الاحتفال بالمولد

عبد الله بن عبد العزيز العقيل

الاحتفال بالمولد ليس بمشروع، ولم يفعله السلف الصالح رضوان الله عليهم مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه.

  • التصنيفات: محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
السؤال:

ما قول السادة العلماء -رفع الله بهم منار الإسلام، وأبان بهم مسائل الحلال والحرام- في الاحتفال بالمولد النبوي، وإقامة الحفلات له في كل سنة في شهر ربيع الأول، في الذين يصنعون فيه أنواع الطعام والحلويات، ويأتون بمن يقرأ لهم أناشيد وأذكاراً، ويجتمعون لذلك رجالًا ونساء، ويمكثون ثلاثة أيام. وبعضهم يستعمل الأغاني والرقص وآلات الطرب، ويأتون بشبان مُرْدٍ يغنون ويرقصون ويتعانقون، وربما اختلط هنالك الرجال بالنساء، وإن لم يختلطوا فهم يتطلعون إليهن ويستمعون لأصواتهن وتصفيقهن، وغير ذلك. وهم يرون هذا من الدين، ومن تعظيم سيد المرسلين، ويزعمون أن من لم يفعل هذا فهو مقصر بحقوقه صلى الله عليه وسلم!! فما حكم فعلهم هذا واعتقادهم؟ أفتونا مأجورين.

الإجابة:

الاحتفال بالمولد ليس بمشروع، ولم يفعله السلف الصالح رضوان الله عليهم مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه.

▪ ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم أحق بالخير، وأشد محبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأبلغ تعظيماً، وهم الذين هاجروا معه، وتركوا أوطانهم، وأهليهم، وجاهدوا معه حتى قتلوا دونه، وفدوه بأنفسهم وأموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

فلما كان الاحتفال بالمولد غير معروف لدى السلف الصالح، ولم يفعلوه وهم القرون المفضَّلة دَلَّ على أنه بدعة محدثة. وقد روى مسلم في (صحيحه) (1) من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

وروى أصحاب السنن (2) عن العِرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية وهي قوله: "كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها، وأن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مُشَاقَّة الرسول أقرب منه إلى التأويل. وقال: إن قَصْدَ التعميم المحيط ظاهر من نص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ" (متفق عليه) (3).

وفي رواية لمسلم (4): "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، فَعُرِفَ بذلك أن هذا العمل لما كان مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه؛ لأنه محدث لم يكن عليه عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم.

▪▪ إذا عُرف هذا، فالاحتفال بالمولد بدعة، محدث، مردود على فاعله.

وهو يختلف بحسب ما يعمل فيه من البدع المحرمات، فإن خلا من المحرمات عموماً، واقتصر فيه على عمل الدعوة، من طعام، وشراب، وطيب، ولم يحضره مردان، ولا اختلط الرجال بالنسوان، واعتقد فاعله أن هذا من الدين الذي يتقرب به إلى الله تعالى فهو بدعة، محدث، مردود على فاعله.

وإن انضم إلى ذلك ما نراه يقع ممن يقيمون مثل هذه الاحتفالات، فإن الحرمة تكون أشد، والنكاية عليهم تكون أعظم وأَمَرّ. فإنك ترى استعمال الأغاني، وآلات الطرب، وقلة احترام كتاب الله تعالى، الذي يجمعون -في هذه الاحتفالات- بينه وبين الأغاني، فهم يبتدئون وقصدهم الأغاني؛ ولذلك ترى بعض السامعين إذا أطال القارئُ القراءة يَمَلُّ ويقلق؛ لكونه طَوَّلَ عليه!!

وكذلك ترى الافتتان بالمردان، فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شاباً جميل الصورة، حسن الهيئة، فتجدهم يتثنون، ويتكسرون في مِشيتهم وحركاتهم، ويرقصون، ويتعانقون، فتأخذهم أحوال النفوس الرديئة، ويتمكن منهم الشيطان، وَتَقْوَى فيهم النفسُ الأمارة بالسوء والعياذ بالله من ذلك. وكذلك ما نراه من حضور النساء، وافتتان الرجال بهن، وتطلعهم إليهن، وسماع أصواتهن، وتصفيقهن، وغير ذلك مما يكون سبباً لوقوع مفاسد عظيمة. وغير ذلك من الفتن. والمفاسد التي تقع كثيرة لا تخفى على من عرف أحوالهم.

▪▪ وهذه البدعة أول من أحدثها أبو سعيد كوكبوري ابن أبي الحسن على بن بكتكين في القرن السادس الهجري، ولم يزل العلماء المحققون ينهون عنها، وينكرون ما يقع فيها من البدع والمحرمات منذ حدثت حتى الآن.

وإليك بعض ما قالوا:

. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك، واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يَستحب ذلك إلا جاهل، أو زنديق.

. وقال العلامة تاج الدين علي بن عمر اللخمي الكندري المشهور بالفاكهاني في رسالته في المولد المسماة (بالمورد في الكلام على المولد): قال في النوع الخالي من المحرمات: لا أعلم لهذا أصلا في كتاب ولا سنة، ولم يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أومكروهاً، أو محرماً.
فليس بواجب -إجماعاً- ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمت. وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو محرماً.
ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرناه، بأن يعمل رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله ولا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام.
قال: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة؛ إِذْ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام. إلى أن قال الفاكهاني في النوع الثاني من المولد: وهو أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، لاسيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء -مع البطون الملأى- بآلات الباطل، من الدفوف، والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

▪▪ وأما قول السائل: ويرون أن من لم يفعل هذا فهو مقصر بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم ومتنقص له، فجوابه: وأي تعظيم للنبي عليه السلام بهذه الاحتفالات التي وصفها العلماء بما تَمُجُّه الأسماع، وينفر منه سليم الطباع. أليس المرجع في تعظيمه وتوقيره إلى ما يفعله به أصحابه، وأهل بيته، وما فعله التابعون، وتابعوهم بإحسان.

وأيضاً فأكثر ما يُقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء ونحوهم، إنما هو الذكرى، وبقاء أسمائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي من ذلك ما لم يعطه أحد غيره؛ فقد رفع الله له ذكره، فِذِكْرُه مقرون بذكر ربه، كما في الأذان، والإقامة، وخطبتي الجمعة، والعيدين، وفي تشهد الصلاة، وغير ذلك. فهو صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ من أن تكون ذكراه سنوية فقط، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5).

. وقال السيد محمد رشيد رضا في كتابه (ذكرى المولد النبوي): إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين والدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر المعظَّم، ويعتز بها دينه. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وناهيك ببذل أموالهم، وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم.
وليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه شيئاً نعظمه به، وإن كان بحسن نية، فقد كان جُلُّ ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، لضاع أصل ديننا أيضاً، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فعلينا أن نرجع إليه وَنَعَضََّ عليه بالنواجذ. والله الموفق الهادي.

___________________________________________

1 - مسلم (867).
2 - أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43).
3 - البخاري (2697)، ومسلم (1718).
4 - مسلم (1718 / 18).
5 - سورة الشرح: الآية (1-4).