فصل في الدعاء المذكور في آخر ‏سورة البقرة

ابن تيمية

  • التصنيفات: التفسير -
السؤال: فصل في الدعاء المذكور في آخر ‏سورة البقرة
الإجابة: فصــل:

فى قوله تعالى‏:‏{‏‏شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَم}‏‏[‏آل عمران‏:‏18،19‏]‏، قد تنوعت عبارات المفسرين فى لفظ ‏{‏شّهٌد‏}‏ فقالت طائفة منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة‏:‏ أي‏:‏ حكم وقضى‏.

‏‏ وقالت طائفة منهم ثعلب والزجاج‏:‏ أي‏:‏ بين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ أي‏:‏ أعلم‏.‏

وكذلك قالت طائفة‏:‏ معنى شهادة الله‏:‏ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين‏:‏ الإقرار‏.

‏‏ وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم يكن سماء ولا أرض، ولا بر ولا بحر، فقال‏:‏ ‏{‏‏شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}‏‏‏.

‏‏ وكل هذه الأقوال وما فى معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به، وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره، وإن لم يكن معلماًً به لغيره، ولا مخبراً به لسواه‏.‏

فهذه أول مراتب الشهادة‏.

‏‏ ثم قد يخبره ويعلمه بذلك، فتكون الشهادة إعلاماً لغيره وإخباراً له، ومن أخبر غيره بشيء فقد شهد به‏.‏سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن، كما فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏} الآية ‏[‏يوسف‏:‏81‏]‏‏.

‏‏ ففي كلا الموضعين إنما أخبروا خبراً مجرداً، وقد قال‏:‏‏{‏‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}‏‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30-31‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏"‏‏، قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية، وإنما فى الآية‏:‏ ‏{‏‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور}ِِ‏ وهذا يعم كل قول زور بأي لفظ كان، وعلى أي صفة وجد، فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره‏.

‏‏ والزور‏:‏ هو الباطل الذي قد ازور عن الحق والاستقامة أي‏:‏ تحول، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور، وقد قال فى المظاهرين مـن نسائهم‏:‏ ‏{‏‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏2‏]‏‏.

‏‏ وفى الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس‏.

‏‏ وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك، ولم يقولوا‏:‏ نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ فى التحديث، وإن كان أحدهم قد ينطق به، ومنه قولهم فى ماعز‏:‏ فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقراراً ولم يقل‏:‏ أشهد‏.

‏‏ ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، وشهادة المرء على نفسه هي إقراره، وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا فى الشهادة عند الحكام‏:‏ هل يشترط فيها لفظ أشهد‏؟‏ على قولين فى مذهب أحمد،وكلام أحمد يقتضى أنه لا يعتبر ذلك، وكذلك مذهب مالك، والثاني يشترط ذلك، كما يحكى عن مذهب أبى حنيفة والشافعي‏.

‏‏ والمقصود هنا الآية فالشهادة تضمنت مرتبتين‏:‏

إحداهما‏:‏ تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد فى نفسه به‏.

‏‏ والثانية‏:‏ إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به، فمن قال‏:‏ حكم وقضى فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر‏.

‏‏ ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم،فقال‏:‏ ‏{‏‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏} ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏} الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏51‏]‏، وقال‏:‏{ووَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}‏‏‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، ‏{‏‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}‏‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.

‏‏ وهذا كثير فى القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده، ويحرم عليهم عبادة ما سواه، فقد حكم وقضى أنه لا إله إلا هو‏.‏

ولكن الكلام فى دلالة لفظ الشهادة على ذلك؛ وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد، وأنه وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهذا يتضمن الأمر بعبادته والنهى عن عبادة ما سواه؛ فإن النفي والإثبات فى مثل هذا يتضمن الأمر والنهى، كما إذا استفتى شخص شخصاً، فقال له قائل‏:‏ هذا ليس بمفت، هذا هو المفتى، ففيه نهى عن استفتاء الأول، وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثاني‏.‏

وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم، أو طلب شيئا من غير ولى الأمر، فقيل له‏:‏ ليس هذا حاكماً ولا هذا سلطاناً، هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان،فهذا النفي والإثبات يتضمن الأمر والنهى، وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصودة، فإذا ظنه شخصاً فقيل له‏:‏ ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا، كان أمراً له بطلب مراده عند هذا دون ذاك‏.

‏‏ والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة، فإذا قيل لهم‏:‏ كل ما سوى الله ليس بإله،إنما الإله هو الله وحده، كان هذا نهياً لهم عن عبادة ما سواه، وأمرا بعبادته‏.

‏‏ وأيضاً فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضى أنه يستحق العبادة، فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمراً بما يستحقه‏.

‏‏ وليس المراد هنا بـ ‏(‏الإله‏)‏ من عبده عابد بلا استحقاق، فإن هذه الآلهة كثيرة، ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل، كما قال تعالى‏:‏‏{‏‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏} ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}‏‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فالآلهة التي جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة، لكن هي لا تستحق العبادة فليست بآلهة، كمن جعل غيره شاهداً أو حاكماً أو مفتياً أو أميراً وهو لا يحسن شيئا من ذلك‏.

‏‏ ولابد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده، ‏ ‏‏"تعس عبد الدينار وعبد الدرهم"‏‏، فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما، كما قد بسط فى غير هذا الموضع‏.

‏‏ فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى بألا يعبد إلا إياه‏.

‏‏ وأيضاً فلفظ الحكم والقضاء يستعمل فى الجمل الخبرية، فيقال للجمل الخبرية‏:‏ قضية، ويقال‏:‏ قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى، وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفى ما نفاه حكما خبريا، قد يتضمن حكما طلبيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع عشر.