حقيقة الإصابة بالعين وعلاجها

عبد الله بن عبد العزيز العقيل

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
السؤال: هل إصابة العين صحيحة واقعة، وما صفة تأثيرها، وما علاجها؟ نرجوكم إيضاح ذلك، وبسطه مهما أمكن أرشدكم الله.
الإجابة: قال ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) (1): (فصل) في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين:

روى مسلم في (صحيحه) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (2).

وفي (صحيحه) أيضًا عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحُمَة والعين والنملة (3).

وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين حق) (4).

وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يؤمر العائن، فيتوضأ، ثم يغتسل منه المعين (5).

وفي (الصحيحين) عن عائشة قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم -أو أمر- أن نسترقي من العين (6).

وذكر الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة ابن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ فقال: "نعم، فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين" (7). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وروى مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم، ولا جِلْدَ مُخبَّأة! قال: فلُبِطَ سهلٌ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرًا، فتغيظ عليه، وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بَرَّكْتَ عليه؟ اغتسِلْ له"، فَغَسَل له عامر وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صُبّ عليه، فراح مع الناس (8)، وروى مالك أيضًا، عن محمد بن أبي أمامة ابن سهل، عن أبيه هذا الحديث وقال فيه: "إن العين حق، توضأْ له"، فتوضأَ له.

وذكر عبدالرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مرفوعًا: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، لسبقته العين، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكم فليغتسل" (9)، ووصله صحيح.

▪ قال الزهري: يؤمر الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة (10).

▪ والعين عينان: عين إنسية، وعين جنية، فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة" (11).
قال الحسين بن مسعود الفراء: "وقوله سفعة" أي: نظرة -يعني: من الجن- يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن، أنفذ من أسنة الرماح (12).

. فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمرَ العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح، والنفوس، وصفاتها، وأفعالها، وتأثيراتها.

وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، ونحلهم، لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين، فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعثت من عينه قوة سُمِّية تتصل بالمعين، فيتضرر، قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى، تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان، هلك، فكذلك العائن، وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر، وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يَعينه من غير أن يكون منه قوة، ولا سبب، ولا تأثير أصلاً، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.

ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام، والأرواح، قوى، وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص، وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام؛ فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة، إذا نظر إليه من يحتشمه، ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين، ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح.

والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذًى بَيِّنًا؛ ولهذا أمر الله سبحانه رسولَه أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى؛ فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها، وتقوى، حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها: ما تؤثر في طمس البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: "إنهما يَلْتَمسَانِ البصر، ويُسقطان الحَبَل" (13).
ومنها: ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية، من غير اتصال به؛ لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى، والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل.

ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} (14)، وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (15). فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين؛ تصيبه تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحِسِّي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح.

وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين، وقد يَعين الرجل نفسه، وقد يَعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعًا.

.. (فصل) والمقصود: العلاج النبوي لهذه العلة، وهو أنواع، وقد روى أبو داود في (سننه) عن سهل بن حنيف، قال: مررنا بسيل، فدخلت، فاغتسلت فيه، فخرجت محمومًا، فنمى ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "مروا أبا ثابت يتعوذ"، قال: فقلت: يا سيدي، والرقى صالحة؟ فقال: "لا رقية إلا من نفس أو حُمة أو لدغة" (16)، والنفس: العين. يقال: أصابت فلانا نفس أي: عين، والنافس: العائن، واللدغة: بدال مهملة وغين معجمة، وهي ضربة العقرب ونحوها.

- فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة (المعوذتين)، و(فاتحة الكتاب)، و(آية الكرسي)، ومنها التعوذات النبوية نحو: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، ونحو: "أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ونحو: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل، إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن"، ومنها: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون"، ومنها: "اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم، أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم، إنه لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، سبحانك وبحمدك"، ومنها: "أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأسماء الله الحسنى ما علمت منها، وما لم أعلم، من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر، كل ذي شر، لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم"، ومنها: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددًا، اللهم، إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم"، وإن شاء، قال: "تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو، إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي، ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرزاق من المرزوق، حسبي الذي هو حسبي، حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مَرْمَى، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم".

ومن جرّب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه، واستعداده، وقوة توكله، وثبات قلبه؛ فإنها سلاح، والسلاح بضاربه.

.. (فصل) وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه، وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: "اللهم بارك عليه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "ألا بَرَّكت؟" أي: قلت: "اللهم بارك عليه".

ومما يدفع به إصابة العين قول: {ما شاء الله لا قوة إلا بالله}، روى هشام ابن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه، أو دخل حائطاً من حيطانه، قال: {ما شاء الله لا قوة إلا بالله}، (17).

- ومنها: رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه: "باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" (18)، وروى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن، ثم يغسل وتسقى، وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجع.

