حكم مرتكب الكبيرة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
مَن يفعلُ الكبيرةَ هل يدخل النار خالدًا فيها؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِن مُعتقَد أَهْلِ السُّنَّة والجماعة في أصحاب الكبائِر: أنَّ مَن تاب من فِعْل الكبائِرِ تابَ الله عليه، ولم يؤاخذْ بِها، لأنَّ التَّوبة تَجُبُّ ما قبلَها، والتَّائِب من الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ له؛ قال تَعالى في سورةِ مَريم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، وقال تعالى -بعد أن ذَكَر كبائِرَ الذُّنوب من شرْكٍ وقتلٍ للنَّفس المُحرَّمة وزنًا وما يستحقُّه فاعلوها إن لم يتوبوا- قال: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71].
هذا في حقِّ التَّائب من الذنب، وكذلك مَنْ أُقِيمَ عليه الحدُّ بسببه.
وأمَّا مَن ماتَ مُصِرًّا على فِعْلِ الكبائِر -والعياذُ بِالله- وهو مِنْ أهلِ التَّوحيد، فهو تَحت مشيئةِ الله إنْ شاءَ عذَّبه ثُم يُخرِجُه من النار ويُدخِلُه الجنة، وإن شاءَ غَفَرَ له وأدخله الجنة بدون سابقة عذاب، والأدلَّة على ذلك كثيرةٌ:
منها قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال سبحانه: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21].
ومنها أحاديثُ الشَّفاعة المتواتِرة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "شفاعتي لأهْلِ الكبائِر من أُمَّتي" (أخرجه الترمذي وصححه).
ومنها حديثُ أبي ذَرٍّ في الصحيحين قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "أتانِي جِبريلُ فبشَّرني أنَّه مَنْ ماتَ لا يُشْرِك بِالله شيئًا دَخَلَ الجنَّة، قُلْتُ: وإنْ سَرَقَ وإن زَنَى؟ قال: وإن سَرَقَ وإنْ زَنَى".
ومنها حديثُ عبادةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "تُبايعوني على أن لا تُشرِكوا بالله شيئًا ولا تَسرِقُوا ولا تَزْنُوا ولا تَقْتُلوا أولادَكم وقرأَ آيةَ النساء [أي آية بيعة النساء في سورة الممتحنة]، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا فَسَتره اللَّهُ فأَمْرُه إلى الله؛ إن شاءَ عاقَبَهُ وإن شاءَ عفَا عنْهُ" (متَّفق عليه).
ومنها ما رواهُ مُسلمٌ عن أبي هُريْرة، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما مِن صاحبِ كنْزٍ لا يؤدِّي زكاتَه إلا أحْمِيَ عليهِ في نار جهنَّم، فيجعلُ صفائحَ فيُكْوَى بها جنْباهُ وجبينُه، حتى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِباده في يومٍ كان مِقداره خَمسين ألفَ سنة، ثُمَّ يُرَى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار"، ثُمَّ ذكر صاحبَ الإبِل وصاحبَ الغَنَم الذي لا يؤدِّى زكاتَها، وقال أيضًا: "ثُمَّ يُرَى سبيلَهُ إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار" ومنع الزكاة من كبائر الذنوب.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: "اتَّفق أهْلُ السُّنَّة والجماعة أنَّه يشفع في أهل الكبائر، وأنَّه لا يُخَلَّد في النَّار من أهل التَّوحيدِ أحد". انتهى.
وفي "فتاوى اللجنة الدائمة": "صاحبُ الكبيرة متوعَّد بالعذاب كقاتل نفسِه، إلا أنَّه لا يُخلَّد في النار خلودَ الكفَّار كغَيْرِه من أصحاب الكبائر، وما ذُكِرَ في الحديث من الخلود فهو خلود مؤقَّت، جمعًا بين الأدلَّة الشرعيَّة".
وفي فتوى أخرى لَها: "عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ مَن مات من المسلمين مُصرًّا على كبيرةٍ من كبائِرِ الذُّنوب - كالزِّنا والقَذْفِ والسَّرِقَة- يكونُ تَحتَ مشيئة الله سبحانه؛ إنْ شاءَ غَفَر له، وإنْ شاءَ عذَّبه على الكبيرة التي مات مُصرًّا عليها، ومآلُه إلى الجنَّة"،، والله أعلم.