القدر والدعاء
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن
والاه، أمَّا بعدُ:
.. فإن ما يُقضى به على المرء منه ما يكون واقعاً محتوماً وهو القضاء المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما سبق في علم الله تبارك وتعالى؛ فهذا لا يتبدل ولا يتأخر، وقد قدَّره الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفَ سنةً؛ كما ثبت في صحيح مسلم، قال تعالى: " " [ق: 29].
ولما سمِع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبةَ تقولُ: "اللهم أمتعْنِي بزوجي: رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي: أبي سفيان، وبأخي: معاوية"، قال لها: " " (رواه مسلم).
.. ومنه ما يمكن صرفُه بأسباب، وذلك هو القضاء المعلق، المكتوب في صحف الملائكة فيقع فيه التبديل والتغيير والإثبات والمحو كالزيادة في العمر، فيقال للملك -مثلاً- عمره ستون، فإذا وصل رَحِمَهُ زِيدَ أربعين، ويكون سبق في علم الله أنه سيَصِلُ رحِمَهُ فيُكْتب مائة، فيبدل في صحف الملائكة، ولا يبدل ما في علم الله وكتب في اللوح المحفوظ، وعلى هذا حملوا قولَهُ تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وكذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " " (متفق عليه عن أنس).
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): "قال العُلماءُ: إنَّ المَحْوَ والإثباتَ في صُحُف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف، ولا يبدو له ما لم يكن عالما به؛ فلا محو فيه ولا إثبات".أ.هـ.
- وقال العلامة السعدي: "يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاءُ منها، وهذا المحو والتغير في غيرِ ما سبق به علمُه، وكتب قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديلٌ ولا تغير؛ لأن ذلك مُحالٌ على الله أن يقع في علمه نقص أو خللٌ، ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. أي اللوح المحفوظ الذي تَرجعُ إليه سائرُ الأشياء، فهو أصلها وهي فروع وشعب، فالتغيُّر والتبديل يقع في الفروع والشُّعَبِ؛ كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل اللهُ لِثُبوتها أسباباً ولمحوها أسباباً، لا تتعَدّى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البِرَّ والصلة والإحسانَ من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصيَ سبباً لمحق بركة الرزق والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحُسْنِ قدرته وإرادته. وما يدبره منها لا يُخالف ما قد علِمه وكتَبَه في اللوح المحفوظ".أ.هـ. (تفسير السعدي).
.. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " "، فأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسَّنه الألباني في (الجامع).
وهو يدل على أن الدعاء، يرد القدر المعلَّق الذي في الصحف التي في أيدي الملائكة؛ لأنَّ الدعاء من قدر الله تعالى، وهو من جملة الأسباب التي لها تأثيرٌ في مسبباتها؛ فإذا أصاب العبدَ ما يكرَهُه، أوْ خَشِيَ ما يُصِيبُه فمن السنة أن يدعوَ الله تعالى أن يرفَعَ عنه البلاءَ، ويَصْرِفَ عنه شَرَّ ما يَخْشَاهُ، وكذلك من أوشَكَ أن ينزل به البلاء فدعا الله، صَرَفَ عنه ذلك، والعبد لا يدري ما كُتِبَ له، ولذلك ينبغي أن لا يتهاوَنَ في الدعاء قبل نزول البلاء أو بعده.
روى الحاكم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، الحديث حسَّنه الألباني في (الجامع)، ومعنى يعتلجان: يصطرعان.
ولا مُخالفة في ذلك أيضا لسبق العِلم، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قُدّر الشِّبَع والرِّيّ بالأكل والشرب، وقُدّر الوَلَد بالوَطْءِ، وقُدّر حصول الزرع بالبذر. فهل يقول عاقلٌ بأن ربْطَ هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلافَ العلم السابق، أو ينافيه بوجه من الوجوه؟!
- قال ابن القيّم في (الجواب الكافي): "إن هذا المقدور قدّر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه؛ فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدورُ وهكذا، كما قدِّر الشّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الوَلَدُ بالوطء، وقُدر حصول الزرع بالبذر...، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدر وقوعُ المدعوّ به لم يصحّ أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب".أ.هـ.
- وقال السندي في شرحه على سُنن ابن ماجه: قال الغزالي: "فإن قيل: ما فائدةُ الدعاء مع أنَّ القضاءَ لا مَرَدَّ له؟ فاعلمْ أنَّ مِنْ جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء؛ فإنَّ الدُّعاءَ سببُ ردّ البلاء، ووجود الرحمة، كما أنَّ البذْرَ سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أنَّ التّرس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء".أ.هـ.
.. وعليه؛ فإنه يمكن تغيير القدر المعلق بأمور وَرَدَتْ بها النصوص؛ كالدعاء، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأعمال البِرّ، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. فإن ما يُقضى به على المرء منه ما يكون واقعاً محتوماً وهو القضاء المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما سبق في علم الله تبارك وتعالى؛ فهذا لا يتبدل ولا يتأخر، وقد قدَّره الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفَ سنةً؛ كما ثبت في صحيح مسلم، قال تعالى: " " [ق: 29].
ولما سمِع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبةَ تقولُ: "اللهم أمتعْنِي بزوجي: رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي: أبي سفيان، وبأخي: معاوية"، قال لها: " " (رواه مسلم).
.. ومنه ما يمكن صرفُه بأسباب، وذلك هو القضاء المعلق، المكتوب في صحف الملائكة فيقع فيه التبديل والتغيير والإثبات والمحو كالزيادة في العمر، فيقال للملك -مثلاً- عمره ستون، فإذا وصل رَحِمَهُ زِيدَ أربعين، ويكون سبق في علم الله أنه سيَصِلُ رحِمَهُ فيُكْتب مائة، فيبدل في صحف الملائكة، ولا يبدل ما في علم الله وكتب في اللوح المحفوظ، وعلى هذا حملوا قولَهُ تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وكذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " " (متفق عليه عن أنس).
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): "قال العُلماءُ: إنَّ المَحْوَ والإثباتَ في صُحُف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف، ولا يبدو له ما لم يكن عالما به؛ فلا محو فيه ولا إثبات".أ.هـ.
- وقال العلامة السعدي: "يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاءُ منها، وهذا المحو والتغير في غيرِ ما سبق به علمُه، وكتب قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديلٌ ولا تغير؛ لأن ذلك مُحالٌ على الله أن يقع في علمه نقص أو خللٌ، ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. أي اللوح المحفوظ الذي تَرجعُ إليه سائرُ الأشياء، فهو أصلها وهي فروع وشعب، فالتغيُّر والتبديل يقع في الفروع والشُّعَبِ؛ كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل اللهُ لِثُبوتها أسباباً ولمحوها أسباباً، لا تتعَدّى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البِرَّ والصلة والإحسانَ من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصيَ سبباً لمحق بركة الرزق والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحُسْنِ قدرته وإرادته. وما يدبره منها لا يُخالف ما قد علِمه وكتَبَه في اللوح المحفوظ".أ.هـ. (تفسير السعدي).
.. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " "، فأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسَّنه الألباني في (الجامع).
وهو يدل على أن الدعاء، يرد القدر المعلَّق الذي في الصحف التي في أيدي الملائكة؛ لأنَّ الدعاء من قدر الله تعالى، وهو من جملة الأسباب التي لها تأثيرٌ في مسبباتها؛ فإذا أصاب العبدَ ما يكرَهُه، أوْ خَشِيَ ما يُصِيبُه فمن السنة أن يدعوَ الله تعالى أن يرفَعَ عنه البلاءَ، ويَصْرِفَ عنه شَرَّ ما يَخْشَاهُ، وكذلك من أوشَكَ أن ينزل به البلاء فدعا الله، صَرَفَ عنه ذلك، والعبد لا يدري ما كُتِبَ له، ولذلك ينبغي أن لا يتهاوَنَ في الدعاء قبل نزول البلاء أو بعده.
روى الحاكم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " "، الحديث حسَّنه الألباني في (الجامع)، ومعنى يعتلجان: يصطرعان.
ولا مُخالفة في ذلك أيضا لسبق العِلم، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قُدّر الشِّبَع والرِّيّ بالأكل والشرب، وقُدّر الوَلَد بالوَطْءِ، وقُدّر حصول الزرع بالبذر. فهل يقول عاقلٌ بأن ربْطَ هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلافَ العلم السابق، أو ينافيه بوجه من الوجوه؟!
- قال ابن القيّم في (الجواب الكافي): "إن هذا المقدور قدّر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه؛ فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدورُ وهكذا، كما قدِّر الشّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الوَلَدُ بالوطء، وقُدر حصول الزرع بالبذر...، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدر وقوعُ المدعوّ به لم يصحّ أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب".أ.هـ.
- وقال السندي في شرحه على سُنن ابن ماجه: قال الغزالي: "فإن قيل: ما فائدةُ الدعاء مع أنَّ القضاءَ لا مَرَدَّ له؟ فاعلمْ أنَّ مِنْ جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء؛ فإنَّ الدُّعاءَ سببُ ردّ البلاء، ووجود الرحمة، كما أنَّ البذْرَ سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أنَّ التّرس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء".أ.هـ.
.. وعليه؛ فإنه يمكن تغيير القدر المعلق بأمور وَرَدَتْ بها النصوص؛ كالدعاء، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأعمال البِرّ، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع الآلوكة.