فَصْـــل في بيان مضمون سورة مريم
ابن تيمية
- التصنيفات: التفسير -
السؤال: فَصْـــل في بيان مضمون سورة مريم
الإجابة: فَصْـــل
(سورة مريم) مضمونها: تحقيق عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتى نسبوا إليه عيسي بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين.
افتتحها بقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2]،وندائه ربه نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}....إلخ [مريم:30]، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته له إسحاق ويعقوب، وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسي وإبراهيم ببر الوالدين مع التوحيد، وذكر موسي ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي لزكريا وعيسي لمريم وإسحاق لإبراهيم.
فهذه السورة (سورة المواهب)، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم:58] وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي آخر القصة.
ثم قال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}الآية [مريم:59].
فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم أهل تحقيق العبادة، ثم قال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 36]،ثم قال:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:56].
ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، الحديث.
{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66]،ثم ذكر إقسامه علي حشدهم والشياطين، وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا يكون إلا بطريقين: إما إطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم بالأمر.
الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له إطلاع علي الغيب، ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا.
وهذا كما قيل في إجابة الدعاء:إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة الخبر،وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر،كقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} [البقرة:186]،فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع.
ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي مـن أنكرها، فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك ما في الصحيحين ، وقال في البغض عكس ذلك.
وفي قول إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]،وقوله في موسي: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]،وماذكره للمؤمنين من المودة: إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
(سورة مريم) مضمونها: تحقيق عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتى نسبوا إليه عيسي بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين.
افتتحها بقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2]،وندائه ربه نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}....إلخ [مريم:30]، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته له إسحاق ويعقوب، وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسي وإبراهيم ببر الوالدين مع التوحيد، وذكر موسي ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي لزكريا وعيسي لمريم وإسحاق لإبراهيم.
فهذه السورة (سورة المواهب)، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم:58] وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي آخر القصة.
ثم قال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}الآية [مريم:59].
فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم أهل تحقيق العبادة، ثم قال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 36]،ثم قال:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:56].
ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، الحديث.
{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66]،ثم ذكر إقسامه علي حشدهم والشياطين، وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا يكون إلا بطريقين: إما إطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم بالأمر.
الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له إطلاع علي الغيب، ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا.
وهذا كما قيل في إجابة الدعاء:إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة الخبر،وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر،كقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} [البقرة:186]،فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع.
ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي مـن أنكرها، فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك ما في الصحيحين ، وقال في البغض عكس ذلك.
وفي قول إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]،وقوله في موسي: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]،وماذكره للمؤمنين من المودة: إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.