حكم العادة السرية في رمضان لمن كان جاهلاً بالحكم
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الصيام -
مارستُ العادة السِّريَّة في نَهار رمضان، وأكملتُ صيامي في هذا اليوم، ولكني بعد ذلك علمتُ أنَّها محرَّمة أصلاً في رمضانَ وغيرِه، فماذا عليَّ أن أفعل في هذا اليوم؟ هل أعيد صيامَه؟
مع العلم أني لم أفطر في هذا اليوم الذي مارستُ فيه العادة، مع عدم علمي بأنَّها مُحرَّمة في ذلِك الوقْت.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد سبقَ تفصيلُ الحُكم في فتوى: "حكم الاستمناء في نهار رمضان"، وفتوى: "حكم العادة السرية"، فلترجع إليها.
أمَّا كوْنُ السائلة قدِ ارتكبتْ هذا المحظورَ المفْسِد للصِّيام وهي جاهلة، فالرَّاجح من قولَيْ أهْل العلم - إن شاءَ الله تعالى - أنَّه لا شيءَ عليها إن كانت تجهل هذا الحكم. وقد دلَّت على ذلك أدلَّة كثيرةٌ من الكتاب والسنَّة، عامةً وخاصَّة؛ منها قولُه تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قال الله تعالى: "قد فعلت" (رواه مسلم).
قال النَّووي في "المجموع": "إذا أكل الصَّائمُ، أوْ شرِب، أوْ جَامَع، جاهِلاً بِتحريمِه، فإنْ كان قرِيبَ عهْدٍ بإسْلامٍ، أوْ نشأ ببادِيةٍ بعيدةٍ، بِحيثُ يخْفى عليْهِ كوْنُ هذا مُفطِّرًا - لم يُفْطِرْ؛ لأنَّه لا يأْثمُ، فأشْبه النَّاسِيَ الَّذِي ثبت فِيهِ النَّصُّ، وإِنْ كان مُخالِطًا لِلمُسْلِمِين، بِحيْثُ لا يخْفى عليْهِ تحْرِيمُه - أفْطر؛ لأنَّهُ مُقصِّرٌ". اهـ.
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "الفتاوى الكبرى: "والصَّائم إذا فعل ما يُفْطِر به، جاهلاً بتحْريم ذلك، فهل عليْه الإعادة؟ على قوليْن في مذهبِ أحمد.
وكذلك مَن فعَل محظورًا في الحجِّ جاهلاً، وأصْلُ هذا: أنَّ حكْمَ الخطاب: هل يثبتُ في حقِّ المكلَّف قبل أن يَبْلغه؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ في مذهَبِ أحْمد وغيرِه، قيل: يثبُت، وقيل: لا يثبُت، وقيل: يثبت المبتدأُ دون النَّاسخ.
والأظهر: أنَّه لا يَجب قضاءُ شيءٍ من ذلك، ولا يثبُت الخطاب إلا بعد البلاغ؛ لقولِه تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ولقولِه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ومثْلُ هذا في القُرْآن متعدِّد، بيَّن سبحانه: أنَّه لا يعاقِبُ أحدًا حتَّى يَبْلغه ما جاء به الرَّسول، ومَن علِم أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما جاء به - لم يعذِّبْه الله على ما لم يبلغْه، فإنَّه إذا لم يعذِّبْه على ترْك الإيمان بعد البلوغ، فإنَّه لا يعذِّبُه على بعْض شرائطه إلا بعد البلاغ أوْلى وأحْرى، وهذه سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المستفيضة عنْه في أمثال ذلك.
فإنَّه قد ثبت في الصِّحاح: أنَّ طائفةً من أصحابِه ظنُّوا أنَّ قولَه تعالى: {الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] هو الحبل الأبْيض من الحبل الأسود، فكان أحدُهم يربِطُ في رِجْلِه حبلاً، ثُمَّ يأكل حتَّى يتبيَّن هذا من هذا، فبيَّن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ المراد: بياضُ النَّهار وسوادُ الليل، ولم يأمُرْهُم بالإعادة.
وكذلك عمر بن الخطاب وعمَّار أجْنَبا، فلم يصلِّ عُمر حتَّى أدرك الماء، وظنَّ عمَّار أنَّ التراب يصِلُ إلى حيثُ يصِل الماء، فتمرَّغ كما تتمرَّغ الدَّابَّة، ولم يأمر صلَّى الله عليه وسلَّم واحدًا منهم بالقضاء، وكذلك أبو ذرٍّ: بقِي مدَّة جُنُبًا لم يُصلِّ، ولم يأمرْه صلَّى الله عليه وسلَّم بالقضاء؛ بل أمَرَهُ بالتيمُّم في المستقبل.
