مسائل متعددة في الصوم
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الصيام -
اذكُر كلامَ الشَّيخِ مُحمَّد العُثَيمين رحِمه الله حول المريض الذي يصومُ، والصَّوم يشقُّ عليْه؟
إذا أعسرَ المريضُ الذي لا يُرجَى برؤُه أوِ الكبيرُ عن الإطعام، فماذا يَجب عليْه؟
هل يصحُّ صومُ مَن أُغْمِي عليْه جَميع النَّهار؟
مَن أُغْمِي عليْه في المساء، وأفاق بعدَ طُلوع الشَّمس - ماذا يَجب عليْه؟
هل يصحُّ صوْمُ المَجنون؟ مع ذِكْر العلَّة والدَّليل.
ما السَّعوط؟ وهل قطْرة الأنفِ مفطِّرة؟
هل القيء مفطِّر؟ ومتى يكونُ مفطِّرًا على رأْيِ الشَّيخ محمد العُثيْمين - رحمه الله؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فيقول فضيلة الشَّيخ العثيمين رحِمه الله في حكم صيام المريض: "المريضُ الَّذِي يُرجَى برءُ مرضِه، وله ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ لا يشقَّ عليه الصومُ ولا يَضُرَّه، فيجبُ عليه الصومُ؛ لأنه ليس له عُذْرٌ يُبِيح الفِطْرَ.
الثانيةُ: أنْ يشقَّ عليه الصومُ ولا يضُرَّه، فيفطرُ؛ لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، ويُكْره له الصَّوم مع المشقَّةِ؛ لأنَّه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: "إنَّ الله يُحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه، كما يكرهُ أن تُؤتى معْصِيتُه" (رواه أحمدُ، وابنُ حبَّان وابنُ خُزَيمة في صحيحَيْهِما).
الثالثةُ: أنْ يضُرَّه الصومُ، فيجبُ عليه الْفطرُ، ولا يجوزُ له الصومُ؛ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29]، وقولِه: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، ولقوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليْه وسلَّم: "إنَّ لِنفْسكَ عليْك حقًّا" (رواه البُخاري)، ومن حقِّهَا أنْ لا تضرَّها مع وجود رُخصةِ الله سبحانه، ولقولِه صلى الله عليه وسلَّم: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ" (أخرجه ابنُ ماجه والحاكم، قال النَّوويُّ: وله طرقٌ يقوِّي بعضُها بعضًا).
وإذا حدَث له المرَضُ في أثناءِ رمضانَ -وهو صائمٌ- وشقَّ عليه إتمامُه - جاز له الفِطرُ؛ لوجودِ المُبيح للفطر.
وإذا بَرَأَ في نهارِ رمضانَ -وهو مُفْطر- لَم يصحَّ أنْ يصومَ ذلك اليَوْمَ؛ لأنَّه كان مُفطِرًا في أوَّلِ النَّهار، والصومُ الواجب لا يصحُّ إلاَّ مِنْ طُلوع الفَجْر، ولكِنْ هل يلْزَمه أنْ يُمسِكَ بقيَّة يومِهِ؟ فيه خلافٌ بَيْنَ العُلماء، سبق ذِكْرُه في المسافرِ إذا قدِم مُفطِرًا.
وإذا ثبت بالطِّبِّ أنَّ الصومَ يجلِبُ المرَضَ، أو يؤخِّر بُرأَه - جاز له الفطرُ؛ مُحافظةً على صِحَّتِه، واتِّقاءً للمَرَض، فإنْ كان يُرْجى زوالُ هذا الخَطر، انْتظَرَ حتَّى يزولَ، ثُمَّ يقضيَ ما أفْطر، وإنْ كان لا يُرْجى زوالهُ، فحكمه حُكمُ القسمِ الخامِسِ: يُفطِرُ ويُطْعِمُ عنْ كلِّ يومٍ مسكينًا".اهـ.
أمَّا إذا أعسرَ المريضُ الذي لا يُرْجى برؤُه أو الكبيرُ عنِ الإطعام، فذهبَ الشَّيخ ابنُ عُثيمين في "الشَّرح الممتع" إلى أنَّه تسقُط عنْهُما الكفَّارة؛ لأنَّه لا واجبَ مع العجْز، والإطعامُ هُنا ليس له بدل.
أمَّا منِ استغرق إغماؤُه اليومَ كلَّه -من طلوع الفجْر إلى غروب الشَّمس- فإنَّه لا يصحُّ صومُه، وعليْه قضاء هذا اليَوْم، أمَّا إذا أفاق أثناءَ النَّهار، فإنَّ صوْمَه صحيح؛ قال الإمامُ الشَّافعي في "الأم": "وإذا أُغْمي على رجُلٍ، فمضى له يومٌ أو يومانِ من شهر رمضان، ولم يكُن أَكَل ولا شَرِب - فعليْه القضاء، فإنْ أفاق في بعْضِ النَّهار، فهُو في يومِه ذلك صائمٌ".اهـ.
وقال ابن قدامة في "المغني": "متَى أُغْمِي عليه جَميع النهار، فلم يُفِقْ في شيء منه - لَم يصِحَّ صومُه في قول إمامِنا والشَّافعي، ومتى أفاق المُغْمَى عليْه في جزء من النَّهار، صحَّ صومُه، سواءٌ كان في أوَّله أو آخِره".اهـ باختِصار.
