إذا وجد نظيره في القرآن كقوله:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وإن أراد بذلك شخصاً اسمه يحيى وكتاباً بحضرته.
فإن قيل: يحيى هذا والكتاب الحاضر ليس هو يحيى والكتاب المذكور في القرآن، وإن كان اللفظ نظير اللفظ .
قيل : كذلك سائر الأسماء والحروف إنما يوجد نظيرها في كلام العباد لا في كلام الله، وقولنا: [يوجد نظيرها في كلام الله] تقريب، أي يوجد فيما نقرؤه ونتلوه؛ فإن الصوت المسموع من لفظ محمد ويحيى وإبراهيم في القرآن هو مثل الصوت المسموع من ذلك في غير القرآن، وكلا الصوتين مخلوق.
وأما الصوت الذي يتكلم الله به فلا مثل له لا يماثل صفات المخلوقين، وكلام الله هو كلامه بنظمه ونثره ومعانيه، وذلك الكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فإذا قلنا:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وقصد بذلك قراءة القرآن الذي تكلم الله به فذلك القرآن تكلم الله بلفظه ومعناه، لا يماثل لفظ المخلوقين و معناهم، وأما إذا قصدنا به الذكر ابتداء من غير أن نقصد قراءة كلام الله فإنما نقصد ذكراً ننشئه نحن يقوم معناه بقلوبنا، وننطق بلفظه بألسنتنا، وما أنشأناه من الذكر فليس هو من القرآن، وإن كان نظيره في القرآن.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن .
فجعل درجتها دون درجة القرآن، وهذا يقتضي أنها ليست من القرآن.
ثم قال ، وكلا قوليه حق وصواب؛ ولهذا منع أحمد أن يقال: الإيمان مخلوق.
وقال : لا إله إلا الله من القرآن.
وهذا الكلام لا يجوز أن يقال: إنه مخلوق وإن لم يكن من القرآن، ولا يقال في التوراة والإنجيل : إنهما مخلوقان، ولا يقال في الأحاديث الإلهية التي يرويها عن ربه: إنها مخلوقة، كقوله ، فكلام الله قد يكون قرآنا وقد لا يكون قرآناً، والصلاة إنما تجوز وتصح بالقرآن، وكلام الله كله غير مخلوق.
فإذا فهم هذا في مثل هذا، فليفهم في نظائره، وأن ما يوجد من الحروف والأسماء في كلام الله ويوجد في غير كلام الله يجوز أن يقال: إنه من كلام الله باعتبار، ويقال: ليس من كلام الله باعتبار، كما أنه يكون من القرآن باعتبار وغير القرآن باعتبار، لكن كلام الله القرآن وغير القرآن غير مخلوق، وكلام المخلوقين كله مخلوق، فما كان من كلام الله فهو غير مخلوق، وما كان من كلام غيره فهو مخلوق.
وهؤلاء الذين يحتجون على نفي الخلق أو إثبات القدم بشيء من صفات العباد وأعمالهم لوجود نظير ذلك فيما يضاف إلى الله وكلامه والإيمان به شاركهم في هذا الأصل الفاسد من احتج على خلق ما هو من كلام الله وصفاته، بأن ذلك قد يوجد نظيره فيما يضاف إلى العبد.
مثال ذلك: أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله، قرؤوه بحركاتهم وأصواتهم.
فقال الجهمي: أصوات العباد ومدادهم مخلوقة، وهذا هو المسمى بكلام الله، أو يوجد نظيره في المسمى بكلام الله، فيكون كلام الله مخلوقاً.
وقال الحلولي الاتحادي الذي يجعل صفة الخالق هي عين صفة المخلوق الذي نسمعه من القراء هو كلام الله، وإنما نسمع أصوات العباد، فأصوات العباد بالقرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق فأصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة، والحروف المسموعة منهم غير مخلوقة، ثم قالوا: الحروف الموجودة في كلامهم هي هذه أو مثل هذه فتكون غير مخلوقة، وزاد بعض غلاتهم فجعل أصوات كلامهم غير مخلوقة، كما زعم بعضهم أن الأعمال من الإيمان وهو غير مخلوق، والأعمال غير مخلوقة.
