أنا برئ من كل مسلم يقيم بين الكفار!
عبد الحي يوسف
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
أرجو من فضيلتكم توضيح المعنى في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أنا بريء ممن عاش وراء ظهر الكفار"، لزعم أحدهم أن البلاد الأوربية أهل كتاب وليسوا كفاراً، وعليه تجوز الإقامة في ديارهم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فأهل الكتاب كفار بنص القرآن في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، وقوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقوله جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأما الحديث الذي تسأل عنه فقد رواه أبو داود والنسائي عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ؛ فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلُ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: "لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا"، قال أبو عبيد: "أما قوله: لا تراءى ناراهما ففيه قولان: أما أحدهما فيقول: لا يحل لمسلم أن يسكن بلاد المشركين فيكون منهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه، فيجعل الرؤية في هذا الحديث في النار ولا رؤية للنار، وإنما معناه أن تدنو هذه من هذه وكان الكسائي يقول: العرب تقول: داري تنظر إلى دار فلان ودورنا تناظر!! ويقول: إذا أخذت في طريق كذا وكذا فنظر إليك الجبل فخذ عن يمينه".أ.هـ، قال الخطابي رحمه الله تعالى: "فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ: قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَوِي حُكْمُهُمَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ دَارَيْ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُسَاكِنَ الْكُفَّارَ فِي بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً كَانَ مِنْهُمْ حَيْثُ يَرَاهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَتَّسِمُ الْمُسْلِمُ بِسِمَةِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَتَشَبَّهُ بِهِ فِي هَدْيِهِ وَشَكْلِهِ".أ.هـ.
والإقامة بين الكفار ليس لها حكم واحد ينتظمها؛ بل يختلف الحكم باختلاف حال الشخص؛ فمن كان مقيماً بينهم للدعوة إلى الله تعالى وتبيين محاسن الإسلام ودحض شبهات أعدائه؛ فإنه مأجور مشكور، وإقامته بينهم سائغة لما يرجى من تثبيت من هنالك من المسلمين على دينهم، وهداية غيرهم. وكذلك من كان مقيماً بينهم طلباً لعلم ينفع به المسلمين حال عودته، وهو مظهر لشعائر دينه مجانب للفتن فهو مأجور كذلك؛ إذ الأعمال بالنيات.
أما من كان مقيماً بينهم وهو لا يستطيع أن يظهر شعائر دينه، بل يخشى على نفسه في عرض أو مال ولا يُحكِم تربية أولاده بل يتركهم نهباً للأفكار الغازية والتقاليد السيئة فلا يحل له المقام هنالك وهو بإقامته آثم مأزور، أما من كان مقيماً بينهم رضا بحالهم وإعزازاً لما هم عليه من العادات الكفرية والطرق الشركية، وإيثاراً لهم على المسلمين فهذا يخشى عليه من الكفر عياذاً بالله تعالى.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد 3/110): "فَصْلٌ [الْإِقَامَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ] وَمَنَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إقَامَةِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ إذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَلِمَ؟ قَالَ: "لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا"، وَقَالَ: "مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، وَقَالَ: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتّى تَنْقَطِعَ التّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التّوْبَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"، وَقَالَ: "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللّهِ وَتَحْشُرُهُمْ النّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ".أ.هـ.