.. (فصل) ومنها أن يؤمر العائن بغسل مغابنه، وأطرافه، وداخلة إزاره، وفيه قولان: أحدهما: أنه فرجه، والثاني: أنه طرف إزاره الداخلي الذي يلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره، أو سخر منه، أو شك فيه، أو فعله مجربًا لا يعتقد أن ذلك ينفعه.

وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة، تفعل بالخاصية، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة وتقر لمناسبته، فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يدك عليه، والمسح عليه، وتسكين غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار، وقد أراد أن يقذفك بها، فصببت عليها الماء، وهي في يده حتى طفئت، ولذلك أُمِرَ العائنُ أن يقول: "اللهم بارك عليه"؛ ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء، الذي هو إحسان إلى المعين؛ فإن دواء الشيء بضده. ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد؛ لأنها تطلب النفوذ، فلا تجد أرق من المغابن، وداخلة الإزار، ولاسيما إن كان كناية عن الفرج، فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها، وعملها، وأيضًا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.

والمقصود: أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية، ويذهب بتلك السمية، وفيه أمر آخر، وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع، وأسرعها تنفيذاً، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء، فيشفى المعين، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر اللسعة عن الملسوع، ووجد راحة، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها، وتوصله إلى الملسوع، فإذا قتلت خف الألم، وهذا مشاهد، وإن كان من أسبابه فرح الملسوع، واشتفاء نفسه بقتل عدوه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه. وبالجملة، غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية.

* فإن قيل: فقد ظهرت مناسبة الغسل، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين؟
- قيل: هو في غاية المناسبة؛ فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل، طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن، والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذي طفئ به نارية العائن لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء.

وبالجملة فطب الطبائعية، وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع، وعدم مناقضة أحدهما للآخر، والله يهدي من يشاء إلى الصواب، ويفتح لمن أدام قرع بابه التوفيق من كل باب، وله النعمة السابغة، والحجة البالغة.

.. (فصل) ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه، ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، كما ذكر البغوي في كتاب (شرح السنة) أن عثمان رضي الله عنه رأى صبِيَّا مليحًا، فقال: "دسموا نونته، لئلا تصيبه العين". ثم قال في تفسيره: ومعنى: "دسموا نونته": والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير (19). وقال الخطابي في (غريب الحديث) (20) له عن عثمان أنه رأى صبيًّا تأخذه العين فقال: "دسموا نونته". فقال أبو عمر: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النقرة التي في ذقنه، والتدسيم: التسويد، أراد: سودوا ذلك الموضع من ذقنه ليرد العين. قال: ومن هذا حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، وعلى رأسه عمامة دسماء أي: سوداء (21).

أراد الاستشهاد على اللفظة، ومن هذا أخذ الشاعر قوله:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى *** عيب يُؤَقِّيه من العين


.. (فصل) ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبدالله الساجي: أنه كان في بعض أسفاره للحج، أو الغزو على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل. فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها، وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه، فدل، فوقف عليه، وقال: "باسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس"، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (22)، فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها.

* انتهى من (زاد المعاد) لابن القيم رحمه الله تعالى.

___________________________________________

1 - (4/ 162- 174).
2 - مسلم (2188)، والترمذي (2062)، والنسائي في (الكبرى) (4/ 381).
3 - مسلم (2196)، والترمذي (2056)، والنسائي في (الكبرى) (4/ 366)، ابن ماجه (3516).
4 - البخاري (5740)، ومسلم (2187).
5 - أبو داود (3880)، وعنه البيهقي (9/ 351).
6 - البخاري (5738)، ومسلم (2195).
7 - أحمد (6/ 438)، والترمذي (2059)، وابن ماجه (3510).
8 - (الموطأ) (938، 939)، وأحمد (3/486)، والنسائي في (الكبرى) (4/ 380، 381)، وابن ماجه (3509).
9 - عبد الرزاق (19770)، وهو مرسل، وقد رواه مسلم وغيره عن وهيب عن ابن طاوس، به موصولاً عن ابن عباس (2188).
10 - ذكره البيهقي (9/ 352) عقب حديث سهل.
11 - البخاري (5739)، ومسلم (2197).
12 - (شرح السنة) (12/ 163).
13 - البخاري (3297)، ومسلم (2233) من حديث ابن عمر مرفوعًا.
14 - سورة القلم: الآية (51).
15 - سورة الفلق.
16 - أبو داود (3888).
17 - (شرح السنة) (12/ 166).
18 - مسلم (2185)، وأحمد (6/ 160).
19 - البغوي في (شرح السنة) (12/ 166).
20 - (غريب الحديث) (2/ 139).
21 - (غريب الحديث) للخطابي (2/ 139)، والحديث رواه مسلم (1359) بلفظ: "خطب الناس وعليه عمامة سوداء"، والبخاري (927، 3628، 3800) من حديث ابن عباس: بلفظ: "قد عصب رأسه بعصابة دسمة"، وفي رواية: "بعصابة دسماء".
22 - سورة الملك: الآيتان (3،4).