وزاد بعضهم أعمال الخير والشر، وقال: هي القدر والشرع المشروع، وقال عمر: ما مرادنا بالأعمال الحركات، بل الثواب الذي يأتي يوم القيامة، كما ورد في الحديث الصحيح ، فيقال له : و هذا الثواب مخلوق.
وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على أنه غير مخلوق، وبذلك أجابوا من احتج على خلق القرآن بمثل هذا الحديث، فقالوا له: الذي يجيء يوم القيامة هو ثواب القرآن لا نفس القرآن، وثواب القرآن مخلوق، إلى أمثال هذه الأقوال التي ابتدعها طوائف، والبدع تنشأ شيئاً فشيئاً، وقد بسط الكلام في هذا الباب في مواضع أخر.
وقد بينا أن الصواب في هذا الباب هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من أئمة الإسلام ومن وافق هؤلاء، فإن قول الإمام أحمد وقول الأئمة قبله هو القول الذي جاء به الرسول، ودل عليه الكتاب والسنة، ولكن لما امتحن الناس بمحنة الجهمية، وطلب منهم تعطيل الصفات، وأن يقولوا بأن القرآن مخلوق،وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك ثبت الله الإمام أحمد في تلك المحنة؛ فدفع حجج المعارضين النفاة، وأظهر دلالة الكتاب والسنة، وأن السلف كانوا على الإثبات، فآتاه الله من الصبر واليقين ما صار به إماما للمتقين، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:42].
ولهذا قيل فيه رحمه الله : عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها، فلما ظهر به من السنة ما ظهر كان له من الكلام في بيانها وإظهارها أكثر وأعظم مما لغيره، فصار أهل السنة من عامة الطوائف يعظمونه وينتسبون إليه.
وقد ذكرت كلامه وكلام غيره من الأئمة ونصوص الكتاب والسنة في هذه الأبواب في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وأن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح،ولكن كثيراً من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ؛ ولهذا كان أئمة السنة على ما قاله أحمد بن حنبل، قال: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إليَّ من حفظه، أي معرفته بالتمييز بين صحيحه وسقيمه.
والفقه فيه: معرفة مراد الرسول وتنزيله على المسائل الأصولية والفروعية، أحب إلىَّ من أن يحفظ من غير معرفة وفقه.
وهكذا قال علي بن المديني وغيره من العلماء، فإنه من احتج بلفظ ليس بثابت عن الرسول أو بلفظ ثابت عن الرسول وحمله على ما لم يدل عليه، فإنما أتي من نفسه.
وكذلك العقليات الصريحة، إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد.
ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذَّاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها، وبما هو أحسن منها، قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33]، وقال:{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [الروم:58]، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:12].
وأما الحجج الداحضة التي يحتج بها الملاحدة، وحجج الجهمية مُعَطِّلَة الصفات، وحجج الدهرية وأمثالها؛ كما يوجد مثل ذلك في كلام المتأخرين الذين يصنفون في الكلام المبتدع وأقوال المتفلسفة ويدعون أنها عقليات ففيها من الجهل والتناقض والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع أخر.
وكان من أسباب ضلال هؤلاء تقصير الطائفتين، أو قصورهم عن معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه السلف، ومعرفة المعقول الصريح؛ فإن هذا هو الكتاب، وهذا هو الميزان، وقد قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد:25].
وهذه المسألة لا تحتمل البسط على هذه الأمور؛ إذ كان المقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء المتنازعين أجمعوا على أصل فاسد، ثم تفرقوا فأجمعوا على أن جعلوا عين صفة الرب الخالق هي عين صفة المخلوق،ثم قال هؤلاء: وصفة المخلوق مخلوقة، فصفة الرب مخلوقة، فقال هؤلاء: صفة الرب قديمة فصفة المخلوق قديمة.
ثم احتاج كل منهما إلى طرد أصله، فخرجوا إلى أقوال ظاهرة الفساد؛ خرج النفاة إلى أن الله لم يتكلم بالقرآن، ولا بشيء من الكتب الإلهية، لا التوراة ولا الإنجيل ولا غيرهما، وأنه لم يناد موسى بنفسه نداء يسمعه منه موسى، ولا تكلم بالقرآن العربي ولا التوراة العبرية، وخرج هؤلاء إلى أن ما يقوم بالعباد ويتصفون به يكون قديماً أزلياً، وأن ما يقوم بهم ويتصفون به لا يكون قائماً بهم حالا فيهم، بل يكون ظاهراً عنهم من غير قيام بهم.
ولما تكلموا في [حروف المعجم] صاروا بين قولين: طائفة فرقت بين المتماثلين، فقالت: الحرف حرفان، هذا قديم وهذا مخلوق، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون وقالوا: هذا مخالفة للحس والعقل؛ فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف، وقالوا: الحرف حرف واحد.
وصنف في ذلك القاضي يعقوب البَرْزَبَيْني [وهو يعقوب بن إبراهيم البرزبيني، من فقهاء الحنابلة، من أهل [برزبين] من قرى بغداد، تفقه ببغداد، وولى بها قضاء باب الأزج، له كتب في الأصول والفروع منها [التعليقة] في الفقه والخلاف، ولد سنة 904هـ، وتوفى سنة 486هـ] .
مصنفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى مع قوله في مصنفه: وينبغي أن يعلم أن ما سطرته في هذه المسألة أن ذلك مما استفدته وتفرع عندي من شيخنا وإمامنا القاضي أبي يعلى ابن الفراء، وإن كان قد نصر خلاف ما ذكرته في هذا الباب، فهو العالم المقتدى به في علمه ودينه، فإني ما رأيت أحسن سمتا منه، ولا أكثر اجتهاداً منه، ولا تشاغلا بالعلم، مع كثرة العلم والصيانة والانقطاع عن الناس والزهادة فيما بأيديهم، والقناعة في الدنيا باليسير، مع حسن التجمل، وعظم حشمته عند الخاص والعام، ولم يعدل بهذه الأخلاق شيئاً من نفر من الدنيا.
وذكر القاضي يعقوب في مصنفه: أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبه قاضي حَرَّان يقول: هو مذهب العلوي الحراني، وجماعة من أهل حران.
وذكره أبو عبد الله ابن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا ؛ كأبي محمد الكشفل وإسماعيل الكَلْواذاني في خلق من أتباعهم يقولون: إنها قديمة، قال القاضي أبو يعلى: وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا.
وذكروه عن الشريف أبي علي ابن أبي موسى، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب وسائر أتباعه، وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله.
وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين.
وهؤلاء تعلقوا بقول أحمد لما قيل له: إن سريا السقطي قال: لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أومر.
فقال أحمد: هذا كفر.
وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد بقوله: كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق، وبقوله: لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن، كما لا تتم بغيره من كلام الناس.
وبقول أحمد لأحمد بن الحسن الترمذي: ألست مخلوقاً ؟ قال: بلى، قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً ؟ قال : بلى، قال: فكلامك منك وهو مخلوق.
قلت: الذي قاله أحمد في هذا الباب صواب يصدق بعضه بعضاً، وليس في كلامه تناقض، وهو أنكره على من قال: إن الله خلق الحروف؛ فإن من قال: إن الحروف مخلوقة كان مضمون قوله: إن الله لم يتكلم بقرآن عربي، وأن القرآن العربي مخلوق، ونص أحمد أيضاً على أن كلام الآدميين مخلوق، ولم يجعل شيئاً منه غير مخلوق، وكل هذا صحيح، والسري رحمه الله إنما ذكر ذلك عن بكر بن خُنَيْس العابد، فكان مقصودهما بذلك أن الذي لا يعبد الله إلا بأمره، هو أكمل ممن يعبده برأيه من غير أمر من الله، واستشهدا على ذلك بما بلغهما ، وهذا الأثر لا يقوم بمثله حجة في شيء، ولكن مقصودهما ضرب المثل أن الألف منتصبة في الخط، ليست هي مضطجعة كالباء والتاء، فمن لم يفعل حتى يؤمر أكمل ممن فعل بغير أمر.