قال الشَّيخ العثيمين رحِمه الله: "إذا أُغْمِي على الإنسان في شهر رمضان، فإنَّه يقضي الأيَّام التي أُغْمِي عليْه فيها؛ لأنَّه لم يَحصل منه نيَّة، لكن إذا أُغْمِي عليْه في أثناء النَّهار، صحَّ صومُه.
أمَّا مَنْ أُغْمِي عليه، وأفاق بعد طلوع الشمس ولم يكن له نية سابقة - فعليْه قضاءُ ذلك اليوم؛ لأنَّه لابد من تَبييت النيَّة؛ لحديث ابن عمر، عن حفصة رضي الله تعالى عنهم عن النَّبيِّ صلى الله عليْه وسلَّم أنَّه قال: "مَن لم يُجْمع الصِّيام قبل الفَجْر، فلا صِيامَ له"، قال ابنُ قدامة في "المغني": مسألة: ولا يُجزئه صيامُ فرْضٍ حتَّى يَنْوِيَه أيَّ وقتٍ كان من اللَّيل، وجُملته أنَّه لا يصحُّ صومٌ إلا بنيَّة إجْماعًا، فرضًا كان أو تطوُّعًا؛ لأنَّه عبادةٌ مَحضة، فافتقر إلى النيَّة كالصلاة، ثمَّ إن كان فرضًا: كصيام رمضانَ في أدائِه أو قضائه، والنَّذْرِ، والكفَّارة - اشتُرِط أن ينويه من اللَّيْلِ عند إمامنا، ومالكٍ، والشَّافعي".اهـ.
أمَّا المجنونُ، فلا يَجبُ عليْه الصَّوم؛ لأنَّه فاقدٌ للعقْل، والعقْلُ من شُروط التَّكليف باتِّفاق الفقهاء؛ لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثٍ: عن الصبيِّ حتَّى يبلُغ، وعن النَّائم حتَّى يستيْقِظ، وعن المجنون حتَّى يُفيق" (رواه أبو داود والنَّسائي، وصحَّحه الألباني)، وهو دليلٌ على أنَّ فاقد العقل غيرُ مكلَّف؛ قال الإمام الجصَّاص في "أحكام القُرآن" عند قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]: "المراد بشهود الشَّهر: كونُه فيه من أهل التَّكليف، ومَن ليْس من أهلِ التَّكليف غيرُ لازمٍ له صومُ الشَّهر".اهـ. سُ
ئِلَ الشَّيخُ العثيمين رحِمه الله: هل يَجبُ الصِّيام على فاقِدِ الذَّاكرة، والمعتوه، والصَّبيِّ، والمجنون؟
الجواب: "إنَّ الله سبحانه وتعالى أوْجَب على المَرْء العباداتِ، إذا كان أهلاً للوُجوب، بأن يكونَ ذا عقْلٍ يُدرك به الأشياء، وأمَّا مَن لا عقل له، فإنَّه لا تلزَمُه العبادات، وبِهذا لا تلزم المجنون، ولا تلزَمُ الصَّغير الذي لا يُميِّز، وهذا من رحْمة الله سبحانه وتعالى ومثله المعتوه الذي أُصيب بعقْلِه، على وجْهٍ لَم يبلغ حدَّ الجنون، ومثله أيضًا: الكبير الذي بلغَ فقْدان الذَّاكرة - كما قال هذا السَّائل- فإنَّه لا يَجب عليْه صومٌ ولا صلاة ولا طهارة؛ لأنَّ فاقد الذَّاكرة هو بِمنزلة الصَّبيِّ الَّذي لم يُميِّز، فتسقُط عنه التَّكاليف، فلا يُلْزَم بِطهارة، ولا يُلْزم بِصلاة، ولا يُلزم أيضًا بِصيام".
أمَّا السَّعوط، فنوعٌ من التَّبغ يُسحَق ويستنْشِقُه الشَّخص، فيدخُل في الرِّئتيْن، ويسمَّى النُّشوق والنُّشوغ، والدَّواء الذي يُستنْشق يسمَّى السَّعوط.
أمَّا قطرةُ الأنف، فليستْ بِمُفطِّرة إلا إن وصلتْ للحَلْقِ، وابتلَعَها الصَّائم، أمَّا إن بصقَها الصَّائم بعدما تَمرُّ من الحلق، فلا يُفطر، وقد سبق التفصيلُ في فتوى: "قطرة العين والأنف والحقنة الشرجية للصائم" أمَّا القَيْءُ، فلا يفسد الصَّوم، إن لم يتعمَّدْه الإنسان -في قول عامَّة أهل العلْم- ولكن إن تعمَّدَه، أفطر وعليْه القضاء؛ لِما رواه التِّرمذي، عن أَبي هُرَيْرَةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ قالَ: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ -أي: غلبَه- فلَيْسَ علَيْهِ قَضَاءٌ، ومَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا، فَلْيَقْضِ" (صحَّحه الألباني في صحيح الترمذي).
وسُئل الشَّيخ ابن عثيمين في "فتاوى الصيام" عن القَيء في رمضان: هل يفطِّر؟
فأجاب: "إذا قاء الإنسانُ متعمِّدًا فإنَّه يفطر، وإن قاء بغيْرِ عَمْدٍ، فإنَّه لا يفْطِر، والدَّليل على ذلك حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه ..." ثم ذكر الحديثَ المتقدِّم،، والله أعلم.