السفر الذي يشرع فيه قصر الصلاة

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال:

لي أخ كريم مقيم في محافظة المنوفية في جُمهورية مصر العربية، وهو يعمل في شركة كمبيوتر في محافظة القاهرة والمسافة التي بينهما 80 كيلو تقريبًا، فهل له أن يقصر الصلاة ولا يصلي معنا صلاة الجماعة وتفوته صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء؟

رجاء الردّ علينا، وأريد وضوح الإجابة من كافَّة جوانبها حتى يتيسَّر لي الأمر لكي أُفَهِّمه الصواب من القرآن والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:


فإنَّه يُشرع للمسافر سفرًا مباحًا أن يقصر الصلاة في قول عامَّة أهل العلم، واختلفوا في المسافة المُبِيحَة للقصر؛ وقد سبق ذكر بَعْضِ مذاهِبِ العُلماءِ في مسافة القصر في الفَتْوى المنشورة على موقعنا بعنوان: "عامل القطار الذي يسافر يوميًا يقصر الصلاة". 

حيث بيَّنَّا أنَّ أقرَبَ الأقْوالِ لِلصَّوابِ هو قولُ مَنْ لم يُحَدِّدْ في السفر مسافةً معيَّنةً؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فشرع الله تعالى قصر الصلاة للمسافر بمطلق الضرب في الأرض، بغير تقيد بمسافة محددة، ولِما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا خرج مسيرةَ ثلاثَةِ أمْيالٍ أوْ فراسِخَ صلَّى رَكْعَتَيْنِ"، ولأنَّ التحديدَ بابُه التَّوقِيفُ، وَهُوَ غَيْرُ وارد في مَسْأَلَتِنَا، بل الثابتُ أنَّ النَّبيَّ كان يقصر في كل سفرٍ طويل أو قصير - كما في الحديث السابق- ما دام يُسمَّى في عرف الناس سفرًا.

قال شيخ الإسلام في "الفتاوى": "وَالحُجَّةُ مع مَنْ جَعَلَ القَصْرَ وَالفِطرَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِ السَّفَرِ، ولم يَخُصَّ سَفَرًا منْ سَفَرٍ، وَهَذَا القَولُ هو الصَّحِيحُ" اهـ.

وقال الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين: "المسافة التي تقصر فيها الصلاة حدَّدها بعض العلماء بنحو ثلاثة وثمانين كيلو مترًا، وحدَّدها بعض العلماء بِما جرى به العرف أنَّه سفر، وإن لم يبلغ ثمانين كيلو مترًا، وما قال الناس عنه: إنَّه ليس بسفر، فليس بسفر ولو بلغ مائة كيلو متر؛ وذلك لأنَّ اللَّهَ تعالى لم يُحدد مسافة معيَّنة لِجواز القصر، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد مسافة معينة، ولا حَرَجَ عند اخْتِلاف العرف فيه أن يأخذ الإنسان بالقول بالتحديد؛ لأنَّه قال به بعضُ الأئمَّة والعلماء المجتهدين، فلا بأس به إن شاء الله تعالى، أمَّا مادام الأمْرُ مُنضبِطًا فالرُّجوع إلى العُرف هو الصَّواب" اهـ. مختصرًا.

وعليه؛ فيُشرع لهذا الأخ أن يقصر الصلاة؛ لأنَّ المسافةَ بَيْنَ القاهرة والمنوفيَّة تُعَدُّ سفرًا في عرف عامَّة أهْلِ مِصر، ولا شَيْءَ عليه –والحال كذلك- في التَّخلُّف عن صلاة الجماعة – كما يفهم من كلام السائل- وإن كنَّا نَختار له أن يشهد الجماعةَ إن تيسَّر له ذلك؛ لأنه أعظم في الأجر، ولعموم الأحاديث القاضية بفضيلةِ صلاة الجماعة وتَضْعِيف أجْرِها، ولأنَّه أدعى للخشوع وأبعدُ عن وساوس الشيطان، فإذا شهِد معهم الجماعة أتَمَّ خلف الإمام كما هي السُّنَّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن عباس، أنه قيل له: "ما بال المسافر يُصَلِّي ركعتين في حال الانفِراد، وأربعًا إذا يأتَمُّ بِمقيم؟ فقال: تلك السُنَّةُ"؛ أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الصحيحيْنِ من حديث أبي هُريرةَ مرفوعًا: "إنَّما جُعِلَ الإمام ليُؤتَمَّ بِهِ فلا تختلفوا عليه".

وروى مسلم عن نافع قال: "كان ابنُ عمر إذا صلَّى مع الإمام صلاَّها أربعًا، وإذا صلَّى وحده صَلاَّها ركعتين".

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" -تعليقًا على قول الخِرَقِي: "وإذا دخل مع مُقِيم، وهو مسافر، أتمَّ"- : "وجُملة ذلك أنَّ المسافر متَى ائتمَّ بِمقيم، لَزِمَهُ الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة أو أقل؛ قال الأَثْرَم: سألتُ أبا عبدالله عن المسافر، يدخل في تَشَهُّد المقيمين؟ قال: يُصَلِّي أَربعًا، وروي ذلك عنِ ابن عمر، وابنِ عبَّاس، وجَماعة من التَّابعين، وبه قال الثوريُّ، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحابُ الرَّأي"،، والله أعلم.