وأحمد أنكر قول القائل: [إن الله لما خلق الحروف]، وروي عنه أنه قال: من قال: إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي؛ لأنه سلك طريقاً إلى البدعة، ومن قال: إن ذلك مخلوق فقد قال: إن القرآن مخلوق.
وأحمد قد صرح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلما إذا شاء، وصرح أن الله يتكلم بمشيئته، ولكن أتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع؛ لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته.
وصرح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يقل أحد من السلف : إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم : إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي لم يزل و لايزال، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته،وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، مع قولهم: إن كلام الله غير مخلوق، وأنه منه بدأ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم، مثل ما صنف أبو بكر الخلال في [كتاب السنة] وغيره، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره، وما صنفه أصحابه وأصحاب أصحابه؛ كابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، وأبي داود السجستاني صاحب [السنن] والأثرم، والمروزي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري صاحب الصحيح، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإبراهيم الحربي، وعبد الوهاب الوراق، وعباس بن عبد العظيم العنبري، وحرب بن إسماعيل الكرماني، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين، وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره؛ كعبد الرحمن ابن أبي حاتم وأبي بكر الخلال، وأبي الحسن البناني الأصبهاني، وأمثال هؤلاء، ومن كانـ أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع، كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع وأبي عبد الرحمن النسائي وأمثالهما، ومثل أبي محمد بن قتيبة وأمثاله، وبسط هذا له موضع آخر.
وقد ذكرنا في [المسائل الطبرستانية] و [الكيلانية] بسط مذاهب الناس، وكيف تشعبت وتفرعت في هذا الأصل.
والمقصود هنا أن كثيراً من الناس المتأخرين لم يعرفوا حقيقة كلام السلف والأئمة، فمنهم من يعظمهم ويقول: إنه متبع لهم، مع أنه مخالف لهم من حيث لا يشعر، ومنهم من يظن أنهم كانوا لا يعرفون أصول الدين ولا تقريرها بالدلائل البرهانية، وذلك لجهله بعلمهم، بل لجهله بما جاء به الرسول من الحق الذي تدل عليه الدلائل العقلية مع السمعية، فلهذا يوجد كثير من المتأخرين يشتركون في أصل فاسد، ثم يفرع كل قوم عليه فروعا فاسدة يلتزمونها، كما صرحوا في تكلم الله تعالى بالقرآن العربي، وبالتوراة العبرية، وما فيهما من حروف الهجاء مؤلفاً أو مفرداً، لما رأوا أن ذلك بلغ بصفات المخلوقين اشتبه بصفات المخلوقين، فلم يهتدوا لموضع الجمع والفرق، فقال هؤلاء: هذا الذي يقرأ ويسمع مثل كلام المخلوقين فهو مخلوق.
وقال هؤلاء: هذا الذي من كلام الآدميين هو مثل كلام الله فيكون غير مخلوق.
كما ذكر ابن عقيل في [كتاب الإرشاد] عن بعض القائلين بأن القرآن مخلوق، فقال: شبهة اعترض بها على بعض أئمتهم.
فقال : أقل ما في القرآن من أمارات الحدث كونه مشبهاً لكلامنا، والقديم لا يشبه المحدث، ومعلوم أنه لا يمكن دفع ذلك؛ لأن قول القائل لغلامه يحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، يضاهي قوله سبحانه، حتى لا يميز السامع بينهما من حيث حسه، إلا أن يخبره أحدهما بقصده والآخر بقصده، فيميز بينهما بخبر القائل لا بحسه، وإذا اشتبها إلى هذا الحد فكيف يجوز دعوى قدم ما يشابه المحدث ويسد مسدّه، مع أنه إن جاز دعوى قدم الكلام مع كونه مشاهداً للمحدث جاز دعوى التشبيه بظواهر الآي والأخبار، ولا مانع من ذلك، فلما فزعنا نحن وأنتم إلى نفي التشبيه خوفاً من جواب دخول القرآن بالحدث علينا، كذلك يجب أن تفزعوا من القول بالقدم مع وجود الشبه، حتى إن بعض أصحابكم يقول لقوة ما رأى من الشبه بينهما: إن الكلام واحد والحروف غير مخلوقة، فكيف يجوز أن يقال في الشيء الواحد : إنه قديم محدث.
