فَصــل في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ ...
ابن تيمية
- التصنيفات: التفسير -
السؤال: فَصــل في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا
ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ}
الإجابة:
قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، يشبه قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57- 58]، فيشبه والله أعلم أن يكون ضَرب المثل أنهم جعلوا المسيح ابنه، والملائكة بناته، والولد يشبه أباه، فجعلوه لله شبيهًا ونظيرًا، أو يكون المعني في المسيح: أنه مَثَلٌ لآلهتهم؛ لأنه عُبِدَ من دون الله.
فعلي الأول: يكون ضاربه كضارب المثل للرحمن وهم النصارى والمشركون، وعلى الثاني: يكون ضاربه هو الذي عارض به قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، فلما قال ابن الزِّبَعرَي: لأخصمن محمدًا.
فعارضه بالمسيح وناقضه به، كان قد ضربه مثلا قاس الآلهة عليه، ويترجح هذا بقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}، فَعُلِم أنهم هم الذين ضربوه لا النصارى.
فإن [المَثَلَ] يقال على الأصل وعلى الفرع، و[المثل] يقال على المفرد ويقال على الجملة التي هي القياس، كما قد ذكرت فيما تقدم أن ضرب المثل هو القياس؛ إما قياس التمثيل فيكون المثل هو المفرد، وإما قياس الشمول فيكون تسميته ضرب مثلٍ كتسميته قياسًا، كما بينته في غير هذا الموضع، من جهة مطابقة المعاني الذهنية للأعيان الخارجية ومماثلتها لها، ومن جهة مطابقة ذلك المفرد المعين للمعني العام الشامل للأفراد، ولسائر الأفراد؛ فإن الذهن يرتسم فيه معني عام يماثل الفرد المعين، وكل فرد يماثل الآخر، فصار هذا المعني يماثل هذا، وكل منهما يماثل المعني العام الشامل لهما.
وبهذا والله أعلم سمي ضرب مثل وسمي قياسًا، فإن الضرب: الجمع، والجمع في القلب واللسان، وهو العموم والشمول، فالجمع والضرب والعموم والشمول في النفس معني ولفظًا، فإذا ضرب مثلا فقد صيغ عمومًا مطابقًا، أو صيغ مفـردًا مشابهًا، فتدبر هـذا فإنه حسن إن شاء الله.
ولك أن تقول: كل إخبار بمَثَلٍ صوره المخبر في النفس، فهو ضرب مَثَلٍ؛ لأن المتكلم جمع مثلا في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمُخبِر، فيكون المثل هو الخبر وهو الوصف، كقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، وقوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73].
وبَسْطُ هـذا اللفظ واشتماله على محاسن الأحكام والأدلة قد ذكرته في غير هذا الموضع.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، يشبه قوله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57- 58]، فيشبه والله أعلم أن يكون ضَرب المثل أنهم جعلوا المسيح ابنه، والملائكة بناته، والولد يشبه أباه، فجعلوه لله شبيهًا ونظيرًا، أو يكون المعني في المسيح: أنه مَثَلٌ لآلهتهم؛ لأنه عُبِدَ من دون الله.
فعلي الأول: يكون ضاربه كضارب المثل للرحمن وهم النصارى والمشركون، وعلى الثاني: يكون ضاربه هو الذي عارض به قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، فلما قال ابن الزِّبَعرَي: لأخصمن محمدًا.
فعارضه بالمسيح وناقضه به، كان قد ضربه مثلا قاس الآلهة عليه، ويترجح هذا بقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}، فَعُلِم أنهم هم الذين ضربوه لا النصارى.
فإن [المَثَلَ] يقال على الأصل وعلى الفرع، و[المثل] يقال على المفرد ويقال على الجملة التي هي القياس، كما قد ذكرت فيما تقدم أن ضرب المثل هو القياس؛ إما قياس التمثيل فيكون المثل هو المفرد، وإما قياس الشمول فيكون تسميته ضرب مثلٍ كتسميته قياسًا، كما بينته في غير هذا الموضع، من جهة مطابقة المعاني الذهنية للأعيان الخارجية ومماثلتها لها، ومن جهة مطابقة ذلك المفرد المعين للمعني العام الشامل للأفراد، ولسائر الأفراد؛ فإن الذهن يرتسم فيه معني عام يماثل الفرد المعين، وكل فرد يماثل الآخر، فصار هذا المعني يماثل هذا، وكل منهما يماثل المعني العام الشامل لهما.
وبهذا والله أعلم سمي ضرب مثل وسمي قياسًا، فإن الضرب: الجمع، والجمع في القلب واللسان، وهو العموم والشمول، فالجمع والضرب والعموم والشمول في النفس معني ولفظًا، فإذا ضرب مثلا فقد صيغ عمومًا مطابقًا، أو صيغ مفـردًا مشابهًا، فتدبر هـذا فإنه حسن إن شاء الله.
ولك أن تقول: كل إخبار بمَثَلٍ صوره المخبر في النفس، فهو ضرب مَثَلٍ؛ لأن المتكلم جمع مثلا في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمُخبِر، فيكون المثل هو الخبر وهو الوصف، كقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، وقوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73].
وبَسْطُ هـذا اللفظ واشتماله على محاسن الأحكام والأدلة قد ذكرته في غير هذا الموضع.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية