الرِّياء وحبوط العمل
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
هل الشرك الأصغر (الرِّياء) يحبط العمل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتُغِيَ به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
أما الرِّياء: فمشتقٌّ من (الرؤية)، وهو أن يعمل العمل ليراه الناس، وهو من الشِّرك الخفيِّ؛ وقد روى الإمام أحمد، عن محمود بن لَبِيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرِّياء".
والعمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى - رُدَّ على صاحبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (رواه مسلم من حديث أبي هريرة)، وروى أيضًا من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" .
أما إفساد الرِّياء للعمل وإحباطه للأجر، ففيه تفصيلٌ؛ ذكره الحافظ ابن رجب، فقال:
"واعلم: أن العمل لغير الله أقسام:
فتارةً يكون الرِّياء محضاً؛ بحيث لا يُراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} [النساء: 142].
وهذا الرِّياء المحض لا يكاد يَصْدُرُ من مؤمنٍ في فرض الصلاة والصيام، وقد يَصْدُرُ في الصَّدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يَتعدَّى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيزٌ، وهذا العمل لا يشكُّ مسلمٌ أنه حَابِطٌ، وأن صاحبه يستحقُّ المقت من الله والعقوبة.
وتارةً يكون العمل لله، ويشاركه الرِّياء، فإن شاركه في أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدلُّ على بطلانه وحبوطه أيضاً، كالحديث السابق: "أنا أغنى الشركاءعن الشرك".
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين ليومٍ لاريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ كان أشرك في عملٍ عمله لله - عزَّ وجلَّ، فليطلب ثوابه من عند غيرالله - عزَّ وجلَّ؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وخرَّج النَّسائي بإسناد جيد، عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجرَ والذِّكْرَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيءله". فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغِيَ به وجهه".
ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلافٌ عن بعض المتأخِّرين.
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نيَّة الرِّياء، فإن كان خاطراً دفعه؛ فلا يضرَّه بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط به عمله أم لا يضرُّه ذلك، ويُجازى على أصل نيته؟
في ذلك اختلافٌ بين العلماء من السَّلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجَّحَا أن عمله لا يبطُلُ بذلك، وأنه يُجازى بنيَّته الأولى، وهو مرويٌّ عن الحسن البصري وغيره.
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عملٍ يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحجِّ، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذِّكْر، وإنفاق المال، ونشر العلم؛ فإنه ينقطع بنيَّة الرِّياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نيَّة.
فأما إذا عَمِل العملَ لله خالصاً، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك؛ لم يضرَّه ذلك، وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال: "تلك عاجلُ بُشرى المؤمن" (أخرجه مسلم)، ثم قال رحمه الله: "وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبدالله التُّسْتَرِيِّ: ليس على النفس شيءٌ أشقُّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيبٌ. وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعزُّ شيءٍ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهدُ في إسقاط الرِّياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر!". اهـ باختصار، والله أعلم.