قلت : وهذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البَرْزَبَيْنِيّ ذكره في مصنفه فقال: (دليل عاشر) وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته والكتاب بحروفه قديم؛ وكذلك هاهنا.
قال: فإن قيل: لا نسلم أن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها، قيل : لا نسلم، بل لها حرمة.
فإن قيل: لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها، قيل: قد لا تمنع من قراءتها ومسها ويكون لها حرمة كبعض آية لا تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها، كما يقال في الصبي: يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه.
فإن قيل: فيجب إذا حلف بها حالف أن تنعقد يمينه وإذا خالف يمينه أن يحنث، قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا.
فإن قيل: أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي، ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى مثل قوله: يا داود، يا نوح، يا يحيى، وغير ذلك؛ فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله، وإن كانت في كتاب الله قديمة وفي خطاب الآدمي محدثة؟.
قيل: كل ما كان موافقاً لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي.
فإن قيل: فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدمياً وهو في الصلاة ألا تبطل صلاته.
قيل له: كذلك نقول، وقد ورد مثل ذلك عن علي وغيره، إذ ناداه رجل من الخوارج:{ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } [الزمر:56] قال: فأجابه على وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال:{ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ }[يوسف:99].
قال: فإن قيل: أليس إذا قال:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً؟ وإن نوى به القرآن يكون قديماً، قيل له: في كلا الحالين يكون قديماً؛ لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن، والنية لا تجعل المحدث قديماً ولا القديم محدثاً، قال: ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ.
وقال أيضاً: كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض، ولا يشبهه من جميع أحواله؛ لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها.
ا هـ. قلت: هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله، مع أنه أجَلّ من تكلم في هذه المسألة، ولما كان جوابه مشتملا على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به.
وأجاب ابن عقيل عن سؤال الذين قالوا : هذا مثل هذا، بأن قال: الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث، كما أن كونه عالما هو تبينه للشيء على أصلكم، ومعرفته به على قولنا على الوجه الذي يتبينه الواحد منا، وليس مماثلا لنا في كوننا عالمين.
وكذلك كونه قادراً هو صحة الفعل منه سبحانه وتعالى وليست قدرته على الوجه الذي قدرنا عليها، فليس الاشتراك في الحقيقة حاصلا، والافتراق في القدم والحدوث حاصل.
قال:وجواب آخر:لا نقول: إن الله يتكلم بكلامه على الوجه الذي يتكلم به زيد، بمعنى: أنه يقول: يا يحيى، فإذا فرغ من ذلك انتقل إلى قوله: خذ الكتاب بقوة، وترتب في الوجود كذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتكلم به على وجه تعجز عن مثله أدواتنا، فما ذكرته من الاشتباه من قول القائل: يا يحيى خذ الكتاب، يعود إلى اشتباه التلاوة بالكلام المحدث، فأما أنه يشابه الكلام القائم بذاته فلا.
قال ابن عقيل: قالوا: فهذا لا يجيء على مذهبكم؛ فإن عندكم التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء.
قيل : ليس معنى قولنا: هي المتلو، أنها هذه الأصوات المقطعة، وإنما نريد به ما يظهر من الحروف القديمة في الأصوات المحدثة، وظهورها في المحدث لابد أن يكسبها صفة التقطيع لاختلاف الأنفاس، وإدارة اللهوات؛ لأن الآلة التي تظهر عليها لا تحمل الكلام إلا على وجه التقطيع، وكلام الباري قائم بذاته على خلاف هذا التقطيع، والابتداء، والانتهاء، والتكرار، والبعدية، والقبلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.