وكذلك المستحاضة: قالت: إنِّي أُسْتحاض حيضةً شديدةً تَمنعني الصَّلاة والصَّوم، فأمَرَها صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّلاة زمنَ دمِ الاستِحاضة، ولم يأمُرْها بالقضاء، ولما حُرِّم الكلام في الصَّلاة، تكلَّم معاوية بن الحكم السُّلَمي في الصَّلاة بعد التَّحريم جاهِلاً بالتَّحريم، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ صلاتَنا هذه لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الآدميِّين"، ولَم يأمُرْه بإعادة الصَّلاة.
ولمَّا زِيد في صلاةِ الحضَر حين هاجَر إلى المدينة، كان مَن كان بعيدًا عنْه - مثل مَن كان بمكَّة، وبأرْض الحبشة - يصلُّون ركعتيْن، ولم يأمرهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بإعادة الصَّلاة، ولمَّا فُرِضَ شهْر رمضان في السنة الثَّانية من الهجرة، ولم يبلُغ الخبر إلى مَن كان بأرْض الحبشة من المسلمين، حتَّى فات ذلك الشهْر - لم يأمُرْهُم بإعادة الصيام.
وكان بعضُ الأنْصار لمَّا ذهبوا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة إلى مكَّة قبل الهِجْرة - قد صلَّى إلى الكعبة، معتقِدًا جوازَ ذلك قبل أن يؤمَر باستِقْبال الكعبة، وكانوا حينئذٍ يَستقبِلون الشام، فلمَّا ذكَر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم أَمَرَه باستِقْبال الشَّام، ولم يأمرْهُ بإعادة ما كان صلَّى؛ وثبت عنه في الصحيحَين: أنَّه سُئِلَ -وهو بالجعرانة- عن رجُل أحرم بالعُمرة، وعليه جبَّة، وهو متضمِّخ بالخلوق، فلمَّا نزل عليه الوحْي قال له: "انزع عنْك جبَّتَك، واغسِلْ عنك أثر الخلوق، واصْنَع في عُمْرَتِك ما كنت صانعًا في حجِّك"، وهذا قد فعَلَ مَحظورًا في الحجِّ، وهو لبس الجبَّة، ولم يأمُرْه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك بدَمٍ، ولو فعل ذلِك مع العِلْم، لَلزِمَه دم.
وثبت عنه في الصَّحيحيْن: أنَّه قال للأعْرابيِّ المُسيءِ في صَلاتِه: "صلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ"، مرَّتين أو ثلاثًا، فقال: والذي بعثَك بالحقِّ، ما أُحْسِن غير هذا، فعلِّمْني ما يُجزيني في الصَّلاة، فعلَّمه الصَّلاة المُجْزِية، ولم يأمرْه بإعادة ما صلَّى قبل ذلك، مع قولِه: "ما أُحْسِن غير هذا"، وإنَّما أمره أن يُعيدَ تلك الصَّلاة؛ لأنَّ وقتها باقٍ، فهو مُخاطَبٌ بِها، والتي صلاَّها لم تبرأْ بِها الذِّمَّة.
فهذه نصوصُه صلَّى الله عليه وسلَّم في مَحظورات الصَّلاة، والصِّيام، والحجِّ مع الجهل فيمن ترك واجباتِها مع الجهِل". اهـ. مختصرًا.
وقال ابن القيِّم في "إعلام الموقِّعين" (4/66): "وقدْ عفا عمَّن أكل أو شرِب في نَهارِ الصَّوم، عمدًا غيرَ ناسٍ، لمَّا تأوَّل الخيطَ الأبيض والخيط الأسود بالحبْلَين المعروفيْن". اهـ.
وسُئِل الشيخ ابنُ عثيمين رحِمه الله تعالى عن شابٍّ استمْنى في رمضان جاهلاً بأنَّه يفطر، وفي حالة غلبت عليْه شهوتُه، فما الحكم؟
فأجاب: "الحكْمُ أنَّه لا شيء عليه؛ لأنَّنا قرَّرنا -فيما سبق- أنَّه لا يفطرُ الصَّائِم إلا بثلاثةِ شروطٍ: العِلم، والذِّكْر، والإرادة".
هذا؛ وإن كان الأحوَطُ قضاءَ ذلك اليوم،، والله أعلم.