حكم ترديد بعض القرآن وترك الباقي
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
لدي عادةٌ أُمارسها يوميًّا، وهي عادة طيبة ولله الحمد وهِي ترديد آياتٍ منَ القُرآن الكريم مِمَّا أحْفَظُ، وأداوم على ترديد قصار السور في أوقات الفراغ وعند قِيادة السيارة وغيرها من الأماكن، وأستمتِعُ بترديد الآيات وذلك بِتَرتيلها وتقليدِ مشايخ القُرَّاء، لكن هُناك تقصيرٌ منِّي في إمساك المُصحف الشَّريف والقراءة منه، وقراءتي فيه ليست بشكل مستمر بعكس الآيات التي أردِّدُها صباحَ مساءَ في كل وقت، فسؤالي: هل هذا الذي أفعله حسنٌ أم ماذا؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فتلاوةُ القُرآن عبادةٌ عظيمة لَها مكانةٌ عند الله تعالى؛ لذلك أمر اللهُ تعالى رسولَه مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بها؛ قال تعالى حكاية عنه صلى الله عليه وسلم: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 92]، وقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، وقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27]، ولقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم: "اقرأوا القُرآن، فإنَّه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة" (أخرجه مسلم).
وروى الترمذي وغيره أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "مَنْ قرأَ حَرْفًا مِنْ كِتاب اللَّه فَلَهُ به حسنةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمثالِها، لا أقولُ ألم حَرْف، ولكنْ ألف حرفٌ ولام حرفٌ وميم حرف".
ورَوَى أحْمَدُ وأبو داودَ والتِّرمذي عن عبدالله بن عَمْرٍو رضي الله عنْهُما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "يُقالُ لقارِئِ القُرآن: اقْرأْ وارْتَقِ ورَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّل في الدنيا؛ فإنَّ منزِلَتَكَ عند آخِر آيةٍ تقرؤُها" (صححه الألباني).
والمقصودُ بقارئ القُرآن في الحديث: هو الذي كان يتلوهُ في الدُّنيا حقَّ تِلاوتِه ويتدبَّر في معانيه، ويعمل بأحكامه: فيأتَمِرُ بأوامِرِه ويزدَجِرُ عن نواهيه، فهذا قارئُ القرآن الذي يقرؤُه رغبةً فيه.
قال الإمامُ النَّوويُّ رحِمه الله: "اعْلَمْ أنَّ تِلاوَةَ القُرآن هي أفضَلُ الأذْكار، والمطلوبُ القِراءة بِالتَّدبُّر …"، وقال: "ينبَغِي لِلقارئ أن يَكونَ شأنُه الخشوع والتدبُّر والخضوع، فهذا هو المقصودُ المطلوب، وبه تَنْشَرِح الصُّدور وتستنيرُ القُلوب، ودلالَتُه أكثَرُ من أن تُحصَر، وأشهَرُ من أن تُذْكَر، وقَدْ باتَ جَماعةٌ من السَّلف يتلُو الواحِدُ مِنْهُم آيةً واحدةً ليلةً كاملة ومعظم ليلة، يتدبَّرها عند القراءة".
هذا، وقد فضَّل كثيرٌ من العُلماء القِراءةَ من المُصْحَفِ على القِراءة عن ظَهْرِ قلب، قال ابن حجرٍ في "فتح الباري": "وقد صرَّح كثيرٌ من العلماء بأنَّ القراءة من المصحف نظرًا، أفضلُ من القراءة عن ظهر قلب" اهـ.
قال النووي رحمه الله في "شرح المهذَّب": "القراءة في المُصحف أفضلُ من القِراءة عن ظهر قلب؛ لأنَّها تجمع القراءةَ والنَّظر في المصحف وهو عبادة أخرى" اهـ.
وقدْ رُوِيَتْ آثارٌ عنْ بَعْضِ السَّلف فيها الحثُّ على النَّظر في المُصحف؛ فَعَنِ ابْنِ مسعودٍ قال: "أديموا النظر في المصحف"؛ رواهُ أبو عبيدٍ في فضائِلِ القُرآن، وابْنُ أبِي شيبة في "مصنَّفه" والبيهقي في "شعب الإيمان" والطبراني في "المعجم الكبير"، وقال عنه ابنُ حجر في "فتح الباري": إسنادُه صحيح.
والنظر المذكور في هذا الحديث يُقصَدُ به القراءةُ لا مجرد النظر، كما بين ذلك العلماء؛ قال المُناوي في "فيض القدير": النَّظرُ في المصحف، أي: القراءة فيه نظرًا، وقال رحمه الله: فإنَّ القارئ في المُصحف يَستعْمِلُ لسانه وعينه فهو في عبادتَيْنِ، والقارئُ من حِفْظِهِ يقتصِرُ على اللِّسان.
وعليه؛ فقراءةُ قِصارِ السُّور فيها أَجْرٌ عظيمٌ وفَضْلٌ كبير، ولكنَّ الأفضَلَ والأكمَلَ أجرًا أن تَقْرَأَ في أوقاتٍ أُخْرَى من المُصحف مع قراءَتِكَ عن ظهْرِ قلبٍ؛ وذلك لتتمكَّن من قِراءة القرآن كله قراءةً صحيحةً فيها تدبُّر، فالقُرآن كلُّه مأمورٌ بقراءته، وكله خير، وأيضًا لِكَيْ يُكْتَبَ لك أجرُ النَّظر في المصحف.
واللهَ نسألُ أن يرزقَكَ حِفْظَ كتابِه الكريم، وأن يرزُقَك تدبُّره والعملَ به, وأن يكونَ حُجَّةً لك لا عليك،، والله أعلم.